لا يختلف أثنان على أن الصمت في زمن سلطة المعلومة، والفضاء المفتوح، أصبح أسوأ منغصات الاستقرار بشكل عام، والاقتصادي بشكل خاص. هذا ما لاحظه كل من تابع الأزمة التي عصفت بسوق المال السعودي مؤخراً. ربما أن هناك الكثير من العوامل التي أدت إلى الانهيار، بعضها نملك السيطرة عليها، والبعض الآخر مرتبط بكون اقتصادنا ذا علاقة قوية بالأوضاع الاقتصادية العالمية.
يقولون: إن الصمت هو السبب الرئيس، الذي يجعل الإنسان يلجأ إلى النوايا ليحكم عليها. وغني عن القول أن من ينطلق في رؤاه من الحكم على النوايا لا يمكن أن يكون علمياً ولا منطقياً. غير أن الإنسان عندما لا يجد أمامه إلا كتلة من الغموض، فسوف يلجأ تلقائياً إلى تلمس مقاصد الشخص الذي أمامه، باحثاً عن الأسباب التي أدت به إلى أن يجعل من السكوت والسرية درعاً يتحصن فيه. وفي ظل غياب المعلومة، أو التكتم عليها، فإن ردة الفعل التلقائية هي الشك في أن وراء السرية سبباً يجعل الإفصاح أمراً مضراً نظراً لما ينطوي عليه من أبعاد قد لا تصب في مصلحة صانع القرار. لتبدأ مرحلة الخوض في البحث عن إجابة للسؤال: لماذا تم إقصاء الإفصاح، والتدرع بالسرية؟
إن من تابع أزمة سوق المال يجد أن البطء في التعامل بشفافية مع هذه الأزمة من قبل المسؤولين عن الشأن المالي والنقدي قد زاد من تفاقم الأزمة، وساهم في تدهور الأوضاع في السوق المالي، رغم أن المملكة على وجه الخصوص، كانت في وضع اقتصادي قوي، وأوضاع بنوكها ومؤسساتها المالية والاستثمارية أفضل من أي وقت مضى. بمعنى آخر: كان الإفصاح والشفافية بمثابة عامل في غاية الأهمية والمساعدة للتقليل من التبعات والآثار السلبية للأزمة، التي يمر بها الاقتصاد العالمي على اقتصاد المملكة، فلماذا السرية إذن، وما هي مسوغاتها؟
الشفافية اليوم لا تعني أن يخرج مسؤول في وسائل الإعلام، ويشيد بقوة ومتانة الاقتصاد، ويتعامل مع المواطنين وكأنه جهينة التي عندها الخبر اليقين، دون أن يدعم أقواله بالأرقام، والإحصائيات. فالأرقام ndash; كما يقولون ndash; لا تكذب، والإحصاء دليل علمي لا يستطيع أحد أن يُشكك فيه. ومن أجل أن يطمئن الناس يجب أن تقدم ما يدعم قناعتهم. ودون أن نتعامل مع هذه الأساسيات من هذا المنطق، فإنه لا يمكن أن يكون للشفافية أثرٌ إيجابي في زمن أصبح فيه المحللون والمراقبون والمتابعون يمحصون كل عبارة، ويدققون في كل معلومة، ويربطون ما تقول بالواقع الذي يتعايشون معه، فإما أن يكونوا معك، أو يقفون ضدك.
وللتدليل على ما أقول ndash; على سبيل المثال وليس الحصر - أسوق تصريح الدكتور محمد الجاسر، نائب محافظ مؤسسة النقد في لقائه مع قناة quot;العربيةquot; في 8 أكتوبر 2008، والذي تناقلته وكالات الأنباء ووسائل الإعلام، الذي فيه نفى وجود أيَّ نقص في السيولة، وأن الأوضاع المالية والنقدية المحلية لا تنطوي على أي مبرر لإجراءات استثنائية، دون أن يدعم أقواله بأي أرقام تؤكد ما يقول. لنفاجأ بعد مرور أربعة أيام على لقائه مع quot;العربيةquot; بإعلان من المؤسسة يقضي بخفض سعر إعادة الشراء (الريبو) بخمسين نقطة، وتخفيض الوديعة النظامية على البنوك العاملة في السعودية إلى 10 % من الودائع التي تحت الطلب مقارنة بـ 13 % سابقاً. ولا أعتقد أن أحداً يختلف معي على أن إجراء كهذا يدل دلالة أكيدة على أن ثمة نقصاً في السيولة؛ وهو بكل تأكيد إجراء استثنائي لم تستخدمه مؤسسة النقد منذ عشرين شهراً. ومثل هذا الإجراء يؤكد احتمالين لا ثالث لهما؛ إما أن نائب المحافظ لم يكن يعلم عن هذا القرار، وبالتالي لم يكن مطلعاً على حقيقة وجود نقص في السيولة لدى البنوك، أو أن معاليه يعتقد أن بإمكانه أن يخفي قراراته عن المعنيين بهذا القرار، وأيّاً من الاحتمالين، فإنه يعني أننا مازلنا بعيدين جداً عن التعامل مع متطلبات الشفافية، كما يجب أن يكون التعامل. كما لا أحتاج إلى دليل أوضح من هذا الدليل يؤكد أن الإجراءات التي اتخذتها مؤسسة النقد هي في جوهرها تبدو (مخالفة) لتطمينات معاليه. ومن هنا يأتي السؤال الأهم حول مدى مصداقية تطميناته حول هذه الأزمة وتداعياتها؟ وفي ذات اللقاء ndash; أيضاً - أكد معاليه: (على أن استثمارات الحكومة السعودية موجودة في محافظ منخفضة المخاطر، وليس لها استثمارات مباشرة في البنوك، وأنها تعتمد على محافظ متدنية المخاطر يسهل تسييلها حتى وان كانت العوائد منخفضة) . هذا التصريح - الذي نتمنى صحته لمصلحة الوطن ورفاهية المواطن- لا يملك المراقب الذي اهتزت ثقته في تصريحات قيادات مؤسسة النقد، إلا التوجس وربما التشكيك فيه، الأمر الذي يُحتم القول إن من واجب نائب المحافظ أن يدعم تصريحه بالأرقام والإحصائيات والتقارير الموثقة، بدلاً من الكلام الإنشائي الفضفاض، الذي لا قيمة له في مثل هذه الأزمات.
الشفافية إذا لم تكن مقرونة بالدقة في المعلومة، والتعامل مع الإعلام بحذر وحصافة، قد تكون عامل هدم لا عامل بناء. إضافة إلى اهتزاز المصداقية في السياسة النقدية التي هي أُس التعامل الاقتصادي اليوم. فعلى سبيل المثال ndash; مرة أخرى ndash; سبق لمحافظ مؤسسة النقد قبل قرابة السنتين أن صرح قائلاً: ( ساما مستعدة لمعالجة أي أثار سلبية للهبوط الحاد لأسعار الأسهم في حالة حدوثه)، وكانت نتيجة هذا التصريح أن فئات كثيرة من المجتمع اندفعت لسوق الأسهم ثقةً بمعاليه، وبالمؤسسة التي يتربع على هرمها، فكان نتيجة ذلك خسارة فادحة للجميع، كما هو معروف.
والذين يتعاملون في الشأن الاستثماري من المواطنين يبدون قلقاً يتزايد مع مرور الوقت خوفاً من أن تمتد أزمة سوق المال إلى باقي مفاصل الاقتصاد الوطني. ومن أجل محاصرة هذا الاحتمال وتطويقه، لا بد من المبادرة إلى التعامل مع هذه الأزمة بتكريس الثقة في التعاملات النقدية، بتوظيف الشفافية والإفصاح كعامل أول ورئيس نتكئ عليه جميعاً - مسؤولون ومواطنون - لتجاوز هذه الأزمة الخانقة. ودون ذلك يجب أن نتوقع أزمات متلاحقة، لن تقف فقط في سوق المال، وإنما ستتسع لتشمل كل مناحي الدورة الاقتصادية في البلاد.