ليس غريباً أن تنتخب أمريكا رئيساً، إنما ثمة شيء فريد في هذه الانتخابات. ببساطة، السود يقودون الولايات المتحدة الأمريكية، أعظم أمة في في العصر الحديث. هذه هي عظمة الديمقراطية، هذا مغزى أن يكون الإنسان حرّ الإرادة. الرجل الأبيض والمرأة البيضاء يدوسان على ميراث التمييز العنصري بقدميهما ويمضيان ومعهما هدف واحد هو أن ينتخبا: أوباما. وعلى الرغم من لون البشرة، والأصل الإسلامي كما قيل، فإن أكثر من نصف الشعب الأمريكي اختار الرجل الأسود ليجلو الأفق الأمريكي الأسود ببياض الحلم والأمل. وهكذا تحولت الفرضية الانثروبولوجية والاستعمارية في أن السود ndash; ومعهم كل الشعوب البدائية طبعاً- غير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم إلى فرضية ذات معنى آخر بعد فوز باراك أوباما وهو أن السود يقودون أمريكا؛ أي يقودون العالم. نظرية السيد والعبد انقلبت في أمريكا إلى: الإنسان، وتمزّق معها إلى الأبد ميراث التمييز العنصري.
لم ينتخب الأمريكيون أوباما عشقاً للون بشرته؛ بل لأن أمريكا تكاد تغرق في تركة ثقيلة من الأزمات والمشاكل. وهكذا اندفع الأمريكيون إلى صناديق الاقتراع بدافع إنقاذ بلادهم من معضلة مصيرية. ومع أن السود ازدوجت عندهم المشاعر إذ ذهبوا إنقاذا لبلادهم وإنقاذا لإنسانيتهم التي لم تنصف طوال تاريخ الدولة الأمريكية، لكن يبقى الهدف الأول لهذه الانتخابات هو: أمريكا الوطن، أمريكا الوطن الرمز الذي يستحيل تفسيره. الله والوطن، كل تفسير لهما إنما هو تقليل لقيمتهما غير المحدودة بحدّ. هما نقيضا التفسير والتحديد. وتلك هي ميزة العظمة، أنهما كلما وضعتهما في خانة وجدتَ الخانةَ جزءاً منهما. وهذه حالة لا يمكن أن ندركها نحن العرب؛ لأننا جعلنا الوطن جزءاً من الحاكم أو بالأحرى ذوبنا الوطن تماماً في الحاكم. وفي مقابل ذلك، على مستوى العقيدة، ذوبنا الله في: الخليفة، الإمام المفتي، رجل الدين عموماً، وأخيراً القائد السياسي الإسلامي. كل ذلك، بسبب افتقارنا إلى التحرر الشخصاني ( أعني كامل الشخصية عقلاً وروحاً وجسداً). على حين أن هذه المفاهيم لا تختلط مع بعضها لدى الإنسان الحرّ. كل مفهوم قد حقق ذاته ومعناه عبر إرث تاريخي وثقافي ووجودي طويل.
لكنّ في هذه الانتخابات ثمة درساً، إذ انتصرت وتفوقت الديمقراطية على عِقْدتَيْ: العِرْق، والعقيدة الدينية، وتلك من مزايا العقل المتحرر من العبودية. ومن المؤسف، أنه في الوقت الذي يتحقق هذا الانتصار المبدئي للديمقراطية التي تُوصَف عادة في الخطاب الإسلامي المعاصر بـ: الكفر، فإن تراجعاً مستمراً للقيم الإنسانية يهيمن على الحياة العربية والإسلامية عموماً. الخطاب الإسلامي الذي تؤسسه قيادات إسلامية سياسية أو شرعية أو فكرية، إنما هو خطاب لم يصل بعد إلى لحظة وعي أن يتحرر الإنسان من العبودية. فَهْمُ الدين؛ الإسلامي تحديداً، على أنه محض عبودية، هو القاعدة التي تتناقض تماماً مع جوهر الإنسانية الذي يفترض أنه لا يتعارض مع جوهر الدين. أوباما خاطب مؤيديه بعد فوزه: أمريكا تتغير اليوم؛ بمعنى أن العقل الإنساني الحرّ سجّل انتصاراً على عقدة تاريخية لم تكن تتناسب مع روح التقدم والرقي العقلي الذي أحرزته البشرية طوال تاريخ كفاحها الوجودي. كأنه يقرر أن أمريكا تكتشف، أو أن أمريكا تؤسس معياراً، أو تصكّ وثيقة من وثائق حقوق الإنسان.
على الرغم من أني شخصياً، أعتقد بأن ثمة عوامل خارجية ساعدت باراك أوباما على الفوز، لكن مع ذلك فإنه كان شخصاً واقعياً، وذا بلاغة تتقمص روح المنصب الرئاسيّ بطريقة آسرة، وتتجذّر مع المشكلات التي ترعب المواطن الأمريكي. كان يوصل أفكاره بهدوء ويذيلها بابتسامة ربما هي الوعد بالأمل والثقة. هذا العامل الشخصي، الذي عززه أوباما بفكر وسطي غير خاضع مرجعياً إلى اليمين أو اليسار، قد ساعده في تعزيز الثقة لدى الناخب الأمريكي الذي سئم من قيادة الرئيس المقولب بإطار أيديولوجي مسبق. أوباما يعيد الاعتبار إلى أمريكا البراغماتية، امريكا التي تريد أن تعمل مع الواقع بروح تواقة إلى المستقبل. جون مكين لم يكن موفقاً على الإطلاق في حملته إذ طبع نفسه بطابع المستَفَزّ، أو المرآة التي تنعكس عليها سياسة الإدارة الأمريكية خارجياً وداخلياً. منذ البداية، أفتقر إلى نشاط السياسي الذي يفترض أن ينهض بأعباء الأمة الأمريكية، وافتقر إلى حكمة السياسي التي تكسبه مزيداً من الثقة لدى الناخب. الجمهوريون وقعوا في الخطأ القاتل عندما اختاروا جون مكين ذا الإيقاع السياسي البطيء والثقيل مقارنة باوباما ذي الإيقاع المتناغم بمرونة مع تطلعات الناخب. وفي الوقت الذي وصل فيه الناخب إلى ذروة اللحظة التاريخية في حزم أمره واختيار رئيسه، كان الاقتصاد الأمريكي يمرّ بأسوأ مراحله في عهد الجمهوريين، وكان هذا عاملاً خارجياً ذا طبيعة رمزية تجعل أوباما: المنقذ، والحلم الأمريكي بأوسع صوره ومضامينه.
العرب، ولاسيما أصحاب العواطف القومية والإسلامية، تفاعلوا مع الفوز من باب الشماتة السياسية، وهكذا هم في كل دورة انتخابية، سرعان ما يشمتون، ثم بعد ذلك يباشرون تجهيز خطاب العداء ولغته وطرائقه مع الرئيس الجديد لأن الخلاف حاصل بين الطرفين نظراً لوجود نمطين من العقل: العقل الحرّ، والعقل المستعبَد. وهكذا هم لا يعنيهم معنى التغيير الذي أوجزه أوباما بعبارة من ثلاث كلمات لكنها غنية في مضمونها السياسي والإنساني. أمريكا تتغير؛ أي أنها تقدّم للعالم صورة مشبعة برمزية أن يقرر العقل الحرّ شكل السياسة، أن يلغي ثنائية التسمية: أبيض وأسود، إلى كلمة جوهرانية أخرى مشبعة بقيم متحضرة هي: الإنسان.
لكن، في الوقت الذي تحرق فيه أمريكا واحدة من أبرز الثنائيات الوجودية، فإن العرب يعيدون إحياء كل الثنائيات القذرة التي تعمل على تمزيقهم. هناك في أمريكا، قاد تمزيق الثنائية العنصرية إلى كرسي الحكم، وهنا في العالم العربي يقود إحياء النزعة الثنائية التصنيفية العنصرية إلى كرسي الحكم أيضاً، لكنّ ثمة فرقاً بين هذا وذاك، هو الفرق نفسه بين عقل حرّ وآخر مستعبّد.
[email protected]
لم ينتخب الأمريكيون أوباما عشقاً للون بشرته؛ بل لأن أمريكا تكاد تغرق في تركة ثقيلة من الأزمات والمشاكل. وهكذا اندفع الأمريكيون إلى صناديق الاقتراع بدافع إنقاذ بلادهم من معضلة مصيرية. ومع أن السود ازدوجت عندهم المشاعر إذ ذهبوا إنقاذا لبلادهم وإنقاذا لإنسانيتهم التي لم تنصف طوال تاريخ الدولة الأمريكية، لكن يبقى الهدف الأول لهذه الانتخابات هو: أمريكا الوطن، أمريكا الوطن الرمز الذي يستحيل تفسيره. الله والوطن، كل تفسير لهما إنما هو تقليل لقيمتهما غير المحدودة بحدّ. هما نقيضا التفسير والتحديد. وتلك هي ميزة العظمة، أنهما كلما وضعتهما في خانة وجدتَ الخانةَ جزءاً منهما. وهذه حالة لا يمكن أن ندركها نحن العرب؛ لأننا جعلنا الوطن جزءاً من الحاكم أو بالأحرى ذوبنا الوطن تماماً في الحاكم. وفي مقابل ذلك، على مستوى العقيدة، ذوبنا الله في: الخليفة، الإمام المفتي، رجل الدين عموماً، وأخيراً القائد السياسي الإسلامي. كل ذلك، بسبب افتقارنا إلى التحرر الشخصاني ( أعني كامل الشخصية عقلاً وروحاً وجسداً). على حين أن هذه المفاهيم لا تختلط مع بعضها لدى الإنسان الحرّ. كل مفهوم قد حقق ذاته ومعناه عبر إرث تاريخي وثقافي ووجودي طويل.
لكنّ في هذه الانتخابات ثمة درساً، إذ انتصرت وتفوقت الديمقراطية على عِقْدتَيْ: العِرْق، والعقيدة الدينية، وتلك من مزايا العقل المتحرر من العبودية. ومن المؤسف، أنه في الوقت الذي يتحقق هذا الانتصار المبدئي للديمقراطية التي تُوصَف عادة في الخطاب الإسلامي المعاصر بـ: الكفر، فإن تراجعاً مستمراً للقيم الإنسانية يهيمن على الحياة العربية والإسلامية عموماً. الخطاب الإسلامي الذي تؤسسه قيادات إسلامية سياسية أو شرعية أو فكرية، إنما هو خطاب لم يصل بعد إلى لحظة وعي أن يتحرر الإنسان من العبودية. فَهْمُ الدين؛ الإسلامي تحديداً، على أنه محض عبودية، هو القاعدة التي تتناقض تماماً مع جوهر الإنسانية الذي يفترض أنه لا يتعارض مع جوهر الدين. أوباما خاطب مؤيديه بعد فوزه: أمريكا تتغير اليوم؛ بمعنى أن العقل الإنساني الحرّ سجّل انتصاراً على عقدة تاريخية لم تكن تتناسب مع روح التقدم والرقي العقلي الذي أحرزته البشرية طوال تاريخ كفاحها الوجودي. كأنه يقرر أن أمريكا تكتشف، أو أن أمريكا تؤسس معياراً، أو تصكّ وثيقة من وثائق حقوق الإنسان.
على الرغم من أني شخصياً، أعتقد بأن ثمة عوامل خارجية ساعدت باراك أوباما على الفوز، لكن مع ذلك فإنه كان شخصاً واقعياً، وذا بلاغة تتقمص روح المنصب الرئاسيّ بطريقة آسرة، وتتجذّر مع المشكلات التي ترعب المواطن الأمريكي. كان يوصل أفكاره بهدوء ويذيلها بابتسامة ربما هي الوعد بالأمل والثقة. هذا العامل الشخصي، الذي عززه أوباما بفكر وسطي غير خاضع مرجعياً إلى اليمين أو اليسار، قد ساعده في تعزيز الثقة لدى الناخب الأمريكي الذي سئم من قيادة الرئيس المقولب بإطار أيديولوجي مسبق. أوباما يعيد الاعتبار إلى أمريكا البراغماتية، امريكا التي تريد أن تعمل مع الواقع بروح تواقة إلى المستقبل. جون مكين لم يكن موفقاً على الإطلاق في حملته إذ طبع نفسه بطابع المستَفَزّ، أو المرآة التي تنعكس عليها سياسة الإدارة الأمريكية خارجياً وداخلياً. منذ البداية، أفتقر إلى نشاط السياسي الذي يفترض أن ينهض بأعباء الأمة الأمريكية، وافتقر إلى حكمة السياسي التي تكسبه مزيداً من الثقة لدى الناخب. الجمهوريون وقعوا في الخطأ القاتل عندما اختاروا جون مكين ذا الإيقاع السياسي البطيء والثقيل مقارنة باوباما ذي الإيقاع المتناغم بمرونة مع تطلعات الناخب. وفي الوقت الذي وصل فيه الناخب إلى ذروة اللحظة التاريخية في حزم أمره واختيار رئيسه، كان الاقتصاد الأمريكي يمرّ بأسوأ مراحله في عهد الجمهوريين، وكان هذا عاملاً خارجياً ذا طبيعة رمزية تجعل أوباما: المنقذ، والحلم الأمريكي بأوسع صوره ومضامينه.
العرب، ولاسيما أصحاب العواطف القومية والإسلامية، تفاعلوا مع الفوز من باب الشماتة السياسية، وهكذا هم في كل دورة انتخابية، سرعان ما يشمتون، ثم بعد ذلك يباشرون تجهيز خطاب العداء ولغته وطرائقه مع الرئيس الجديد لأن الخلاف حاصل بين الطرفين نظراً لوجود نمطين من العقل: العقل الحرّ، والعقل المستعبَد. وهكذا هم لا يعنيهم معنى التغيير الذي أوجزه أوباما بعبارة من ثلاث كلمات لكنها غنية في مضمونها السياسي والإنساني. أمريكا تتغير؛ أي أنها تقدّم للعالم صورة مشبعة برمزية أن يقرر العقل الحرّ شكل السياسة، أن يلغي ثنائية التسمية: أبيض وأسود، إلى كلمة جوهرانية أخرى مشبعة بقيم متحضرة هي: الإنسان.
لكن، في الوقت الذي تحرق فيه أمريكا واحدة من أبرز الثنائيات الوجودية، فإن العرب يعيدون إحياء كل الثنائيات القذرة التي تعمل على تمزيقهم. هناك في أمريكا، قاد تمزيق الثنائية العنصرية إلى كرسي الحكم، وهنا في العالم العربي يقود إحياء النزعة الثنائية التصنيفية العنصرية إلى كرسي الحكم أيضاً، لكنّ ثمة فرقاً بين هذا وذاك، هو الفرق نفسه بين عقل حرّ وآخر مستعبّد.
[email protected]
التعليقات