لا تخطئ فتكون في موضع ضعف. هل يمكن أن نعتبر هذه حكمة مناسبة للحديث عن حادثة عسكرية بدلالات سياسية؟. لكن الخطأ جزء من بنية الإنسان، ليس هنالك قديسون على الأرض. ومع ذلك، فثمة خطأ أهون من بعض. هذه البقعة من العالم المسماة: الشرق الأوسط، مكان لتناسل المآسي؛ لأنها مكان لتناسل الأخطاء. الحكماء، عبر التاريخ، هم الأضعف من حيث حيازة أسباب القوة التقليدية لكنهم الأقوى من حيث عدم الانزلاق إلى الأخطاء الفادحة القاتلة. ولأن السياسة ميدان تتجلى فيه الحكمة؛ أعني حكمة سياسة الشعب فإن تاريخ الأمم المتحضرة يصنعه حكماء السياسة. أوروبا خربها حمقى السياسة، وأعاد بناءها حكماء السياسة. وهكذا إذا أردت أن تكون الأقوى لا تعطي خصمك الذريعة.
لا تعطي خصمك الذريعة، هذه مفتاح الحكمة السياسية. صدام حسين ارتكب حماقة غزو الكويت فأعطى للعالم كله ذريعة مهاجمته. كان يتصرف خارج القانون والحكمة، فكان أن جنى مهانةً ما بعدها مهانة. جبروت الحماقة وعرشها قاده إلى عرش آخر هو أن يفترش جحراً قذراً ويختبئ فيه. كانت هذه آية من آيات القدر، برهاناً من براهين انتصار الإنسان على الطاغوت. عرش تناثر كما يتناثر الهباء، لكن من يفقه مغزى هذه الآية التي لم تدوَّن في كتاب؟!. ها هم الطواغيت الجدد يزدادون علواً ووهماً، والقدر يضمر حتى تأتي اللحظة التي يتناثر فيها الهباء. لكن الطغيان يستمر، والهباء يستمر أيضاً، وتلك هي سنة الوجود ولعبته ولغزه.
ليس سراً أن مئات الآلاف من الضحايا العراقيين الأبرياء اغتيلوا على أيدي جماعات مجرمة كانت تتسلل عبر الحدود السورية. الحكومة السورية تتصارع مع الولايات المتحدة على أرض بديلة هي العراق، وهذا ليس أمراً مخفياً، إنه استراتيجية سياسية وأمنية. وينطبق الكلام نفسه على النظام الإيراني. العراق هو بلد الصراع البديل. الإيرانيون والسوريون ارتكبوا خطأً عظيماً حيال الشعب العراقي، فثمة ضحايا يقدرون بمئات الآلاف، هناك أيتام وأرامل بحدود ثلاثة ملايين، هناك فرقة بين أبناء الشعب بمختلف طوائفه ومذاهبه وأديانه وأعراقه، هناك اقتصاد مدمر، هناك مجتمع تتلاطم فيه أمواج الأزمات، مشردون ومهاجرون بالملايين، وهذا أمر كارثي ومأساوي وجرح لا يمكن أن يندمل بسهولة. هذه البلدان التي تسمح للجماعات الإرهابية أن تعتدي على الأبرياء، إنما تربّي الأفاعي في جحور وثيرة في بلدانها على غرار ما كان يجري في أفغانستان إبان مقاومة الاحتلال السوفييتي، فبعد أن كثرت هذه الجماعات الإسلامية التي كانت تقاتل السوفييت ليس لوجه الله وليس من باب الآصرة الإسلامية كما يعتقد بل رغبة في السلطة، أصبح الشعب الأفغاني أول أعدائهم بعد خروج القوات السوفييتية. وهكذا انقلب السحر على الساحر؛ على من ساعد في تقوية هذه الجماعات وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية. والأمر نفسه ينطبق على المدن العراقية التي استضافت جماعات القاعدة في العراق فاستعبدوا الناس فيها أبشع استعباد حتى انقلب الناس عليهم. وفي ظني أن الانفجارات الأخيرة التي حدثت في سوريا إنما قامت بها نفس الجماعات التي تغذي العنف والإجرام داخل العراق.
لا يستطيع أحد أن يدحض الرواية والتفسير الأمريكي للحادث، الذي كشف عن اختراق مخابراتي دقيق وصل إلى حد تسمية الشخص المطلوب ومقتله. ومع أن هذا الحادث جرى خارج القانون، لكن تسلل الجماعات الإرهابية إلى العراق هو عمل خارج القانون أيضاً. فلو لا أن أمريكا تملك الوثائق والمستندات التي تكشف عن أن هذا المكان وغيره كان مكاناً يتسرب منه الموت إلى العراق لما أقدمت على ذلك. والسؤال هو، هل تستطيع أمريكا بكل قوتها أن تعتدي مثلاً على سويسرا الدولة الصغيرة في القارة الأوروبية؟. من المؤكد، أنها لا تستطيع لأن سويسرا لا تعطي الذريعة لذلك. لكن بلداننا مشرعة الأبواب من كل صوب وحدب؛ لأنها مبنية أصلاً على سلسلة من الأخطاء وفي مقدمتها عدم شرعية الحكم.
الحكومة العراقية، صدر منها تنديد بالحادث لكنه مشفوع بعبارة أن لا تكون الأراضي السورية منطلقاً لتسلل الإرهابيين. هذا التصريح أثار غضب السوريين فعاقبوا الحكومة العراقية فوراً بإلغاء اجتماع كان مقرراً بينهما. لكن الحادث بحد ذاته كان يكشف عن عدم تمتع الحكومة العراقية باستقلال قرار السيادة، فلو أن القوات العراقية قامت بضرب الموقع الإرهابي في الأراضي السورية كما تفعل تركيا في شمال العراق لضرب حزب العمال الكردي لكان بالإمكان تسويغ الأمر. لكن هذا الحادث سوف يُتخّذ ذريعة أيضاً من الدول التي لا تريد توقيع الاتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة؛ ذريعة في خشيتها من ان يتحول العراق إلى قاعدة أمريكية مستعدة للانقضاض على أي بلد من بلدان المنطقة. لكن التعليق الرسمي الحكومي سوف يختلف جذرياً لو أن أمريكا أقدمت على شن هجوم داخل الأراضي الإيرانية، إذ إنها سوف تندد بالحادث من دون تذييل التنديد طبعاً بالرغبة في أن لا تكون الأراضي الإيرانية منطلقاً لتسلل الإرهابيين.
إن الدول العربية، للأسف، لا هي تملك القوة التي تمكنها من الرد الذي يحفظ هيبتها وهيبة شعوبها، ولا هي تتنزه عن ارتكاب الأخطاء وفي مقدمتها عدم شرعية الحكم. وعلى هذا الأساس، سوف تبقى هذه الدول عبارة ( مَلْطَشَة) كما يقال في التعبير العامي.
لماذا لا تكون السياسة العربية سياسة تجري وقائعها على الهواء مباشرة، وتترك أسلوب العمل من وراء الكواليس المظلمة؟. قبل أيام اختتمت القمة الاقتصادية الخليجية، وكان التصريح بأن اقتصاديات هذه الدول بعيدة عن الأزمة الاقتصادية العالمية، ولم تمض سوى ساعات حتى انهارت بنوك وكُشِف عن خسائر بالمليارات جراء تلك الأزمة. لكن وقائع الأزمة الاقتصادية الأمريكية تجري وقائعها على الهواء مباشرة سواء أكان ذلك في البيت الأبيض أو الكونغرس أو مجلس الشيوخ أو الصحافة أو حملة الانتخابات أو البورصات. الغرف المظلمة للرؤساء والمسؤولين العرب تجري فيها العجائب من دون أن يجرؤ أحد على التساؤل، لكن فضيحة الرئيس بيل كلنتون مع مونيكا كانت تنقل على الهواء مباشرة. هذا هو الفرق، هناك خطأ وصدق، وهنا خطأ وكذب. هناك رغبة في التوبة وتصحيح الفعل، وهنا استمرار على الفعل من دون أدنى رغبة في التوبة والتصحيح.
إن الذي يخرج خارج دائرة الشعارات الزائفة في الشرق الأوسط؛ سواء أكانت دينية أو سياسية، سوف يكتشف شرقاً غريباً يفوق حتى العوالم الغريبة في حكايات ألف ليلة وليلة. فإذا كان الخيال الكاذب هو الذي صنع تلك الحكايات كما يعتقد، فإن الواقع الصادق هو الذي خلق ويخلق حكايات الشرق الأوسط الآن. المؤلفون المفترضون لحكايات ألف ليلة وليلة كان يحذفون ويضيفون بحسب ما يقتضيه الواقع السياسي والاجتماعي من ترميز مناسب، لكن حكايات الشرق الآن لا حذف فيها ولا إضافة، إنها ما يستحيل أو ما لا يمكن تحقيقه يتحقق أمام أعيننا بفعل الكذب والتلذذ بفعل الخطيئة. الكذب والخطيئة والشرق، اسم واحد لا يمكن تجزئته قط.
لا أجد تفسيراً للمقاومة الملثمة سوى أنها فعل من أفعال المخابرات القذرة؛ تلك المخابرات النتي لا تجيد في الشرق سوى الكذب والقتل، أما ما هي القواعد والمعايير العلمية التي يبنى عليها هذا الجهاز فلا أهمية لها أبداً، وهكذا صار بوسع أي أميّ أن يقود هذا الجهاز كما قاده برزان التكريتي مثلاً لا حصراً.
لماذا هذا الضرب المتواصل لشعب لا حول له ولا قوة، هو الشعب العراقي الذي ابتلي بأسوأ قادة على مرّ التاريخ، وبأسوأ جيران على مر التاريخ أيضاً؟. لماذا تعاقِب دول الجوار العراقي أمريكا من خلال قتل العراقيين وتخريب بلدهم ومجتمعهم؟. أثمة تفسير لذلك؟. نعم إنه الجبن من المواجهة المكشوفة التي لا تستغرق في ظني سوى سويعات ويتناثر الهباء أو العروش الكارتونية على نحو ما تناثر فيه عرش الطاغية صدام..
التعليقات