العنف السياسي ليس بجديد علي المجتمعات، ولكنه أصبح يمثل ظاهرة منذ بدأت المجتمعات تأخذ شكلاً منظماً تتصارع في دوائره المصالح الاقتصادية، وكان الاقتصاد في الغالب الأعم هو أساس ومحور هذه الصراعات.
وأساس العنف السياسي يرجع إلي قضايا الفساد والظلم والاستبداد، ومن الصواب أن يتم اقتران جرائم العنف السياسي بجرائم الاستبداد السياسي، فهما وجهان لعملة واحدة حال كون المستبد بالحكم والسلطة لابد أن تتولد لديه مشاعر العنف السياسي التي تبدأ بنفي المعارضين لسياسات الاستبداد والفساد والظلم الاجتماعي وتنتهي بسياسات القتل، وما بين النفي والقتل ترتكب جملة من الجرائم من تلفيق القضايا وتأليب أجهزة الدولة بداية من التراخيص والمرور والضرائب وأقسام الشرطة ومراكز البوليس والأجهزة السيادية،وتتصل الدوائر الإجرامية لتصل لحد الحبس أو الاعتقال والضرب والجرح والتعذيب، وهذه الجرائم تبدأ بالتجسس والتنصت وأساليب المراقبة والمتابعة في انتهاكات مجرمة لحرمة الحياة الخاصة والسفر والتنقل.
ولذلك يصح القول أن جميع أنظمة الحكم الاستبدادية أنظمة مجرمة ترتكب كافة أشكال وأنواع جرائم العنف السياسي لإزاحة أي قوي سياسية أو اجتماعية تقف في طريق طغيانها السياسي والعسكري والتي تصل إلي قمتها بالإخفاء القسري والقتل.
ومن جملة الضغوطات التي تمارسها أنظمة الحكم الاستبدادية القاتلة لمناخات الحرية والديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية تتوالد جرائم العنف الاجتماعي التي تعتبر منتوجات طبيعية لجرائم العنف السياسي.
ويلاحظ أن معظم الأنظمة الاستبدادية، تصاب دولها بالفقر والمرض والأمية، وتتفشي جملة جرائم من نتاجات الفقر والمرض والأمية تهدد كيان أي مجتمع، ويصبح الكيان الوحيد المتفرد بالحفاظ علي وجوده هو النظام الاستبدادي الحاكم الذي يحاط بحزم أمنية وعسكرية للحفاظ علي وجوده فقط، تاركاً المجتمعات تتلظى في جحيم نيران الفساد والرشوة والوساطة والمحسوبيات السياسية القذرة التي تقتل معها تكافؤ الفرص وتنعدم أساليب وطرق تقدم المجتمعات، ليظل مفهوم المجتمع غائب، والظاهر علي السطح مفهوم الجمهور والشعب والوطن.
لدرجة أن كلمة الوطن والوطنية، أصبحت مفردات توظفها أنظمة الاستبداد لسجن واعتقال وقتل وتعذيب المواطنين بدعاوى زائفة مبنية علي أسانيد باطلة بدعوى حماية الأوطان والحفاظ عليها من القلة الخائنة المندسة، أو العميلة لأعداء الوطن في الخارج، أو ترتكب جرائم العنف السياسي بدرجاتها من باب الحفاظ علي الثوابت القومية والوطنية في مجابهة من يحبون الوطن، وينتمون له ممثلاً في أبناء المجتمع الذي ينتمون إليه.
ومن ثم كان الوطن، وكانت الوطنية والقومية مصطلحات تحولت إلي مصطلحات مجرمة في ظل أنظمة الاستبداد المشتغلة بالعنف السياسي ضد المواطنين بدعاوى الوطنية والقومية، والحفاظ علي الثوابت الوطنية والقومية.
ويصح اعتبار أن وجود أنظمة حكم استبدادية كافرة بالديمقراطية ولاعنة للحريات ورافضة لتداول الحكم والسلطة، يصح بذلك اعتبارها أنظمة مجرمة ووجودها علي المسرح الدولي يمثل جرائم ضد الإنسانية في حالة مستمرة ببقاء وجود أنظمة الطغيان والفساد والظلم والاستبداد لأن هذه الجرائم جميعها وليدة الاستبداد السياسي الموظف للعنف السياسي ضد المجتمعات والدول بل وتمتد آثار هذا العنف السياسي إلي دوائر خارجية منها الإقليمي والدولي والأمثلة علي هذه الجرائم منظورة للعيان علي مسرح الأحداث الإقليمي والدولي.
ومن المتوجب علي المهتمين بالشأن الدولي والإنساني أن يتوجهوا إلي المنظمات الدولية وعلي رأسها منظمة الأمم المتحدة بإقرار معاهدة أو ميثاق دولي لتجريم استمرارية أي نظام حكم في العالم يستمر في وجوده علي كراسي الحكم والسلطة أكثر من مدتين لا تزيد المدة منهما علي خمس سنوات أو ست، وإلا يعتبر هذا النظام استبدادي فاسد ومرتكب لجرائم ضد الإنسانية حال استمراره في البقاء لمدة تزيد عن المتفق عليه دولياً مع الأخذ في الاعتبار أن هناك بعض النظم الاستبدادية كالصين، ليست أنظمة مجرمة في حق المجتمع الصيني بتشكيلاته القومية الهائلة، باستثناء قضية الدلاي لاما وما تمثله من أزمة في التبت علي الدولة الصينية، وهذا علي سبيل المثال لا الحصر.
العنف السياسي يمثل في مراحله العنفية جميعها عنف الجلاد في أحيان والسياف في أحيان أخري، فهذا العنف السياسي الصادر من سلطة أنظمة الحكم الاستبدادية تجاه المجتمعات المقهورة بفسادات الجلال وحماقات السياف تتوالد من خلالهما فسادات وحماقات من الضحية التي يقع عليها هذا العنف في أشكال تمردية أو إرهابية تأخذ أشكالا عديدة منها العنف السياسي والديني المتولد من رحم المجتمع الذي يمثل الضحية، بجانب أنواع العنف الجنائي كالسرقة والقتل والنصب والاحتيال والجرائم الجنائية ذات البعد الأخلاقي كجرائم الإغتصاب وهتك العرض والدعارة وزنا المحارم، ناهيك عن جرائم المخدرات سواء كان المتعلق منها بالتعاطي أو الإتجار والتي تساهم حتماً في هشاشة المجتمع وتحوله إلي مجتمع مفتقد للشرعية الدستورية والقانونية، لأن العنف السياسي هو الذي كان في البدء منتهكاً للشرعية الدستورية والقانونية، وكأن هناك حالة تشابه حالة التمثل الطوعي للعنف الاجتماعي في تشابهانه بالعنف السياسي، ولكن الأول من ضغوطات سلطات الاستبداد والفساد التي تمارس كافة الجرائم في حق المجتمعات.
وكان من الحتم أن تنشأ في ظل الدول العربية الاستبدادية جماعات العنف الديني نظراً لخلفيات الصورة التاريخية المشبعة بالروح والتراث الديني المتوارث عبر ميراث تاريخ القهر والجبر والاستبداد في المنطقة العربية المعبأة بتفسيرات وتأويلات دينية تابعة لمواريث نظرية الخلافة والحكم الجبري وتطبيقات الشريعة الإسلامية المغيبة عن التطبيق والتي يرجع أنصار الحل الديني كافة الأزمات والإشكاليات إلي هذا التغييب حسب رؤيتهم الدينية المتعالية علي الواقع والرافضة لآلياته الحديثة، ومن ثم تحدث عمليات الهجرة الجماعية والهروب الجماعي للماضي للبحث عن حلول للأزمات والمشاكل المعاصرة التي تحتاج للنصوص الدينية بتفسيرات وتأويلات أصحاب الحل الديني.
وحينما تشتد الأزمات اختناقا، تنعدم فرص الخلاص والموائمة، تظهر علي السطح الاجتماعي فرص مهيأة للعنف الديني بعد كل فشل ذريع في الخروج من نفق الأزمات.
وأهم العوامل التي تهيأ المناخ للعنف السياسي بيئة الوعي الزائف التي تصنعها مؤسسات الحكم الاستبدادية والتي يتخلف عنها تضييع مجهودات المجتمع في قضايا خلافية في مبني نشأتها وأساس وجودها كالقضايا الدينية والقضايا التي تحتمل مفاهيم عديدة.
ومن القضايا السياسية الملتبسة بقضايا دينية، القضية الفلسطينية التي اختلف حولها الفلسطينيون أنفسهم في طرائق وأساليب الوصول لحلولها سواء علي المدى القريب أو البعيد، والساحة الفلسطينية شاهدة علي ذلك ولا تحتاج إلي قراءات لنفي أو إثبات ذلك!!
بل وتعتبر القضية الفلسطينية من أخطر القضايا التي تاجرت بها الأنظمة العربية وجعلت ملفها فوق كل الاعتبارات الوطنية لمداراة السوءات والخيبات والهزائم المتكررة التي لحقت بتلك الأنظمة وعلي وجه خاص في قضايا التنمية والديمقراطية والحريات، وكأن هذه القضايا مؤجلة بالحتم لحين الانتهاء من ملف القضية الفلسطينية، وكأن الأزمة الفلسطينية تمثل عامل معوق لتلك القضايا الهامة والمصيرية لتقدم وازدهار دولة من الدول العربية التي تتسم أنظمة حكمها بالتخلف والرجعية والاستبداد.
ناهيك عن القضايا التي تصنعها أنظمة الاستبداد كالقضايا الخاصة بالصراعات بين الأقليات الدينية والعرقية، موظفة بعض الجماعات الأصولية الدينية لديها لإحداث حالة الصراع هذه والتي تصب في نهاية المطاف في التخديم علي سلطة الاستبداد،مستخدمة مصطلحات من قبيل أعداء الوطن والخونة والعملاء للخارج.
ونخلص من ذلك إلي أن الأنظمة العربية جميعها تناضل فقط من أجل البقاء علي كراسي الحكم والسلطة من أجل تغييب قضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لتبقي هي المتفردة فقط بقضايا الفساد والظلم والإضطهاد والتعذيب والقتل من خلال المنظومة السياسية الفاسدة للإستبداد المحتمية بمصطلح الحفاظ علي الثوابت القومية والوطنية، لدرجة أصبحت كلمة الوطن، والوطنية، وكلمة القومية حينما تذكر أي كلمة منهم، يتبادر إلي الذهن أن هناك جريمة عنف سياسي سيتم اقترافها في حق فرد أو مجموعة من المدافعين عن الوطن والمواطن .
فهل الحل سيكون من خلال الشرعية الدولية أم من خلال جامعة الدول العربية، أو منظمة المؤتمر الإسلامي؟!!
أعتقد أن الإجابة ستظل عسيرة علي الدوام إلي أن يتحول مفهوم الشعب والجمهور والوطن والقومية إلي مفهوم المجتمع والدولة /الأمة، وسلطة الحكم المنفصلة عن باقي السلطات!!
[email protected]