لا يختلف اثنان في أنّ الحديث عن ( الثقافة العراقية) بقولبتها في خانة واحدة، إنما هو ضرب من الأسطورة وعدم التوصيف الواقعي. ومع ذلك، فإنّ هذه الفسيفساء المتناثرة التي تشكّل العقل العراقي في صورته النهائية هي التي تمنحه فرادة وخصوصية.

وبغية امتلاك حق المشاركة والتمثيل الثقافي فإن السنوات الأولى من سقوط النظام السابق شهدت حرباً طاحنة بين ثقافات العراق لعلها لم تضع أوزارها بعد، وهي من مستلزمات الحرب الأهلية الكبرى، بيد أن هذه الحرب لا تقتصر على طرفي النزاع الرئيسين، بل تمتد لتشمل كل الكتل الثقافية الليبرالية ومنظوماتها الفكرية، وكل المكونات العرقية والدينية والطائفية. ومع أن الوجه المشترك لكل ذلك كان في أيام الحكم البعثي وجهاً ينأى عن المواضع الحسّاسة التي تثير النزاع لعلاقته باقتسام السلطة بشكل متوازن وعادل، لكنه الآن ينخرط في نزاع كبير يتمركز حول تلك المواضع الحساسة نفسها؛ بغية التعبير عن حق التمركز الثقافي في رؤية معينة أو مرجع معين هو الأهمّ في تشكيل الهوية المتنازع عليها عبر تاريخ العراق الحديث بعد أن عملت الأنظمة الدكتاتورية التي تعاقبت على الحكم على تدمير ذلك الحق.

وهكذا بعد مضي أكثر من قرن كامل على تأسيس الفكر العراقي الحديث، يمكن أن نحدّد القنوات التي ساهمت في تكوينه ببزّته الحديثة، وتأتـي في مقدمتها الصحافة العراقية التي نشأت في نهايات القرن التاسع عشر بصدور جريدة ( الزوراء) في 1869 في عهد الوالي العثماني مدحت باشا، وصدور جريدة ( الموصل) في 1885 وجريدة ( البصرة). وقد رفدت (المدرسة العراقية) التي تأسست في مطلع القرن الماضي، الثقافة العراقية بأفكار علمية حديثة، وكانت تبذر البذرة الأولى على طريق تخصيب الفكر العراقي الحديث ونقله من شرك الوقوع الأبدي في أفق الماضي والتفكير الديني إلى نور أفقٍ جديد، يتفاعل مع الواقع والحياة والحضارة الجديدة، ويؤمن بالتفسيرات العقلانية. وتلتها نشأت الجامعة العراقية في 1921 بتأسيس ( كلية الحقوق) أول كلية تتأسس بالعراق، ثم ( دار المعلمين العالية) في 1924 ثم (كلية الآداب) في 1948.

ولا يخفى أنّ هذه الجامعة قد احتضنت أجيالاً من مختلف طوائف المجتمع العراقي ممن ساهموا في تحديث الفكر والثقافة والحياة، اشترك قسم منهم في إنجاز حركات تحديثية، لعلها لم تكن مقبولة في وقتها، لكن يلزم الاعتراف بأنها شكلّت حادثة مهمة في تطوير الفكر العراقي. فثمة قائمة طويلة من الأسماء التي رفدت الثقافة العراقية بأفكار توزعت ما بين التقليدية المحافظة المتجهة إلى التراث، والحديثة المتطلعة إلى الغرب وعلومه وثقافته وأنماط حياته.

إنّ حركة الشعر الحرّ على سبيل المثالndash; التي تُعدّ منجزاً بارزاً من منجزات الثقافة العربية - هي بنت الجامعة العراقية في نهاية الأربعينيات. تلك الجامعة التي عُرِفَتْ آنئذٍ بتفاعلها مع الأفكار الجديدة، واشتراكها في تصدير أنماط من الثقافة إلى داخل المجتمع، ومن ثمّ اشتراكها في تكوين ثقافة شعبية تتذوّق الجميل من الأدب، وتتقبّل الأفكار العلمية والعقلانية. كانت الجامعة مؤسسة ثقافية حية، ولم تكن كما أصبحت الآن مكاناً لنيل الشهادة الجامعية فقط أو مكاناً للصراع السياسي في وجهه الديني، إنما كانت مكاناً لتطوير الملكات والمشاركة في تحديث الثقافة، وتأسيس تقاليد علمية في الدرس الأكاديمي.

وما بين الجامعة والحياة العامة، كان للأحزاب نصيب في تكوين الفكر العراقي، فمن يقرأ تاريخ الأحزاب العراقية منذ نشأتها في مطلع القرن الماضي، ويطّلع على أدبياتها سوف يكون أمام مادة ثقافية على قدر كبيرمن الأهمية بالنسبة لتكوين الفكر العراقي الحديث. وأهمّ ما في هذه الثقافة الجديدة، جرأتها في تكوين ثقافة نقدية للخطاب الديني، تقتحم المقولات والأفكار التي اكتسبت شيئاً من الركود والاستقرار في بنية الثقافة العراقية الخاضعة عادة لاشتراطات دينية، تقف حجر عثرة في طريق تحديث البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية.

وإذا تجاوزنا الأهداف السياسية المدونة في برامج هذه الأحزاب، أو مدى نجاحها في أرض الواقع، فإنّ هذه الأحزاب كانت تتبنى منظومات فكرية متعارضة تارة، ومتقاربة تارة أخرى، وهي تصبّ كلها في محاولة رسم خريطة أيديولوجية أوسياسية للمجتمع العراقي، في محاولة لتحريره من بعض الاعتقادات البالية، أو زحزحة قسمٍ من قيمه التي باتت تتعارض مع تطور الحياة الجديدة. وعلينا أن نعترف بأنّ أجرأ الأفكار التي تسربت إلى صميم الثقافة العراقية إنما جاءت عن طريق الخطاب الثقافي الذي ترعرع في أحضان الأحزاب العراقية، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي العراقي ثم الأحزاب العلمانية الأخرى. ثم تحوّلت شيئاً فشيئاً إلى موضوعة من موضوعاتها الأصيلة، التي تعالج مشكلات تنبع من الواقع بمختلف ألوانه، ولا تتخذ من الفكر الديني مرجعية أساسية في تكوين مقاربة او رؤية للواقع. ويلزم أن نشير إلى أن هذا لم يكن حدثاً عابراً، بل تحدياً للمؤسسة الدينية وللشخصيات الدينية الكاريزمية المنتشرة في المدن والحواضر الدينية.

لقد تولّى الخطاب الثقافي لهذه الأحزاب قضية تقويض النظام الاجتماعي التقليدي، الذي يتغذى من أفكار موروثة لها نظام منطقي صارم، ولها حظوة في المخيال والعقل الشعبيين. وعلاوة على ذلك، كانت هذه الأحزاب تؤسس مجموعة من القيم الليبرالية، أو العقلانية، أو العلمانية، وهي منظومة كانت تتصارع بقوة مع المنظومة الفكرية الدينية الراكدة، التي حازت على مصداقية الناس وتفاعلهم معها عبر قرون، حتى أصبحوا جزءاً منها. وكانت أقوى المواريث الفكرية تلك التي تنبع من مصادر دينية أو أيديولوجية، إذْ اقتضى الصراع مع هذه المواريث عُـدَّةً من نمط خاص، ومنهجاً حذراً في معالجتها، أو تحليلها، أو تفنيدها؛ بسبب تلك الحساسية القوية المقترنة بها وبالناس الذين يؤمنون بها.

والسؤال الذي كان مطروحاً، هو: كيف يمكن للثقافة العراقية أن تؤسس نماذج ثقافية تزوغ من ( التصنيفات) السياسية والأيديولوجية معاً؟. فما بين ( التصنيف) و( الخروج على التصنيف) مسافة استراتيجية يحترب عليها طرفان: الثقافي، واللاثقافي. وسوف يسفر الاحتراب عن مسخٍ لهوية أحدهما ضرورة. وعلى هذا الأساس، فإن الثقافة البعثية بالعراق التي خلفت وراءها ملايين الأطنان من الورق لم تصمد في أية مقارنة مع نتاج أي مثقف عراقي مستقلّ في فكره ووعيه ومواقفه. وفي زحمة صراع الأيديولوجيات العربية منذ منتصف القرن الماضي حتى الوقت الحاضر، خسر الخطاب الثقافي كثيراً من عناصره الجوهرية التي تعمد إلى تجانسه، واستقلاله، وتوجيهه شكلاً ومضموناً باتجاه الخروج من مأزق ( الآنية) و( المباشَرة) و( النفعية) و( والالتزام المحدود الأفق) و( الإيمان بالمطلق واللانهائي). ولأنّ الخطاب الثقافي، مفتوح دوماً على آفاق معرفية لا تقف عند حدّ، ولأنه كذلك يلتزم قضايا الإنسان، على الرغم من عدم اجتماعهم على رأي واحد، فإنّ وضع تشريعات سياسية أو أيديولوجية موجِّهة لهذا الخطاب، سوف لن تفضي إلى تحقيق مشروع الثقافة في تحليل الواقع السياسي أو الأيديولوجي من دون السقوط في شرائطه وأخلاقياته.

إنّ تجربة الثقافة العراقية مع السياسة والأيديولوجيا تجربة مريرة. فقد خسرت بسبب القمع الدوري الملازِم للتحولات السياسية منذ نشأة الدولة العراقية الحديثة كتّاباً لامعين، امتازوا بالعطاء الدائم المتميّز، لكنّ تجاربهم الثقافية كانت أسيرة نظرة حزبية ضيقة، أو نظرة مؤسساتية مقولبة بقالب المؤسسة، وبعقليتها التي لم تستطع أن تنشط إلا في داخل إطارٍ للتفكير، وإلا في داخل مواضعات محددة للكتابة ذاتها. وقد خضع هؤلاء الكتّاب لرقابة قاسية؛ داخلية وخارجية، الأولى خلقها الاعتياد على أعراف معلّمة بعلامات ليس بوسعهم أن يتمرّدوا عليها، والثانية رقابة العقل السياسي أو الأيديولوجي نفسه. ففي ظل هذه الرقابة لم يكن مسموح لهم أيضاً، أنْ يمارسوا ضرباً من النقد العقلاني للنظم الثابتة، الحائزة على تقديس المؤسسة، أو الحزب، أو الأيديولوجيا. ولعلّ تجربة المثقفين العراقيين، مع النظام السياسي السابق، ومع عقيدة حزب البعث، لم تسفر إلا عن انعزال بعضهم عزلة تامة، وحضور البعض الآخر، على استحياء، المنتديات الثقافية. لكنْ علينا أنْ لا نغفل عما يجري حالياً من محاولات عدّة، من الأحزاب والتيارات الدينية السياسية والحركات السياسية، لتدجين العقل الثقافي العراقي مرة أخرى في أقفاص السياسة والأيديولوجيات التي هبّت علينا بعد سقوط تمثال صدام.

إنّ هذا الباب المفتوح على مصراعيه، فخّ جديد ربما انزلقت أقدام مثقفينا إليه بخديعة من خدع السياسة والأيديولوجيات الجديدة، وأمام أعين هؤلاء المثقفين كان العراقيون يُذَبَّحون بذريعة الدفاع عن ( صنم جديد) أو ( عقيدة مقدسة) أو ( يوتوبيا منتظرة) لا ريب في أنها وهم من الأوهام التي انطلت على السواد الأعظم من الناس. والطامة الكبرى للثقافة العراقية التي يُخشى عليها منها، هي تلك الإغراءات الكبيرة التي تسعى إلى تجنيد عدد من المثقفين ومن أشباه المثقفين، لتكوين رأي عام ثقافي يكون أداة طيعة بيد الاتجاهات المتطرفة التي تمارس العنف وتفتش له باستمرار عن مرجعيات ومسوغات، تبرره وتجيزه، على غرار ما فعله هؤلاء المتطرفون حين جعلوا قسماً من التراث الإسلامي مرجعية ثقافية، تجيز ممارسة العنف. وهذا أخطر ضروب التأويل في الفكر العربي المعاصر، الذي يعاني من ضمور النقد العقلاني لهذا النمط من التأويل الذي نجح في كسب طبقة واسعة من المناصرين، المستعدين للجود بالمال والنفس لتحقيق قيادة الأمة احتكاماً إلى نظريتَيْ: ( الحاكمية لله) السنية أو( ولاية الفقيه) الشيعية. وكلاهما وجه آخر من وجوه الاستبداد الذي يقتضي مقاومة ثقافية قاسية.

[email protected]