قبل أسابيع أصدر القضاء المغربي حكما قاسيا ضد صحيفة quot;المساءquot; اليومية المستقلة، يقضي بإجبارها على دفع تعويض مالي كبير لصالح بعض موظفي الدولة، كانوا قد تظلموا لدى المحكمة متهمين الصحيفة بالإساءة إلى سمعتهم ناصعة البياض، فلم يخذلهم القضاة العظام، الذين وجدوا في نظرائهم quot;الإنجليزquot; - ما شاء الله- مثالا يحتذى، بل لعلهم يزايدون عليهم قريبا، حيث سيضطرون كافة الصحف المغربية المستقلة إلى الإفلاس فالإغلاق.
من يقول أن الأنظمة العربية غير متضامنة، يفتئت على الحقيقة ما في ذلك شك، فالحكام العرب أسرع الناس إلى التقاط الحكمة من بعضهم، عملا بالحديث الشريف quot;الحكمة ضالة المؤمنquot;، ولهذا فلا غرابة من أن تنتقل خبرة هذا الحاكم إلى زميله بأقصى سرعة ممكنة، ولأن القضاء في المغرب نزيه ومستقل، فهو حتما كذلك في بلدان عربية مجاورة، ولأن القضاة البريطانيين قدوة مقدرة في المغرب، فسيكونون كذلك في تونس على سبيل المثال، ولن يترددوا حتما في الثأر لشركات الزيوت الخمس المسكينة، المتضررة من افتتاحية صحيفة quot;الموقفquot; المعارضة، التي لا يتجاوز عدد نسخها الثمانية آلاف، ويكافح طاقمها من أجل توفير تكاليف الطباعة وثمن الورق، في ظل حرمان كلي من أي دعم إعلاني أو حكومي.
ثمة صحف مستقلة كثيرة في تونس، أكثر من صحف الحكومة، لا عمل لها غير النهش في سير الخلق، وخصوصا هؤلاء المأفونين المصنفين في خانة المعارضة، غير أن القضاء التونسي الذي لم يبال يوما بأي واحدة من عشرات القضايا المرفوعة ضد هذه الصحف، سيبالي حتما بالقضايا الخمسة المرفوعة دفعة واحدة ضد الموقف، وسيجبر فقراء الصحافة بلا ريب على الدفع لأغنياء الزيت، لا لشيء بطبيعة الحال، إلا من أجل حماية السمعة الوطنية، إذ ليس مقبولا أن لا تكون تونس في مستوى المغرب، خصوصا وأن تاريخ استقلال البلدين لا يتجاوز الأسابيع الثلاثة، وهي فترة قصيرة لا تتفق مع تفوق حضاري كبير.
الحكم التي تناقلها الجيل الراهن من الحكام العرب عن بعضهم البعض كثيرة، زيادة طبعا عن الحكمة الأخيرة القاضية بإخراس الصحف بالقانون الديمقراطي والتعويض البريطاني، من بينها على سبيل المثال، حكمة التنازل عن الحصول على 99,99% والاكتفاء بنسب أقل بقليل لا تخدش حقيقة الإجماع حول عظمة واستثنائية وعدم أسبقية الإنجازات الرئاسية، وكذلك حكمة التوريث حفاظا على المصالح العائلية، وحكمة تعددية المرشحين للانتخابات الرئاسية، وحكمة التعددية الحزبية والسياسية، بتقسيم الأحزاب إلى موالاة يرخص لها ومعارضة ترفع عنها أغطية الشرعية لتبيت في عراء الخروج عليها، ولعنات الداخل والخارج المنصبة فوق رؤوس أعضائها وقادتها.
ومن أطرف الحكم الرئاسية وأخفها دما، حكمة إقدام الرئيس على إعلان رغبته في الاعتزال وترك الحياة السياسية لدماء الشباب الزكية، أو على الأقل عدم إعلانه عن نيته الترشح أو إبطائه في ذلك، لكي تنهال مناشدات الشعب الوفي بالبقاء، و تغرق شوارع المدن والقرى في دموع المبايعيين المتلهفين، وتبح الحناجر وتجف الأقلام من كثرة ما كتبت على يافطات المناشدة والبيعة، حتى يرق قلب الزعيم لأحبائه وأبناء شعبه، بعد أن ثبت له أنهم لا يستطيعون تخيل حياتهم من دونه، ولا رئيسا غيره.
إن أكثر ما يشق على بعض العرب من ذوي الحساسية السياسية العالية، أن حكامهم لم يعودوا يكتفون بإجبارهم على الولاء لحكمهم المديد السعيد كما في السابق، بل أصبح من الضروري عليهم الشهادة لأنظمتهم بالديمقراطية القحة التي لا يشق لها غبار، ولما الاعتراض أو الامتعاض أو الاحتجاج، فتعددية الأحزاب حقيقة ساطعة، وما من دولة عربية إلا وفيها اليوم ndash;ولله الحمد- أحزاب، باستثناء الجماهيرية التي تجاوزت بطبيعة الحال مرحلة الديمقراطية الغربية إلى مرحلة أخرى متقدمة عليها، وبما في ذلك سوريا التي صدرت للعالم العربي مشكورة، فضل أحزاب الجبهة الوطنية، أي نظرية quot;الحزب الشيوعي لصاحبه حزب البعث العربي الإشتراكيquot;.
وما من دولة العربية اليوم، إلا وفيها انتخابات محلية وبرلمانية ورئاسية تعددية، غير أن الحرص على ضمان الاستقرار، والخوف من الإصابة بمرض تعاقب الحكومات وكثرتها، جعل الناخب العربي أكثر وعيا من أي ناخب آخر في العالم، فهو لا يحب المغامرة ويحرص على التصويت في الاتجاه الصحيح، اتجاه يقيه القر والغضب وحرمان بقراته المصابة بالهزال أصلا من التمتع بمنح الأعلاف.
في السابق كان الحكام العرب ديكتاتوريون صراحة، ويقولون ذلك لشعوبهم دون مواربة، مستعينين في ذلك بمبررات ايديولوجية وسياسية عديدة، أما اليوم فإن المسمى الرسمي العربي لquot;الديكتاتوريةquot; هي quot;الديمقراطيةquot;، وبدل الرئاسة مدى الحياة المعتمدة في الماضي، أصبح مدى الحياة هذا مقسما إلى عدة دورات انتخابية متعاقبة من أربع أو خمس أو سبع سنوات، مثلما تحول الحزب الواحد إلى حزب حاكم يملك أحيانا مجموعة من الأحزاب، يوكل لها بحسب الظروف مهمات في السلطة أو المعارضة، لا فرق في ذلك.