لقد عاش المواطن اللبناني الأسبوع الماضي، لحظاتٍ حاسمةٍ في قاعة انتظار المجهول، وهو يترقَّب بحذر مجريات المؤتمر الذي انعقد في عاصمة دولة قطر الدوحة، برعاية قطرية ومباركة عربية ودولية، وبمشاركة أمين عام الجامعة العربية والوفد العربي، وضمّ ممثلين وزعماء من معظم أطياف العمل السياسي اللبناني مما اصطلح على تسميته موالاة ومعارضة.
وأثناء انعقاد المؤتمر توحدت معظم أطياف الشعب اللبناني حول شعار quot;إذا لم تتفقوا فلا تعودواquot;، بخلاف مألوف الشعارات السابقة التي كرست الاصطفافات السياسية بين معسكرين موالٍ ومعارض، فالمواطن تابع المؤتمر لحظة بلحظة لا حبًّا بالمجتمعين الأكارم بل لأن قراراتهم في نهاية المطاف ستنصب على رأسه حربًا وسلمًا وقوانين انتخابية تُحتمّ مسار العمل السياسي الداخلي و وجهة البلد الاقليمية في سياسيته الخارجية.
لا شك في أن قطر نجحت في حلّ الأزمة الآنية الملحة وإدارتها بعد أن فشلت مساعي ومبادرات عربية وإقليمية سابقة، وذلك باعتمادها التفاوض التي كطريقٍ أمثل لحل النزاعات،كما تعاملت بسعة صدرٍ بالغة مع الفرقاء الذين أدخلوها في أدق التفاصيل الانتخابية، لا سيما تقسيمات الدوائر الانتخابية، فتعرف الراعي القطري على زواريب بيروت، و دهاليز المذاهب و عدد الناخبين في كل حيّ والى أيّ طائفة كريمة ينتمون، وهو أمر بلا شك شائك جدًَا لمن يعرفه عن قرب، و يحتاج لصبر أيوب وحكمة سليمان وعصا موسى.
لقد استطاع المؤتمر ان يعيد الاطراف الى بعض الصواب، كما حقق نقلة نوعية في لملمة الانفلات الامني في الشارع و تحويل التفاوض الى مائدة الحوار، والخروج بنتيجة يمكن أن توصف بأنها quot; حلّ لأزمة ملّحةquot; أدت الى انفراج كبير أبعد شبح الانفجار الأمني.
ويبقى للمراقب الواعي تساؤلات مشروعة حول نتائج المؤتمر:
فهل النتائج التي تمّ التوصل إليها هي نتائج آنية تحلّ الازمة وتنزع فتيل انفجار دامٍ أم أنها طروحات جذرية تبني وطنًا؟؟؟ هل قدمت النتائج تغييرا في quot;عقلية الإقطاعquot; التي سادت طيلة الفترات السابقة منذ قيام لبنان وحتى الآن أم أنها سعت فقط لاخراج لبنان من محنته واعادت اقتسام quot;الجبنة الطائفية و المذهبيةquot; من جديد؟؟؟ هل خرج لبنان من quot;الدولة الرعويّةquot; الى دولة القانون والديموقراطية؟؟؟ هل استطاع الاتفاق ان يزحزح هؤلاء الزعماء الذين يديرون مصالحهم الشخصية بشعارات وطنية ممن يجعلون من شعار quot;حماية مصالح الطائفة والمذهبquot; متراسًا منيعًا لتغطية فسادهم المالي والسياسي؟؟؟ وهل المؤتمر أعاد توزيع الحصص السلطوية بالتراضي أم وضع آليات جديدة لإنتاج سلطة جديدة؟؟؟
لا نريد من هذه التساؤلات أن نحمّل الراعي القطري مسؤولية حلِّ مشاكلنا القديمة والعميقة بحال من الأحوال، ولا نتوقع منه أن يرسم لنا مشروع دولة ديموقراطية ليبرالية حديثة في وقت تختفي فيه الديموقراطيات من كافة الدول العربية، كما لا نتوقع عصا سحرية تحول quot;دويلات لبنان المذهبية quot; الى دولة على غرار quot;سويسراquot;، فما قام به القطري يُعدُّ إنجازًا عظيمًا، ويُشكل أرضية جيدة للانطلاق نحو حلول جذرية مستقبلية مرجوة تتعلق ببنية النسق السياسي اللبناني نفسه، إن أحسنت الأطراف اللبنانية ذلك وأرادت الاصلاح فعلا.
وأمام التساؤلات الملحة حول نتائج مؤتمر الدوحة يمكن أن نسجل الآتي:
bull;الغياب التمثيلي للفئة الصامتة: وهي شريحة كبيرة عريضة تمثل الكثرة الكاثرة ممن لا ينتمون لا لمعارضة ولا لموالاة، فئة شعبية تطمح للعيش بسلام وتنعم بالأمان ولا تدعي وصلا بأحد، ولا تطمح إلا لأن تكون محترمة كريمة في وطنها، علاوة على نخب فكرية واعية وشرائح علمانية ممن أصابهم القرف من التقسيمات الطائفية وممن يطمحون أن يروا دولتهم quot;دولة قانون quot; يعامل فيها الناس على أنهم quot;مواطنون quot; لا quot;رعاياquot; وquot;أرقام مذهبيةquot; على لوائح الدوائر quot;الانتخابيةquot;.
bull;تكريس مبدأ تقاسم quot;الجبنةquot;: في دولة quot;مغارة علي باباquot; المتمحورة حول مبدأ quot;الحتميات الطائفيةquot;، فالعقلية السائدة عند معظم الفرقاء هي عقلية quot;المزرعة الإقطاعيةquot; حيث النزاع فيها والصلح يكون قاعدة quot;رزمة ليَّ ورزمة لكquot; ، فخلافهم حول كمية اقتسام المغانم والمصالح وكيفيتها، حيث الجاه السياسي هو الموصل للسلطة الجانية للأموال، الذي أودى إلى تفاوت طبقي حاد بين ساسة أثرياء وشعب فقير، وما خرج به المؤتمر هو اعادة اقتسام لمنافع السلطة لا إنتاج جديد للها،
bull;تكريس مبدأ quot;الزعيمquot; لا الدولة: فمفهوم quot;الدولة quot; يرتبط ب quot;التداولquot; وانه لا مكان لزعيم quot;لازقquot; أبدي بل أن التعاطي بالشؤون العامة ينبغي ان يكون من خلال تعاقب quot;حكومات جيدة quot;، يرعون الإصلاح ويواصلونه من خلال سيرورة حتى تنتقل الامور من الأسوأ إلى السيئ الى الجيد إلى الأفضل...وهكذا في تطور دائم مستديم، وهذه سُنَّة كونية وايقاع دوري للحياة، كما أن هذه الرؤيا تحرر السياسي من فوبيا الكرسي والشك بالآخرين وتمنح الفرد السلام، فينطلق للعمل.
bull;رئيس الجمهورية منصب مدني: لعل الاتفاق على انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان يُعد نقطة إيجابية جدًّا، وجيدة من ثمرات مؤتمر الدوحة، وهي نقطة اتفق عليها معظم اللبنانيون في الآنة الحاضرة، لانه يوصف ب quot;المخلّصquot; للمرحلة، وهو الذي اجتاز امتحانات عسيرة وصعبة في حقل ألغام الزعماء ونزعاتهم، ونآى بالجيش في أدّق اللحظات الحرجة من اصطفافات السياسيين، غير أن منصب الرئاسة في الدول الديموقراطية منصب مدني سياسي بالدرجة الأولى واننا كلبنانيين نطمح في المستقبل أن نصل الى انتخاب رئيس من خارج الجسم العسكري، وعدم تكريس مبدأ تسيس العسكر أو عسكرة الساسة.
كلمة أخيرة ؛ إن القضية اللبنانية كانت منذ قيام لبنان والى اللحظة هي في هويته و فلسفته الوطنية، فالنظام السياسي الديموقراطي المجتزأ القائم حاليًا، نتائجه تضر بلبنان لأكثر من سبب كونها تجسد علل المذاهب بشكل مؤسسات الامر الذي يحجّر وضعًا فاسدًا، ويؤدي الى انعدام قانون انتخاب ديموقراطي،مما لا يولد أزمات دستورية وحسب، بل يخلق فئة تصطدم باحتكار ملوك الطوائف لمرافق الحياة العامة كافة.
ومؤتمر الدوحة شكل نقطة إنطلاق جيدة، يمكن للبنانيين ان يتلقفوها ويستخرجوا منها طروحات انتقالية بهدف الوصول الى مرتكزات دولة quot;محترمةquot; كاملة، قوامها وحرية الكائن الانساني و احترام حرمته وحقوقه.
ويبقى التوصل لحل أعور مرحلي أفضل من العيش في عمى حرب أهلية! وألف مبروك للبنان اليوم عيده وانتصاره ورئيسه! وتصبحون على خير وطن!
____________________________
1- لمزيد من التفصيل العودة الى دراسة تفصيلية حول مفهوم المواطنية في مجتمع متعدد للكاتبة.