quot;السياسية كلمة تعني الإدارة المدنيَّة على نحوٍ حسن، وهي لا تخرج عن كونها وسيلة لإدارة الدولة أو الأمّة على نحو ينسجم مع القيمة المعزوّة الى وجود الانسانquot; (ندرة اليازجي)
إن الفطرة الطبيعية للكائنات الإنسانية، هي حالة وجودية تسلتزم وبشكل بديهي وجود مفاهيم حقوقية تلقائية تنساب وفق المعايير والقوانين الكونية والإيقاع الدوري للحياة.
وبعيدًا عن اي تعقيدات ودراسات وتحليلات لنظريات قانونية يكرهها القارئ، فإن الانسان بوصفه كائنا عاقلا، لديه المقدرة البديهية لفهم الحقوق الأساسية لحقوق الكائنات البشرية الأخرى التي يتفاعل معها، وهي حقوق ضرورية غريزية فطرية ثلاث: حق صيانة النفس؛ وحق الحرية؛ وحق الملكية.
هذه الحقوق الضرورية لاتحتاج لاعترافٍ من أحد، وإن أقرتها المنظمات الحقوقية، والمواثيق الدولية، ونصت عليها الأعراف، وحثت عليها الأديان وهي مما عُلم بالضرورة منذ بداية الخلق الى أبد الآبدين.
ولَعلّ الكلام عنها من نافلة القول؛ غير أن عنفَ عصر المادةّ الذي نحياه وقساوة الظروف الإنسانية وجفاف الروح الذي نعيشه، والابتعاد عن جواهر المعاني؛ تحتم علينا أن نعيد النظر في أبسط حقوقنا الانسانية والروحية التي أودعها المكون في كائناته؛ والتي فقدناه إما فرادى أو مجتمعة.
وتتضافر العوامل في منطقتنا لدرجة مقلقة تجعلنا نتسائل فعلا: هل الكائنات المُمتتدة من الخليج الى المحيط ينطبق علينا مسمى إنسان بعد ان فقدت أبسط حقوقها؟؟؟ هل نحن أحرار؟؟؟ فمن حقنا ان نطرح اشكالية الحرية كل يوم حيث الأنظمة جاثية بالحديد والنار منذ عقود على صدور الأمم والشعوب!! ومن حقنا ان ندافع عن أنفسنا ونرفع الظلم من غير عنف ولا تعدي!!!ومن حقنا أن نسائل حكوماتنا عن فسادها وهدرها وثراء زعماءها!!
لقد سُلبَ الانسان كرامته وجُردّ من إنسانيته، إما بشكل مباشر عبر العنف والسجن والتنكيل المباشر، وإما عبر ممارسة الضغوط الغير مباشرة بحيث لا يعود للإنسان همّ سوى ان يؤمن كسرة خبز و لقمة العيش لاستمرارية حياته المادية؛ وهي ما يعرف باستراتيجية quot;الحمار المربوط بالرحىquot;، فيمضي طيلة عمره وهو يلف في دائرة ينتهي من حيث ابتدى، وسواء كانت الدائرة كبيرة أم صغيرة إلا ان النتيجة واحدة، فالشعوب عبارة عن كائنات تدور في طاحونة اقتصاد الزعيم المستفيد من دوامة من إعادة شروط انتاج الطاعة و الخنوع .
إن الحفاظ على الوجود الذاتي للانسان وصيانته حق فطري غريزي تلقائي يشترك فيه الانسان والحيوان كما سائر الكائنات، و هذا الحق منقوص بل ومعدوم في كثير من الدول فمؤشرات المنظمات الحقوقية تظهر ارقام كارثية نورد منها على سبيل المثال لا الحصر: يعيش 70% من سكان سيراليون بأقل من دولار واحد شهريا، فيما تخطت نسبة الفقر في مصر 52 % و 24 بالمئة منهم يعيشون بأقل من دولارين شهريا....
ولعل فقدان الحرية أسوأ الشرور وربما تفوق الحرمان المادي في بعض الأحيان، لا سيما فيما ابتُلينا به في عالمنا العربي، وهو أن تكون إنسانًا خاضعًا لإرادة سلطة إعتباطية مجهولة المرتكزات، وان كانت معلومة الصورة على شكل حكومات، هي بطبيعتها قلقة ومقلقة في آن ؛ فهي قلقة لفقدانها الاستقرار الداخلي لبنيتها، حيث ان ادارتها تقوم على عقلية رعوية لا على عقلية إدارية من جهة، ولخشيتها من نقمة رعاياها وانزعاج شعبها منها من جهة أخرى، وهي مقلقة لانها تتخذ من القمع والعنف أداة لتحمي نفسها، وهو ما يفسر لنا quot;قوانين الطوارئ quot;المجددة والمددة والغير محددة منذ عشرات السنين في بعض الدول التي تخشى الانسان بذريعة الارهاب!
أما حق التملك فقد عملت بعض الحكومات على مصادرته وهي تدّعي انها نظام حرّ! علما أن معظم الانظمة العربية في الفساد المستشري سواء؛ سواء تلك التي تتبنى فلسفة اشتراكية في الاقتصاد او تلك التي تعتمد نظاما رأسماليًّا حرًَا، ذلك أنها جعلت المقدرات الاستثمارية للشعوب في أيدي حفنة من حاشية الرئيس وعائلته من خلال التلزيمات والمناقصات الوهمية والعلنية والمشاريع المدرجة في أدراج المكاتب الفارهة...
و من المفارقات الغرائبية ان تهتز حكومة أولمرت رئيس وزراء اسرائيل لاجل قضية فساد لا تتجاوز 300 ألف دولار- هو مبلغ متواضع نسبيا استعمل في حملة انتخابية - فيما سُلّمت الخزانة الفلسطينية فارغة عند تشكل الحكومة ! و في حين ان بعض حكوماتنا العربية العتيدة لا يهتز لها جفن لسرقات بالمليارات الصافية التي لا تدخل الميزانيات أصلا بل تُحوّل جهارًا نهارًا الى حساب من لا يُجرأ أحد على تسميته ! حيث لا يجرؤ مخلوق على مجرد التلميح لا التصريح! لأن المسؤول(طويل العمر) منّزه مقدس لا يُسئل وهو ملاك هبط من عند الالهة ليحكم البلاد!
طبعًا في منطقتنا نجد ان الحقوق الانسانية الضرورية الثلاث منتهكة، مع تفاوت النسب من بلد لآخر بطبيعة الحال، إلا ان هذه الحقوق انتهكت مجتمعة و بالكامل في غزة، فالوضع أكثر من كارثي والحقوق الانسانية معدومة بالكامل: انعدام الأمن، ومصادرة حق الدفاع النفس، و فقدان الحرية من خلال الحصار، علاوة على الفقر المدقع، فالمؤشرات تظهر ان اكثر من 70 % من سكان غزة يعيشون على المعونات التي تقدمها المنظمات الانسانية، مما يجعل السكوت عما يجري نوع من التواطؤ والعار بحق الانسانية نفسها، وهو ما جعل من القطاع quot;بؤرة عنفquot; وquot;كوكبًا متفجرًّا داميًَا quot;، فالكائن عندما يُحرم من حقوقه الضرورية الفطرية يتحول الى طاقة لا متناهية من الانفعال السلبي الجارف..
وعلى اسرائيل كما سائر حكومات المنطقة أن تعي تمامًا أن الاحتقان المكتنز داخل صدور العباد، وشعورهم بانعدام العدالة والاهدار المتكرر لحرية وكرامة سيؤدي الى انفجار شعبوي لا يمكن السيطرة عليه بحال من الأحوال، وهذه الظروف هي التي تدفع بقسم كبير من الشباب الى تبني العنف كخيار أول للتعاطي مع اي جهة quot;رسميةquot; .
لا أريد من سرد هذه الوقائع مجرد المطالبة بإطعام الناس أو إعطائهم شيئًا من حريتهم، غير أن حقيقة الاشكالية تكمن في فلسفة العمل السياسي العربي نفسها وفي جوهر البنى المؤسسة للممارسات، التي تُشَرِّع هتك حرمة الانسان من خلال القوانين.
إننا اليوم بإمكاننا الارتقاء بمستوى الاداء السياسي من خلال تبني فلسفة سياسية تعتمد على مقتربات تحترم كينونة الكائنات(الانسان والحيوان والبيئة ...) وتنسجم مع الكون تتبلور الرؤية تَعتبر ان السياسية نوعًا من التأليف والمؤالفة والتكامل بين الكون والمجتمع البشري والانسان، وذلك يترجم من خلال مجتمع ايجابي قائم على فطرية الحقوق الانسانية والكونية، وهي بهذا الوصف استراتيجية ادارة مدنية لمجتمع مدني منسجم مع القيم الوجودية،التي تدور في فلك كوني حيث تتلاشى تدريجيا وتلقائيًَا مفردات السياسية ومقترباتها في دائرة احترام الحقوق الكونية أولا.
ومن هذا المنطلق يكون دور السياسة في ايجاد العلائق الاجتماعية التي تتحلى بالاستمرارية والديمومة الموّلدة لمستويات واقع جديدة مغاير لسابقها وفقا لعقد اجتماعي وسياسي يقوم على فكرة القبول و يكون السياسي - quot;نخبةquot; - يتحلى بالحكمة والفضيلة لادارة الحقوق المدنية واعادة التوازن للمجتمع، وهو الخادم لتطبيق العدالة، وان أولى ما ينبغي ان يتصف به هو ان يكرم الانسان ويرفع من شأنه ويعامله بكرامة تليق بكينونته، وهذا لا يكون الا عبر سياسة تنبذ العنف بالكامل.

[email protected]
http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com