سألَ احدُ ملوك الصين القدماء، بعد انْ عمتْ الفوضى و شاع الفساد في بلاده، رئيسَ الحكماء عن وسيلة لضبط احوال البلاد، فاجابه الحكيم: اضبط اللغة. فاذا ضُبطتْ اللغة ضُبطتْ المعاملات والقوانين والموازين ونعمتْ البلاد بالرخاء والامان.
***
بداهة الحكيم الصيني تلك، سارية المفعول لدى شعوب الارض قاطبة، والحضارات البشرية تـُعرف من براعتها في صناعة قواميسها قبل ان تـُعرف من خلال نشاطاتها الاخرى. القواميس هي نواميس البشر. فهي حاملة معارفهم وفنونهم واخلاقهم وقوانينهم وحضارتهم على نحو كامل. وكانت قواميس اوكفسورد وويبستر الشهيرين وغيرهما يضاف اليها ما استجد من كلمات كلما اعيدت طباعتها سنويا. و قد فتح عصر الانترنيت الباب واسعة على التجديد المستمر للقواميس وموازين الكلمات بشكل يومي. فلا يتيه احد ما عن بلوغه حدود كلمة ما بمجرد نقرة صغيرة على الكيبورد.
***
القواميس تنهل من منبع لا ينضب، روافده الادب والفنون الكتابية الاخرى والحديث اليومي. فالكلمات تتغير مداليلها وتتبدل نتيجة الاستعمال اليومي. ويرى سوسير ان الخطأ في استعمال الكلمة حين يشيع ويصبح سائدا هو من احد اهم الاسباب في تطور اللغات ونموها.
***
وقد قيل عربيا، الخطا الشائع خير من الصواب الضائع. المقولة التي بقيت ترددها السنُ العرب دون ان تجد لها تجسدا فعليا. وظل الخطأ اللغوي (الشائع) منطقة محرمة تضاف الى قائمة المحرمات الطويلة بين ظهرانينا. ومن اشتغل في اقسام التصحيح اللغوي في الجرايد العربية يعلم درجة حُرمة تلك المناطق. تلك المهنة التي كان يرتزق منها الادباء والكتاب ويبدو انها موشكة على الانقراض مع انبلاج عصر الكومبيوتر.
***
كان حامل راية السلامة اللغوية الى جنة الخلد العربية المرحوم مصطفى جواد، مع احترامنا لجهوده اللغوية ومكانته العالية، في كتابه الشهير (قل ولا تقل). ولكي نذكر مثالا واحدا على صرامته اللغوية وجموده، اليك التالي. حيث يرى ان القول quot; غرقتْ السفينة بمن فيهاquot; هو خطأ فادح وشنيع والصواب ان تقول quot; غرقت السفينة مع من فيها quot;. ويعلل ذلك بقوله ان الاولى تعني انهم غرقوا داخل السفينة وهو امر غير ممكن منطقيا، اما الثانية فتعني انهم غرقوا هم والسفينة معا. وهو راي رغم اعتزازنا الكبير باستاذنا المرحوم الا انه يتطرف ويتصلب كثيرا في اصغائه لقولة ذالك الحكيم الصيني الذي اوصى بضبط موازين اللغة. وهو يذهب ضحية المدارس النحوية ذات التوجه الاصولي المتزمت والتي حاولتْ ان (تحصر) معاني حروف الجر حصرا لا تدع فيه شاردة ولا واردة الا ووضعتْ لها معنى محددا، رغم ان النحو العربي في اوّل بيانه التاسيسي مع ابي الاسود الدؤلي قام على اصل ثابت في تقسيمه الثلاثي للكلام العربي. وكان الحرف هو الاصل الثالث بعد الاسم والفعل. اصل يقوم على حقيقة ان الحرف هو ما (لامعنى له) في حد ذاته. بل ياخذ معناه مما اقترن به، الاسم او الفعل، وتحدده الجملة وسياق الكلام الذي يرد فيه. وهو ما يعرف نحويا بالتضمين. اي ان يُضمن حرف الجر معنى يلائم سلامة الكلام ومعناه واستقامته. كان ذلك سياسة المدرسة الثانية بينما ادت المدرسة الاولى التي حاولت ان (تحصر معاني) حروف الجر الى ذلك الجمود الذي نعيشه في لغتنا العربية ونتنفس هواءه الخانق. بينما كان لمدرسة التضمين في معاني حروف الجر ان تــُستبعد الى الهامش مثلما استبعد ابو العلاء المعري ليحل مكانه المتنبي او البحتري، واستبعد النفري وابن عربي ليخليا المكان لكل من المجلسي وابن تيمية.
***
اضافة الى ذلك فان راي المرحوم له ما يماثله في الفقه الاسلامي فهما، النحو العربي والفقه الاسلامي يتحاذيان ويعضدان بعضهما بعضا لجهة اغلاق الابواب على كل ما استجد في الحياة لغويا وفقهيا وقد قيل قديما النحو منطق عربي. فعلماء اللغة العربية استنسخوا اليات الفقه وادواته وارتدوا جبة الفقيه وعمامته واستروحوا فيها خير استرواح.
***
ورغم ان للعرب فضل السبق في صناعة القواميس في وقت مبكر قياسا للحضارات الاخرى الا ان تلك القواميس كانت اشبه برفسة الميت كما يقال في المثل السائر. فقد مضى اكثر من الف عام وهم ما يزالون ممسكين بتلك القواميس وكأن لسان حالهم يقول: هذه لغتنا لقد وضعناها في بضعة قواميس شاملة وكاملة وجامعة ووافية، ولنا فيها مطرح وملعب هما بسعة الكون ولسنا في حاجة الى اضافة او تعديل.
***
ولد الفراهيدي عام 100 هجرية وهو اول من وضع معجما للغة العرب وسماه العين واكمل معجمه في اواخر حياته حياته حولي عام 150 هجرية. ذلك القاموس العجيب الذي يسجل الكلمات من مؤخراتها وليس من اوائلها كما هي الحال الطبيعية مع سائر قواميس البشر. ونتسائل هنا، هل كانت سلطة الشعر العربي وراء هذا التصنيف الغريب؟. ام هل اصابت الخليل ابن احمد لوثة الشعراء العرب، نعني البراعة في المديح ولحس لعاب الملوك والامراء ومداعبة ما بين افخادهم. فاجرى لهم نهرا يغترفون منه القوافي العصية دون عناء وتعب. ولكن تلك قضية اخرى.
***
ومع ابن منظور، عاش في ما يسمى الفترة المظلمة بعد سقوط بغداد على ايدي المغول، ادخل العرب لسانهم في كهف معتم يشبه كهف افلاطون الشهير ووضعوا صخرة كبيرة على بابه اسمها ابن منظور. فلم تظهر بعده سوى بضعة قواميس بائسة لم تزد على لسان العرب الا النزر القليل. وهكذا بقي العرب يلوكون ويعيدون كلامهم في ذلك الكهف الذي استانسوا به واستطابت لهم الاقامة فيه، ولم يدونوا شيئا مما استجد من الكلمات او ما تغير من دلالاتها منذ القرن الثاني للهجرة حين اغلق اوصياء اللغة وسدنتها باب (الاستشهاد) او الاعتماد، بتعبير حديث اذا صح التوصيف،على ما يقال ويستعمل في المعيش اليومي، لانه ابتعد عن نقائه الصحراوي الاول، ومازالوا على تلك السجية الحميدة حتى يومنا هذا.
***
وراهنا، اذا ما القينا نظرة سريعة على مجمع اللغة العربية في القاهرة نجد مقدار الهشاشة والضعف والجمود والمحدودية وقصر النظر والتحجر الذي تنتهجه سياسة ذلك المجمع الهزيل الذي لا يصلح الا ان يكون دعابة سمجة اخرى من دعابات العرب الكثيرة، تلك الشعوب الهائمة في نرجسية غريبة والساجدين ليلا ونهارا لما تم تدوينه من كلام اجدادهم الصالحين واكتفوا به (حيث فيه تفصيل كل شيء) رغم ظهور عصر الطباعة ومن ثم الانترنيت. وكان الاجدر بهم، وخاصة حملة اللواء القومي الذين هبطوا علينا مصلصلين ومجلجلين ببشرى بعث التراث العربي واحيائه، ان يدركهم بعض خجل من انفسهم وهم يرون ارثهم الثقافي التاريخي وهو مليون مخطوطة كما تشير الاحصاءات ما تزال راقدة في السراديب طعاما شهيا للجرذان والرطوبة وما زالت باكرة لم يمسس عذريتها احد سوى خمسين الفا منها وجدتْ طريقها الى الطباعة، اسهم العرب قاطبة على اختلاف مشاربهم ومطاعمهم وملابسهم بطبع خمسة عشر الفا فقط، بينما تصدّق عليهم الغرب الاستشراقي بطباعة خمسة وثلاثين الفا منها دون ان يتبرع اهل الضاد لذلك الاستشراق الذي عرّفهم بتراثهم وانقذه من رطوبة السراديب وهواية الجرذان بكلمة شكر اوعرفان، بل على العكس من ذلك، فلقد انزلوا كل ما في افواههم اللاهبة من شتائم واتهامات على مَن اسدى اليهم تلك الخدمة الجليلة.
***
وعودا على مجمع اللغة العربية، كي نذكر مثالا وحيدا على هزاله، ناخذ كلمة (برج). فكل ما يذكره ذلك المجمع المقدس هو التالي: (بَرَجَ: البُرْجُ الحصن وبيت على السور وبناء عال. وتَبَرَّجَتِ المرأَة: فهي متبرجة). هذا كل ما يرد في باب كلمة البرج. بينما يورد ابن منظور ما يقرب من ثلاث صفحات لهذا الجذر، فكيف يكون اللاحق اقل من السابق، هل اصاب لغة العرب داء الانكماش ام اصابها داء ابو صفير ام ادركها الخرف والنسيان ام هل تعرضت لرياح سموم صحراوية ذهبت بجلدها ولحمها وتركتها محض هيكل عظمي. فيالها من فداحة موجعة ويا له من بؤس. لكن الخجل والتواضع ليستا من مفردات العرب. ولك عزيزي القارئ ان تقيس على بقية الكلمات والابواب والشبابيك.
***
المشكلة الاخرى في معاجم العرب جميعا ،وهي (ام المشاكل)، كالعين والمحيط والمحكم المحيط الاعظم والصحاح وتاج العروس وذخر النفوس والمعجم القدير ومعجم المعاجم الكبير، انها لا تورد كل كلمة على نحو مستقل بل تتبع نظام الجذور. فلكي تعثر على معنى كلمة ما عليك ان تعيد الكلمة الى جذرها وان تطوف بعينيك على كل مشتقات الجذر حتى تجد ضالتك وغالبا ما لا تعثر عليها مع ما في الامر من هدر للوقت ووجع راس ومفاصل وعيون. هذه شرعة معاجم العرب ومازالوا عليها عاكفين الى يوم يبعثون.
***
اين موضع الخلل اذن؟ هل هي قضية كامنة في جيناتهم؟ واذا كان الامر كذلك فهل من امل لهذه الشعوب، التي تمتاز بفضيلة مدهشة هي فضيلة الاجترار، في تغيير تلك الجينات، مثلا بتطعيمها بجينات شعب آخر او بكائنات مريخية. وهل لهم ان يصمدوا امام اعصار التكنولوجيا الحديثة وعصر المعلومات وهل من امل في ان تمتد اليهم عصا سحرية توخز اردافهم وتبعث فيها الحياة. واذا كان الامر كذلك فهل بات امر انقراضهم كلغة وثقافة وهوية وشيكا ولا محالة عنه؟ هل هي مجرد قضية وقت لنشهد ذلك الغياب والاندثار؟ انتظروا كي تروا. انا معكم منتظرون.
***
لا تحتاج صناعة القواميس وخاصة اذا كانت الكترونية، وهو احوج ما نحتاج اليه هذه الايام لسعته وسهولة وصول القارئ اليه ورخصه، سوى الى قليل من العقل وقليل من التواضع وقليل من التنظيم والحرص على تكوين دولة عصرية وهي امور بالتاكيد ليست واردة في قاموس العرب.
***
القواميس هي مرآة الشعوب. ومن قواميسهم تعرفونهم.