الأحد 18/ 1
* رغم قرارهم بوقف النار، هي ذي الأخبار تتلاحق منذ الصباح. استشهاد شاب في خزاعة، كان ذاهباً لتفقّد أرضه الزراعية المدمرة، وقد صدّق أنهم أوقفوا إطلاق النار، فقتلوه على المطرح. أسأل زملائي الصحفيين عن اسمه، وأعرف بعد دقائق من سؤالي، أنه ماهر عبد العظيم أبو رجيلة - ثلاثة وعشرون عاماً، ولدٌ على عدة بنات.
بضع دقائق، ويأتيني خبر ثان: ضرب مركز شرطة خان يونس بصاروخين إف 16. تمّ هذا في ساعات الفجر، مع الإشارة إلى أنّ المركز قُصف مرة من قبل، وهو خال، لا يوجد به أحد. فقط يقصفونه ثانية، لتدمير ما تبقّى منه.
* أنتظر أخباراً عن quot;الخارجين من الزلزالquot;، هناك في قرى الشمال وأحياء غزة. لدي قناعة بأنّ ما سيُكشف من فظائع، سيتجاوز كل ما قيل وبُثّ، طوال الاثنين وعشرين يوماً المرعبة السابقة. سيرى العالم كله، أنها كانت حرباً تدميرية، ليس على المقاومين، وإنما على الحضارة الإنسانية ذاتها. فجميع مظاهرة الحياة هنا، ضُربت وخُرّبت ومعظمها زال. أولمرت يقول انتصرنا. نعم يا أدوني، بل يا أدوناي، لقد انتصرت بالفعل، انتصرت على المدنيين العُزّل وعلى الأبرياء. انتصرت عليهم، بأن جعلتهم وحيدين، لا تأبه بهم الحكومات ولا الهيئات الدولية. دمّرت حياتهم وقتلت نساءهم وأطفالهم وشيوخهم، فهنيئاً لك هذا الانتصار.
* من 148 ألف مبنى في عموم القطاع، بما فيها المدارس والمؤسسات والوزارات، فضلاً عن منازل المواطنين، دُمّرَ 20 % من هذا العدد، كحد أدنى. لم نُحصِ كوارثنا بعد، لكنّ جهات دولية تتوقّع هذا. وتقول إنّ تكاليف رفع وإزالة الأنقاض، لن تكون بحال، أقلّ من 600 مليون دولار. أما مجمل الخسائر، فهي مليار ونصف المليار من الدولارات. إنه رقم خرافي على إمكانيات غزة. رقم مهول، فنحن شعب فقير وأكثر من 70 % منا يعيش على المساعدات.
الأحد ضحىً
يدخل علينا زميل لاهثاً. خير؟ وجدوا مئة و 3 جثث حتى اللحظة، تحت أنقاض البيوت المدمرة. أشعر بالصدمة. أين؟ في منطقة العطاطرة، وأماكن متفرقة. كيف؟ يقول إنّ الأهالي المُهجّرين، بعد توقف الحرب جزئياً، عادوا إلى مناطقهم ليتفقدوا الوضع. فمنهم المفقود، ومنهم من لا يعرفون عنه أية أخبار. هناك فوجئوا بعشرات الجثث، لأقرباء وجيران لهم، لم يتعرّفوا على ملامح أصحابها، نظراً لتحلّلها وانهراسها تحت الردم. قال: اتصل بي زميل يُصوّر هناك، وأخبرني بأنه ذُهل من بشاعة المناظر، فلم يستطع إكمال شغله.
أذهب إلى غرفة فارغة من موظفيها، وأسرحُ: وحيدون. والألم من كل هذه الوحدة، يتحوّل إلى ضيق نفَس، ثم.. فجيعة مادية في الحلقوم. أقول لروحي، إنهم وفي أوربا كلها، دفعوا مبالغ خرافية لدولة الإرهاب، تكفيراً عن المحرقة النازية. فمن سيعيد إعمار غزة؟ من سيدفع لنا، تكفيراً عن المحرقة الصهيونية؟ وحيدون.. والألم من هذه الوحدة، يتحوّل إلى تشنجات في الوجه، ثم... نار فاجرة في عظمة الساق.
* أخرج إلى الفضاء. أريد مزيداً من الأوكسجين. مزيداً من السيطرة على جسمي. وربما أيضاً جرعة أنسولين. أذهب إليهم في العناية المكثفة، على بعد أمتار. أدخل. حالي سيء يا دكتور. لا أعرف، هكذا فجأة. أتمدد على السرير، ويفحصني الصديق، ثم يضحك. لا شيء. من كثرة حركتك، تعبت. تحتاج راحة، لا دواء. كيف أرتاح وبي هذا quot;الوجدquot; لمعرفة كل التفاصيل! لكأنني أُلاحق امرأة معشوقة لا حرباً. لا بأس. ستأتي الكثير من ليالي الراحة تلك. ثمة متسع.
* أصعد إلى الطابق الثالث في مبنى الإدارة. هنا يوجد تقرير يومي، لكل المستجدات بخصوص لجنة كسر الحصار. آخذ من المكتب الإعلامي للجنة، هذه المعلومات. أمس السبت، دخلت 2500وحدة دم مقدمة من مصر، عبر المعبر. واليوم الأحد، دخلت أيضاً ثماني شاحنات محملة بالأدوية والمعدّات الطبية، في إغاثة عاجلة للمستشفيات. كما دخل عبر المعبر أيضاً، 24 متضامناً وطبيباً من ألمانيا وأيرلندا وتركيا وأندونيسيا. إلى جانب ذلك، تمّ نقل 33 جريحاً للعلاج بالخارج. أما شاحنات الغذاء، لم تدخل واحدة منها حتى تاريخه. إنها ما تزال تقف هناك في العريش وقبالة معبر رفح، مكدسة بأحمالها، في انتظار غودو، ليُعطيها إشارة المرور والعبور. المرور والعبور نحو شعب يعاني، كما لم يعان من قبل، من نقص حاد في هذه المواد. ماذا ينتظر المصريون؟
* يُطالب التقرير بقدوم المنظمات الإنسانية العاملة في مجال حقوق الإنسان إلى غزة، للاطلاع مباشرة على حجم الدمار، والوقوف على جرائم الحرب البشعة، التي لم تلتقطها كاميرات التصوير بعد. ثم أختمُ بآخر فقرة فيه وأنقلها كما هي: [نشدد على ضرورة تقديم القادة الإسرائيليين، العسكريين منهم والسياسيين، إلى محكمة الجنايات الدولية، بتهمة ارتكاب جرائم حرب في القطاع] ثم يختم: [ يجب على العالم الحرّ أن يستيقظ من غفلته، وأن لا يقف بجانب الجلاّد ويلوم الضحية]. أبتسم: ليت هذا الكلام يُوجّه أيضاً لبعض الكُتاب من بني جلدتنا!
الأحد ظهراً
أُجري حواراً مع مُمرضين من نقابة التمريض الأردنية. أراهم يعملون بحميّة، في قسم العناية المكثفة. شباب ممتازون، وسريعو التصرّف. ما زالت بعض الإصابات تأتيهم هنا. يلهث أحدهم ويقول إنّ النقص في المعدّات والمستلزمات الطبية، هو المشكلة. على وزارات الصحة العربيات عدم التلكؤ. الحال لا يسمح. يتصل أمامي بالنقابة في الأردن. يشرح لهم، وأخرج. أنظر فوق. لا تزال الزنانة تحلّق على عدة ارتفاعات. أما الإف 16 فقد ارتحنا من هديرها المروّع. فهل ارتاحت باقي المناطق؟ أتمنى. لا يعرف هول هذه الطائرة إلا من عاش تحت غضبها وزمجرتها. طائرة مرعبة للجيوش، فما بالك للأهالي والمدنيين؟ أرقب السماء: شمس شتائية ضاحية، وغيوم خفيفة ناصعة البياض تتهادى ثم تنحلّ. يرتفع الأذان، ويهرع كل الأطباء والممرضين للجامع. أبقى أنا وزميل ثان. هو يقرأ من الشبكة، بينما أقوم لإعداد شاي. هل عدت لعائلتك؟ نعم. ورأيت أولادي وزرت أمي، يُجيب. أخيراً سترتاح. أقول، فيضحك ساخراً: أية راحة في هذه المهنة القاسية؟ صدق من سماها مهنة المتاعب. بالعكس: علينا مهمات أكبر الآن. يجب تصوير كل آثارهم وتوثيقها. علينا البحث في كل زاوية وزقاق. لن ندع هذه الجرائم تمرّ. لن ندعهم يكسبون الحرب!
* أخرج معهم - لكي يُصوروا هم وأرى أنا. نتّجه شرقاً صوبَ منطقة الفخاري، بعد المستشفى الأوروبي. نركب السيارة ونحاذر. فثمة جيش ودبابات قريبة. نتجاوز مقر مبنى التموين السابق، وهناك يقول لنا الأهالي: إرجعوا. التقدم أكثر يُعرّضكم لإطلاق نار. هنا آخر حدّ للتنقل الآمن. أنظر في عيون زملائي، وبدون اجتهادات، نستدير للخلف. تتعطّل السيارة، فنأخذ وقتاً في تصليحها، ثم نعود.
الأحد عصراً
* يُعلن موسى أبو مرزوق (قريبي متزوّج من شقيقته) وقفَ إطلاق النار، بالتنسيق بين الفصائل، لمدة أسبوع. يقول من دمشق، إنها مهلة لإسرائيل كي تنسحب من أراضي القطاع. أظنّه قراراً معقولاً، ويمكن البناء عليه، في حال تعقّلت إسرائيل.
* أعود للبيت، فأجد أخت زوجتي في زيارتنا. نتبادل التهاني بالسلامة، وتسألني عن حقيقة انتهاء الحرب. لا أريد الإثقال عليها، بمحاضرة. فهي ككل الأهالي المكتوين بهذه النار، ترغب في سماع كلام يُبشرها بالخير ويُطمئنها. أرفع من معنوياتها، وأبالغ في التطمين. فليس أحوج من الأمهات الفلسطينيات لمثل هذا. إنهنّ يدفعن الثمن مضروباً في أضعاف. فقر وموت ومسئوليات إضافية تُلقى على كواهلهنّ في الحروب. آه كم أضعُفُ أمام الأمهات.
* تذهب الأختيْن بأولادهما، رغم إصراري على بقاء الضيفة، فأنا أعرف أنها تتحرّج الآن، وتفكّر في رغبتي بالغداء وخلافه. أصرُّ وتُصرّ. ثم تذهب، فآكل ما تيسّر، وأجلس أمام القناة العاشرة. يمضي الوقت ولا أشعر، ثم يُرفع أذان المغرب من الجامع القريب.
الأحد مغرباً
* أجلس لأكتب هذه اليوميات. لم أستفد شيئاً من القناة العاشرة. خليط من التقارير وآراء المحللين، وثمة نشوة بأنهم انتصروا. أحدهم يقول: تعلّمنا جيداً من أخطاء حرب لبنان. لن تعود حماس لحال ما قبل هذا الهجوم الكاسح، قبل مرور سنوات. يُسميه quot;الهجوم الكاسحquot;. ما معنى هذا التعبير؟ معناه، وهم أرباب عقيدة الاستعلاء والمرض بالقوة، إنهم لم يخوضوا حرباً، بل مجرد هجوم كاسح. وإذا لم ترتدع حماس، فثمة في جرابهم quot;حربquot; ستمحق كل غزة، وتجعلها شيئاً من ماضي الجغرافيا. طُزّ فيك وفي الذين علموك هذه المهنة. quot;التحليلquot; قال..!

الأحد عشاءً
* مستغرق في الكتابة. تتصل أختي في المخيّم، وتصرّ على خروجي الآن للبحث عن كيس طحين لها ولأمي. تردّ زوجتي بأني أكتب، ولا تستطيع دخول الغرفة عليّ، لئلا أتعصبن. أسمع حديثهما، وأتعصبن قليلاً [ليس على الطلب، فهو طلب عادل، خاصة أنني أخذت كيس طحينهم في بداية الحرب، ولم يبق لديهم الآن سوى عجنة واحدة] بل أُعصبن على علوّ صوت الطرفين: الأخت والزوجة. إرحموني يا ناس! كلّه إلا الصوت العالي، فما من أمر يسوؤني مثله. أترك الورق والقلم، وأقوم أغيّر ملابسي، وأذهب للبحث عن طحين. ساعتان في اللفّ والدوران بلا فائدة. الطحين مقطوع. أتذكّر الشاحنات هناك، على الجانب المصري، وأتحرّق كي تنتهي بيروقراطيتهم (هل هي بيروقراطية فقط؟) فتدخل الشاحنات.
* أذهب لبيت العائلة، وأحتاج إلى ساعة، من أجل إقناعهم بما حصل. ثم أعود للبيت، وأرجع لأمي بعشرة كيلو من هذه المادة. يضيع الوقت، وأفقد تركيزي، لذا أشيح النظر عن مواصلة التدوين.

الأحد ليلاً
* يتجمّع حولي الأولاد، ويسألونني: هل خلّصت الحرب يابا؟ لا أحب الكذب، خصوصاً مع الأطفال من الأبناء. أحاول تهدئتهم وتطمينهم، لكنني أخشى، بعد مرور ساعات أو أيام [فالشيطان وحده مَن يعرف كيف ستتصرف إسرائيل] باتهامي بالكذب. لطالما فعلوها! أبونا كذّاب. هكذا في أمّ عيني! مع أنني فقط أسهو، ولا أحب الكذب أبداً. بكرة مفيش طيّارات يابا؟ لأ مفيش يولاد. وقتيش المدرسة؟ السبت الجاي إن شاالله. يعني نطمئن؟ يعني إطمئنّوا. طيّب! هات شيكل تحلاية! أفلاطون ذو الست سنوات، الشقّي، صار مثل دولة إسرائيل: أُستاز في الإبتزاز! لمين طالعْ وَلَهْ؟ أبوك أهبل، وعمرو ما حسبها، لمين بسلامتك طالعْ؟ يضحك ويسخر مني، فأنا فقط quot;شاطر أكتب بس. غير هيك بينضحكْ عليكْquot;! آخذه في حضني، وأشبع فيه تقبيلاً، فمنذ بدء الحرب وأنا مشغول عنهم، وهم يقومون بواجباتهم وواجباتي كذلك.
* أقوم للكتابة، وأسمعهم يشكون لأمهم: quot;عمرنا ما شبعنا منه. يقعد معنا وعينه على quot;الساعةquot;. وقتيش يفضى لنا؟. تؤلمني هذه الشكوى، فلو كانت اقتصرت على وقت الحرب، لهانت، ولكنني مشغول عنهم دائماً. هل ألعن quot;الكتابةquot; واليومَ الذي quot;كتبتُ فيهquot;؟ لا بأس. كلنا يدفع الثمن. وحالهم أفضل من حال غيرهم. سأواصل.. سأواصل كأنني لم أسمع!
* ينامون. بعد قليل، سأطلق روحي في فضاء التهويمات أو الهذيانات. لقد اكتشفت في الحرب، أنّ قليلاً من الهذيان [ ويا ليت ثمة منه الكثير] يغسل الروح من ضغوطها وأدرانها. ثمة مياه جوفية، لا بد من الوصول إليها، هناك في القاع، بعيداً عن قشرة العقل، كي أشرب فأرتوي. فمع لغة مباشرة: لغة وقائع وأحداث وتفاصيل، تشيخ الروح على حين غرّة. هذا هو درس هذه الحرب. لا تُعطِ نفسك لشروطهم ومواضعاتهم. لا تجعل عدوك، يُسيطر على بعض الخصوصية فيك. ولو كنت شاعراً، أُطرد أشباحهم ومادتهم الثقيلة من قصيدتك. القصيدة تفسد، إن لم تُملّح بذلك الماء quot;البارد والمحروسquot; على حدّ تعبير صلاح ستيتية.
الأحد بعد انتصاف الليل
* آخذ فسحة راحة، وأجلس قدام التلفزيون. ثمة في quot;الجزيرةquot; إسماعيل هنية يخطب. أستمع إليه، وأوافق على حديثه عن quot;انتصار غزة وشعبهاquot;. سيخرج كثيرون ويسخرون من هذا quot;النصرquot;. سينسون أنه تكلّم عن quot;هذا الانتصار الذي تجلّى في هزيمة العدو سياسياً وأمنياً وأخلاقياًquot;.لم يتكلّم أبو العبد عن انتصار عسكري. تكلّم عن صمود الضحية وانتصارها الأخلاقي على جلاّدها. ما علينا. المهم ألا يستعجل في الخروج من مخبأه. فعين العملاء ومن ورائهم الشاباك بالمرصاد. أتمنى له حياة مديدة. فهو واحد منا: واحد من الناس. جلست معه مرة، وهو رئيس وزراء أول حكومة بعد الانتخابات. سألته وأجابني. بالفعل، ثمة اختلاف. بالفعل، لا يُشبه النوعية التي عرفناها من القادة السابقين. احترامي لهذا الرجل.
* طبيب نرويجي زارنا هنا، وعاد لبلاده. طبيب محايد يُقدّم شهادته. يتكلّم عن سلاح جديد يُستخدم لأول مرة. نوع من القنابل الرهيبة يُسمّى quot;دايمquot;. أخذَ عيّنات من غزة وفحصها في بلده وتأكّد. رأيت بنفسي حالات لمواطنين وصفها لي بروفيسور مصري بأنها quot;غامضة ولم تمرّ عليه من قبلquot;. ها هو النرويجي يكشف عن اسمها ونوعيتها. وقبله، في حوار مع البروفيسور اليهودي جاك بيرس، أجريته معه ونُشر في إيلاف، تكلّم عن هذا السلاح بالإسم. إنه أول الخيط إذاً، وثمة مُخبَّآت كثيرة سينجلي عنها غبار هذه الحرب.
* وصل العدد الإجمالي للشهداء 1300 شهيداً. نسبة الأطفال والنساء بينهم بلغت 40 %. ووصل عدد الجرحى إلى 5500 جريحاً. نسبة الأطفال والنساء بينهم بلغت 50 %. ولم ينكشف كل المستور بعد. هو رقم كبير بالنسبة لمليون ونصف المليون من الغزاويين. تماماً كما هو كبير رقم المليارين ونيف إجمالي الخسائر الأوليّ. هذا هو انتصار إسرائيل! أَمِن قليلٍ وقوف شعوب العالم ومثقفيها مع quot;المهزومquot;؟ أحوّل على القناة الثالثة، ثم أُبدّل القناة فوراً. كفى! لقد شبعت من كذبهم الكلاسيكي. فلأذهب إلى كذب المخيّلة. هنا أرتاح. هنا حيث يغيب العقل قليلاً، وتخفّ الوطأة.

هذيانات
( )
احترام الهذيان كخصيصة بشرية.
( )
أطأُ الأرض الموحلة، لكي أتخلّص من حالة التجريد الموحلة أيضاً.
( )
الذين يسابقون الزمن ليظفروا بأكبر قدر من الكلمات المكتوبة قبل أن يطالهم داء العدم اللانهائي.
( )
ربي: للمرة المليار أسأل جلالتك: ما معنى quot;الموتquot; عندك؟ كلا: عرفت معناه عند معظم الفلاسفة، من سقراط حتى سيوران، والآن جاء الدور لأعرف معناه عند جلالتك، فهل تسمح وتتفضل بالإجابة، بعد كل ذينك الصمت والغموض العظيمين؟
( )
محكوم بجسدي وقوانينه الغبراء. أما الروح فبخٍ بخٍ لها مِن روح طليقةٍ تناسب حامليها من الناس الطلقاء!
( )
مصاب بمرض عضال اسمه quot;نوستالجيا العراقquot;.
( )
أسطح المنازل وهي مغطاة بشظايا الصواريخ، كمجاز شعري من الطراز الأول.
( )
الموت كملهاة فقط. وفّروا الجلال لشيء آخر. للمسرح الإغريقي مثلاً، أو لمكتبة الكونغرس.
( )
اليُتم كعَرَض من أعراض الموجود الفلسطيني.
( )
الفلسفة كمَرَح ميتافيزيائي، مُدانٌ في الحروب. ماذا عن مرح أبي قردان وغابي أشكنازي اللطيفيْن؟ هل يمكن ضمّهما إلى مرح الفلسفة؟
( )
السخافات التي لا تنكتب. التدخين كنوع من غبطة ومَلاء الوجود أيضاً.
( )
حتى اليهود يفعلونها: يحشرون الله في المكان الضيق، لتتسع جيوبهم.
( )
أحدهم قال quot;سأموت ولكن كل الأشياء التي رأيتها ستموت معي.quot; hellip;وأنا أقول تعقيباً على ذلك كلمةً واحدة: وإيش يعني؟ كنت وددتُ في الأول أن ألتزم بالوعد، وأقول: quot;طزّquot;، غير أنني اخترت التهذيب وعقّبتُ بالكلمتين أعلاه رغبةً في عدم جرح المشاعر، فمعذرة.
( )
أكاد لا أصدق أن العالم باقٍ إلى ألف سنة قادمة. مع أني أستهيف كل النظريات التي تقول بنهاية العالم، سواء الدينية منها أو غير الدينية. ليش لا أكاد أصدق؟ ببساطة لأنني رأيت أكثر من 200 شهيد في يومين. وببساطة لأنني أيضاً لن أكون موجوداً بعد ألف سنة!
( )
أتعب جسدياً من الجلوس بالساعات محدقاً في الشاشة البيضاء وناقراً على كيبورد الجهاز. قبل ذلك كنت أكتب بالقلم على الورقة وأنا مسترخ على جانب أو نائماً على السرير. صحيح أن الكتابة الإلكترونية أسرع وأوفر كمّاً ومحصولاً، لكن الصحيح أيضاً أنّ لها سلبيات جسدية وشعرية في المقام الأول: فمنذ أدخلت الكمبيوتر إلى بيتي، لم أكتب شعراً: أي دخل الكمبيوتر من الباب فخرج الشعرُ من جميع الشبابيك! هذه واحدة، والثانية أنّ متاعب الكتف والأصابع والعمود الفقري ازدادت بما لا يقاس. ثم هناك شيء آخر ولا مؤاخذة: وهو هذه الكتابة الآلية، التي يعوزها العمق والتمحيص والبصيرة أيضاً، فماذا تتوقع من quot;ناقرquot; إلاّ هاذ التسطيح الرهيب! عليه العوض ومنه العوض، فقد ولّى للأبد زمن الكتابة اليدوية النبيل الجميل - وهذا والحق يقال هو أخطر ما في الموضوع.
فالكتابة على الكمبيوتر مباشرة هي في الأغلب كتابة آلية، وذهنية أكثر مما تحتمل التقاليد الكتابية والأعراف.
( )
البقعة الداكنة التي لا تصلها الكتابة أبداً.
( )
يأسي من صلاح العالم، هو فأسي التي أنقّب بها مجاهيل روحي، لأصل إلى الطبقات الأقصى من تربتها الزلِقة.
( )
الكُلّيُّ وهو يتعالى علينا. أمِن قليلٍ نغضب؟ الإنسان كمتروك أبدي. أمن قليلٍ نمتعض؟
الألم ككتلة. أمن قليلٍ نشكو؟
( )
محرومون من أشياء كثيرة، منها مثلاً: هذا الحق في أن لا تكون واحداً من الشهداء.
( )
طمأنينة البقرة المجترّة. هذه هي البطولة الأعظم في هذه الحرب. لم أر أحداً وصلها للآن.
( )
الفرق الأكبر بين الشعراء والروائيين، هو أنّ الشعراء أوفر أمومة. في كل شاعر أمومة تكفي للحدب على البشر والطبيعة. الشاعر: بعض أم. وأبعاض فارس. وللطقس الرديء تأثير حاسم على الكتابة الشعرية. لا تنس!
( )
السولار للطهيّ؟ علامة على جهامة quot;الأزمنة الحديثةquot;.
( )
مجرد أن يكتب، وتراه وهو مستغرق، يصبح بالضبط: مدعاةً للضحك.
( )
رهيف الوشائج - الشاعر وهو ينعس. رهيف الوشائج - الفضاء وهو خال من تحليقهم.
( )
جيل من الغلابا نشأ في رعاية الرغيف الناشف والفلفل المخروط والدُّقّة وملابس المؤن المستعملة ومع هذا أنتج لنا كل هذا الكم من اللصوص والدكاترة ومزوري النقود والأدباء والصيادلة والفدائيين وفقط ثمة نقص عنده في إنتاج الكرادلة والقسس لأنه جيل مسلم.
( )
حيرة العقل الزراعي أمام تكنولوجيا الزّنّانة! أو بعبارة أخرى: اختلال في السياق التاريخي، وأيّ اختلال؟ اختلال بجلاجل.
( )
أريد مزيداً من الحياة كل لحظة، كل لحظة لأتغلّب على هذا الموت. سواء كان له معنى أو لم يكن. ففي النهاية لا معنى للموت حتى الموت في سبيل التحرر والدولة المستقلة.
( )
الجنس كلحظة خلود عابرة. الكتابة كلحظة خلود عابرة. الحياة كلحظة خلود عابرة. الموت كلحظة خلود أبدية. فأين قسمة الحق يا حق.
( )
الكثرة والتكرار يُزيلان الجلال - حتى إذا تعلّق الأمر بالشهداء أيضاً.
( )
الحزن فقط هو الذي quot;مبقالوش جلالquot; يا صلاح؟ غلطان يا فنان. والشهداء والشهادة كمان.
( )
عرّفْ quot;الشهادةquot; في زمن العولمة؟ إذا عرّفتها صحّ لك مني 23 دينار. ليش يعني 23ديناراً؟ لأنها كل الموجود في جيبي في اليوم الرابع من quot;القبضةquot;.
( )
حزينٌ أنا على مسيرة البشر منذ آدم وحتى هذه اللحظة. حزينٌ حدّ تمني الموت لا أقلّ. فتلك المسيرة الشاقة الراعبة لم تتكشف سوى عن quot;غابةquot; فكيف أفرح بما لديّ.
( )
إلهي الذي لا أومن بك: إن كنت موجوداً، فهذا سبب إضافي لكي لا أومن بك من جديد. فماذا يعنيني من إله يدّعي العدلَ وهو غير عادل. أظلُّ على إلحادي القديم أحسن.
( )
رقيقة ومتفهمة - أقصد سحابة السيغارة بعد النفَس الرابع.
( )
تمطر: إنها تمطر الآن، وكأنّ كل شيء على ما يرام. تمطر: تمطر ولا مؤاخذة بغباء منقطع النظير والتفكير والتدبير. حتى المطر يُكرهُ وسط أجواء الحرب: ألا يكفيهم ما فيهم يا عديم الذوق؟
( )
الكلاب المسكينة وهي تمشي وحيدةً في الشوارع، بينما الناس مختبئون.
( )
أدركته حرفة بيع الكتب فاغتنى، والآخر أدركته حرفة قراءتها فافتقر- هذا هو فقط الفارق بينهما.
( )
بنكرياسي يؤلمني - ألاقيش حدا يسفّرني على العريش؟
( )
أن تواصل الكتابة، وكأنه لا يوجد لديك ستة أولاد، تلك هي البطولة الحقّة!
( )
ليس لديّ القدرة على أن أحلم. فذلك يحتاج أيضاً إلى جسد فائض بالصحة. كما يحلم النهر وهو ينساب؟ أريد أن أنساب أولاً لكي أحلم!
( )
الوقت الترابي. نعم. يمكن الآن الحديث عن هذا النوع الجديد من الوقت! على الأقل هو أفضل من الحديث عن quot;الوقت الدمويquot; للحرب.
( )
quot;الجذلquot; كلمة جد غريبة على حياتي. كلمة نظرية وقاموسية فقط. كلمة لا تربطني بها أية وشائج ولا دلالات - كلمة غير عربية كما ينبغي القول.
( )
شبعت من النوم، في الثلاث ساعات الأخيرة. والآن آن أوان السهر والكتابة على مدار الأربع والعشرين ساعة القادمة. فماذا ربحت حقاً من ذلك النوم الطويل؟ لم أربح سوى الوخّم والفتور ومقلوبِ المعنى.
( )
في رواية سراماغو quot;الطوف الحجريquot; يتخيل الراوي أنّ بلاده البرتغال قد انفصلت عن أوروبا وابتعدت عنها ذاهبة نحو بلاد أخرى. أنا على العكس: أتمنى لو تنفصل فلسطين عن محيطها العربي المتخلف، وتذهب نحو أوروبا، لتتعلم منها وتعيش كما تعيش، مصداقاً للقول الحكيم: جاورْ السعيد تسعد.
سلام عليكم!