الجمعة 16/1
قبل الثانية فجراً، وبعد ذهاب الطائرات، أستمع إلى محلل عسكري عربي، يشرح مجريات أحداث الخميس، من وجهة نظره: يقول: مارست إسرائيل اليوم، في غزة _ تل الهوى، ما يُعرف عسكرياً ب quot;قصف السجّادةquot;، وهو نسخة مُطوّرة عمّا كان يُسمّى في فيتنام، أثناء الغزو الأمريكي، ب quot;قنابل حقل الزهورquot;. أي حرق منطقة بأكملها بقوة نيران فائقة، ثم النزول إلى الأرض،وقد خلت إلا قليلاً، من المقاومين. سجّادة وزهور؟ يا خربان ديارنا! أي شيطان جعل لهاتين المفردتين الجميلتين كلّ هذه البشاعة؟ يجب محاكمة الجنرالات على سوء استخدامهم وإساءتهم للكلمات البريئة. سجّادة وزهور، وماذا كمان؟ أللهمّ لا تمدّ في أجلي حتى أرى quot; الوسادة الخاليةquot; أو quot; عطر القندولquot;. مِشْ يمكن تكون الوسادة تلك مفخخة والإيشْ اسمه القندول غاز أعصاب؟ هيَّ بسْ جُملة واحدة قبل أن أختم هذه الفقرة:
ما كان لهذه الهولوكوست أن تشتعل، لولا انقسامنا الفلسطيني، ولولا انسحاب العرب الجماعي من التاريخ. إنها المنطقة الوحيدة في العالم، الخلو من quot;الإراداتquot;. طول عمري وأنا أبحث عن quot;إراداتquot; ولا أجد. من سوء حظي أنها quot;مقطوعة من السوقquot;، منذ أن شرّفتُ الدنيا، وفتحتْ أمُّ خميس القابلة عينيّ. تُرسلني أمي للسوق، بحثاً عنها، وأعود كل مرة خائباً. ليش مقطوعة من السوق؟ على حدّ علمي هيَ موجودة في كل أسواق العالم. ليش يعني عندنا لأ؟
المأساة (هي فعلاً مأساة) أنّ العرب المُحدثين قومٌ ضد أنفسهم وضد مصالحهم (دع quot; المبادئquot; على جنب) فقط نبتغي منهم أن يحسبوها جيداً، من ناحية المصالح يعني. ومن ناحية هيبة سلطتهم يعني. فلا دول، منذ بلاد ما بين النهرين، بلا هيبة وبلا مصالح. إقرأوا التاريخ. مِشْ فاضيين، إقرأوا موجز التاريخ. مش فاضيين، إقرأوا موجز الموجز. علشان خاطري. علشان خاطري يعني.
كان الحاج ديموقريطس يقول في زمانه، الله يرحمه، [ليس من شيء حقيقيّ في هذا الكون إلاّ الذرّات والفراغ]. هل كان المرحوم يقصد كون العرب وبلاد العرب؟ والله صرت أشكّ يا عمّي. حاكمْ الحاج هيراقليطس غويط ومِن بلاد اليونان. يعني: بلد بومة أثينا وآلاف من المكشوف عنهم الغيب والمستور.
إيش القصّة؟ لا نريد quot;فَزْعِتْكُمْquot;، فزمن الفزعات فات ومات. نريد بس تحسبوها، نُصْ أو خُمسْ ما بتحسبها إسرائيل. هدول ناس بحسبوها دايماً كويس. حتى مع بِزّهم [ ثديهم] إلّلي ولا بزّ الأَميّات. مصالحهم هم في الأول وبعدين مصالح البِزّْ. إيش الحكاية؟ هل نسيتم أنكم من غير بزار، فعلى الأقل دوّروا على بزازكم، وحافظوا عليها. حاكمْ الواحد من غير بزاز ما بقدر يعيش. علشان الأطفال، علشان الأجيال القادمة يعني. قُلتْ quot;الأجيال القادمةquot;؟ يا ويلي عليهم قديش هدول مسخّمين. ثم ليش يعني ما نكونش زي إسرائيل؟ هذي بلد quot;تعمل لدنياها كأنها تعيش أبداًquot;. سيبكْ من نُص الحديث الثاني، فجماعتنا مفيش عندهم quot;آخرةquot; مِن أصله. لا بعث ولا نار ولا حاجة. هم هيك مرتاحين خالص. مالنا ومالهم. أحرار في دينهم. المهم نحن. ليش ما نعمل لبلادنا، لأطفالنا، لأجيالنا القادمة (مرة أخرى؟! هادي الكلمةْ بتستفزّ قولوني) كأننا وكأنّ بلادنا تعيش وستعيش أبداً؟ إيش بتقولوا؟ والله ما شايف حدا لا ملك ولا رئيس يعمل لشعبه كأنّ شعبه سيعيش للأبد. ميكونوش بفكروا إنْ شعوبهم حتموت معهم؟ يمكنْ. ليش لأ. وَلاّ إيش القصة؟
يا جماعة. في حاجة اسمها quot;فقه المصالحquot;. فقه المصالح قبل وبعد الفقوه كلها (ما هو جمع الفقه؟). خذوا العبرة من دولة إسرائيل. دولة تتجسس على أمها حتى. عند مصالحها مفيش يمّا ارحميني.
جارنا الإسكافي، أبو رياض، مش عاجبه حالكم. ولا حال عبّاسنا ومشعلنا كمان. جارنا أبو رياض الإسكافي، من زود قهره، في هذي الحرب، صار يضرب الكندرة على السنديان، بغلّ وغيظ. أقول له إرحم الكندرة يا أبو رياض، يقول لا: الله لا يردّها. بشوف فيها وش حكامنا العرب. تخّنتها يا بو رياض. ميصحش هيك. يقول بستاهلوا. طيّب. إذا كانوا هم بستاهلوا، والمسكينة الكندرة إيش ذنبها؟ يقول: أمانة عليك. سيبني. خلّيني أفشّ غُلّي.
أقول له: الحاج فرويد بعتبر هذا quot;إسقاطquot;. ينتفض. كله إلا quot;القسطاطquot; تبعكْ. أنا مواطن غلبان لكنْ شريف يعني.
أقول له: علشان خاطري يابو رياض. مش هاينة عليّ الكندرة. فيردّ: ما إحنا كنادر كمان.
_ لَهْ يا رجُل!
_ والله عن صحيح.
_ أهنتني يابو رياض!
_ سلامة قيمتك يا جار.
_ كيف إحنا كنادر؟
_ كيف؟؟ مش شايف كيف إسرائيل بتضربنا؟ نازلة، يا ولداه، قصف ونسف، لا بتهجع ولا بتخشع، في الزغير قبل الكبير؟
_ بس إحنا أبطال يابو رياض. صامدين يعني.
_ عارف. عارف. متفتحليش قناة الجزيرة!
_ لا. لو فيه سفن أب، كنت فتحتلك سفن أب.
_ بارك الله فيك. ابن ناس وبتعملها.
_ قُل لي يابو رياض، مطولة يابو رياض؟
_ وسومها على خشومها يا جار.
_ كيف يعني؟
_ بقول لك مطولة وطوّالة لغاية ما يعرف العرب مصلحتهم.
_ حتى أنت يابو رياض؟
_ ليش؟ هوَ حقّي ناقص؟ يعني عشّني إسكافي مش مثقف، مليش حق؟
_ سلامتك يابو رياض. والله مفيش فرق بين تفكيري وتفكيرك. الفرق بس في طريقة الكلام.
_ طيب. إذا كان هيكْ، أمانة تنقل كلامي هادا لجماعتك؟
_ مين جماعتي ولا مؤاخذة؟ مليش جماعة.
_ للي بقروك، قصدي.
_ حاضر.
_ وقول لهم كمان، أبو رياض مريض سكر وضغط، ولازم تقفوا معه ومع شعبه.
_ إن شاالله يابو رياض.
_ بتوعدني؟
_ خلصْ، عيب.
_ وقول لهم الله لا يفرجي عليكم حدا، زي ما فرجا علينا الناس.
_ إن شاالله يابو رياض.
_ بتوعدني؟
_ بوعدك.
_ لمّن أشوف.
مع إن جارنا أبو رياض، ناسي أنه حاله وحالنا وحال القرّاء واحد.
ومع ذلك، أنا ذا أفي بالوعد!
الجمعة ضحىً
أثقل أيام الأسبوع على روحي. يوم بلا معنى. أخرج، وبي خشية من الطائرات. أركب سيارة وأنزل وسط البلد. شارع البحر خال، والمحلاّت مقفلة. أفكّر في زيارة أمي، وأنسى هذه الرغبة بعد دقائق. أعود لمستشفى ناصر بسيارة. أسأل صحفيين زملاء عن أخبار الليلة الماضية. كنت حتى الفجر أحصي عدد الصواريخ وهي تسقط في أماكن متفرقة من المدينة. الصوت في الليل يُجاوب، فتظنّ أنّ انفجاراً يقع في خزاعة، أقصى الشرق، قد وقع غير بعيد عن بيتك في أقصى الغرب. أمس وصلت حتى الصاروخ 18، كما أتذكّر، ثم رحت في النوم. اليوم، في هذا الضحى، أسأل وأتوقع الكثير من الإصابات، فيخبرني هؤلاء الزملاء، بثمانية إصابات وشهيد. عدد معقول في جحيم الجنون هذا. آه.. ما أسوأ أن يُختزل البشر إلى عدد. أشرب معهم شاياً (كأنه بائت من ليلة أمس) وأخرج. أنتبه إلى نفسي، وقد صرت أستطلع الفضاء، كلما مشيت. المصيبة أنها لا تُرى، حتى لو سُمع صوتها. لذا لا يمكن للمرء معرفة أين هي بالضبط، وما إذا كان هو في مكان آمن أم لا. مكان آمن؟ وهل بقي من هذا النوع، على طول وعرض القطاع!
الجمعة ظهراً
أخرج من مقهى الإنترنت، بعد إرسال المادة، وأركب سيارة راجعاً إلى حي الأمل، حيث أسكن. في السيارة ثمة امرأة تريد النزول في مستشفى quot;مباركquot;. عند وصولنا لباب quot;ناصرquot; الشرقي، حيث ثمة إسفلت يؤدي إلى quot;مباركquot;، يقف السائق ليلفّ، فيرى مئات المصلّين يقتعدون رصيف الإسفلت، بعدما امتلأ الجامع بغيرهم. تمرّ سيارة إسعاف، على الإسفلت الأسود، بين الرصيفين الغاصّين، وتغادر المكان. يستنكف السائق عن المرور بين المصلّين، ويواصل سيره خطوات، ثم يُنزل الراكبة على الباب الغربي من quot;ناصرquot;. يسألني: أين في المشروع؟ فأردّ: quot;شارع المدرسةquot; قبل quot;هارون الرشيدquot;. نُمضي الطريق مستغرقيْن في الصمت. المارّة قلّة، وجوّ الحرب يُخيّم على المكان قبل الناس.
أنزل، وفي البيت، أجدهم طبخوا فاصولياء خضراء بصلصة بندورة. ما إن تراني الزوجة خالي اليدين، حتى تبادرني: أين ربطة الخبز! آه، والله نسيت. هل معك مصاري؟ خمسة ستة شيكل فقط. تأخذها وتعطيها للولد الأصغر(ست سنوات)، وترسله للفرن القريب. هذا الولد أخشى عليه من الزنانة هو أيضاً وأيضاً. ليتني لم أنس ربطة الخبز. أظلّ على قلق حتى أسمع صخبه على الباب، فأطمئن. الآن يمكنني أن أتغدّى بهدوء. أرغفة سخنة وطبيخ طازج حار وقرنا فلفل أخضر. رضا. آكل وأشرب الشاي، ثم أنتظر قليلاً حتى موعد فروغهم من الصلاة، وأخرج. لديّ موعد في المستشفى مع أطباء مصريين شباب، وصلونا منذ أسبوع. سأجري معهم لقاء صحفياً. أركب من عند البيت، كي لا أتأخر، وآخذ الجوّال للتصوير. لا شنطة ولا أي شيء يلفت النظر. مع أنه لم يعد من شيء متحرّك لا يلفت نظرهم. هوس أمني! أو عُُصاب أمني، سمّه ما شئت. هنا، في هذا الموقع، كتبت قبل أيام، عن خوفي من قصف النساء الحوامل، بحجة الشكّ بمخبّآت تحت ثيابهن. كنت أُفنتز بالطبع. وراح عن بالي أنّ فنتازية الحرب أعتى وأعلى من فنتازية الفنانين. وإليكم هذه القصة، التي تأكدت من مصادرها، قبل كتابتها، على جري عادتي. إمرأة حامل في ساعاتها الأخيرة، أُضطرت للخروج، ليلاً، فقد جاءها الطلق. ذهبت في العتمة الكالحة ماشية باتجاه المستشفى، كي تلد هناك. راقبتها طائرة الاستطلاع، وركّز الجالس هناك، في مكتبه بالمجدل أو أسدود أو بئر السبع، ركّزَ الكاميرا على بطنها الكبير، وأخذته الشكوك والهواجس. ولما كانت القاعدة القانونية لديهم هي quot;الفلسطيني متهم حتى تثبت براءتهquot;، ولمّا كان الوقت وقت حرب، لا إثبات براءات، فقد عاجلها الكائن خلف مكتبه، بضغطة زرّ، فانقضّ عليها الصاروخ، وبترَ رِجلها. جاءت الإسعاف، ونقلتها إلى المستشفى، وهناك، بعد عمليتي البتر وتنظيف بقية الجسم من بعض الشظايا، تمت عملية ثالثة هي عملية الولادة ذاتها. أنجبت المرأة ولداً، ومعه أو قبله بدقائق، فقدت إحدى رجليها، وبعض جمالها، والكثير من طمأنينة أيامها وسنواتها الماضية. رأيت المرأة، ولم أجد في نفسي رغبة لأن أصوّرها وأرسل صورتها إلى إيلاف، خاصة بعدما رغب أهلوها وزوجها عن التصوير. أحترم رغبتهم. وأفكّر في انفلات الفانتازيا، وأسرح.. وين كان هذا مخبالك يا شعبي!
* أبحث عن قصص لا تتداولها وسائل الإعلام ذات الشهية الجهنمية. أخيراً أظفر بقصة، غريبة فعلاً، وأجمل ما فيها خلوّها من الدم الشائع والمبذول. أنقل القصة على لسان زوجتي، كشاهدة عيان. ليس زوجتي فقط، إنما ابنتي الصغرى quot;ماياquot;، ذات ال 13 عاماً أيضاً. القصة رآها عشرات إن لم يكن مئات الناس، وسمع بها وعنها الألوف. ففي اليوم الأول للقصف، اليوم الرهيب العصيب ذاك، سقط صاروخ [ يُسمونه هنا quot;صاروخ أنفاقquot;] على كثيب للرمال، بجوار عيادة الوكالة الجديدة غرب المدينة. فما الذي حصل؟ تفجّر نبع ماء حلو في الحفرة العميقة التي حفرها الصاروخ. غاص الصاروخ في خاصرة الرمل الطرية، أعمق وأبعد من مسافة 30 متراً. حيث وصلت قوته التدميرية فائقة العادة، إلى عمق المياه الجوفية في المنطقة. ومع أنّ المنطقة منطقة أحراش وquot; سوافي رملquot; عالية، إلا أنّ الصاروخ الشيطاني، اخترق كل هذا الكمّ من الرمل، وحفر حفرة عميقة [هي عملياً بئر لا حفرة]. زوجتي وابنتي [وأنا لا بد في القريب] رأوا ذلك الماء، وابنتي لعبت به!
وقد صار هذا الحادث حديثاً يُتناقل بين العوام، بل بعضهم ذهب وتفرّج عليه.
الجمعة عصراً ومغرباً وعشاء
أُجري حواراً مع طبيبين مصريين شابين وصلا إلى quot;ناصرquot; قبل أسبوع. أكتب الحوار على ورق، وأعود للبيت، وأشرع في تفريغه على الشاشة. قبل الفقرة الأخيرة منه، تنقطع الكهرباء، فألجأ إلى الحل المتاح: أشعل لمبة الكاز، وأحرص ألا يقترب هَبْوُها من شاشة اللابتوب، وأجاهد، لئلا تفرغ بطارية الجهاز، قبل إتمام العمل. أخيراً أنتهي أو أكاد، فألبس ملابس الخروج، مرة ثالثة لهذا اليوم، وأتوجّه نحو المستشفى، ماشياً هذه المرة [فقد نسيت عادة المشي طوال أيام الحرب]. أصل فأجدهم قد صلّحوا الشبكة، فأفتح إيميلي وأرسل المادة مع الصورة، بسهولة أغبط نفسي عليها. سهولة لم أعرفها طوال أيام الحرب أيضاً.
في الأثناء، أنسخ عشرات المقالات الصحفية والأدبية من الشبكة، فيدخل صحفي زميل، ويحدثنا عن قصة جرت قبل نصف ساعة، وكاد صاحباها يموتان، لولا المعجزة! صحافي إيطالي ومرافقه الفلسطيني، كانا بالقرب من الجسر، بين مخيم البريج ومدينة غزة، وهناك أمرهما جنود الاحتلال بالتوقف، ثم أعطوهما إشارة السماح بالمرور، وبعد ثوان، نخّلوا سيارتهما المدنية الصغيرة بالرصاص!
الأعجب والأغرب ليس هذا. إنما حصول الاثنين على تصريح أمني بالمرور والذهاب لغزة. تصريح، أمضيا من أجل الظفر به أياماً عدة وعشرات المكالمات التلفونية، ناهيك عن التوسيط والتنسيق. فكيف نفهم موقف جيش الاحتلال، إن لم يكن: إنه لا يريد في هذه المقتلة، لا صحفيين ولا إعلاميين، خاصة إذا حمل هؤلاء جنسية بلد غربي، وعملوا لدى مؤسسة إعلام غربية؟
بعد قليل، وصلت السيارة وبجوفها الصحفيان الناجيان إلى باحة المستشفى، ونزلت الدرجات القليلة الخارجية، ورأيتهما مع سيارتهما التي بلا زجاج، من أمام وخلف!
كان ثمة العشرات من الزوّار والفضوليين، شباباً وفتياناً يتحلّقون بالسيارة، ويحاول شرطي من حماس، فضّ تجمهرهم اللا حضاري.
نسيت القول، أنني، أثناء انهماكي في بعث الإيميل، دخل شاب للغرفة، وطلب مني لاهثاً، تغطية هذا الحدث، فاعتذرت، وأشرت عليه بأنّ هذه مهمة الزملاء هنا. وبالفعل، ذهب أحدهم وصوّر السيارة المهشمة الزجاج والصحفيين، الإيطالي والفلسطيني، وتم بثّ خبر عاجل عن الموضوع في قناة الجزيرة، كما قيل لي.
الجمعة ليلاً
أتابع القناتين الثالثة والعاشرة في التلفزيون العبري. وألتقط معلومات وإشارات غير مطمئنة سياسياً. فهم يتجهون ناحية عدم عقد اتفاق سياسي مع حماس بوساطة مصر. سيوقفون النار لمدة أسبوعين، من طرفهم هم، ويدرسون ردّ فعل حماس. هذا معناه استعلاء منهم، وعنجهية أيضاً. معناه بقاء سيف إرهابهم مشرعاً فوق رؤوسنا. ومعناه أيضاً (وهو الأهم والأخطر في كل القصة) أنهم يريدون حلاً أمنياً لا سياسياً. لا أعرف، لا أعرف كيف ستتطور الأمور في قادم الأيام؟ بدأت أتشاءم فوق تشاؤمي السابق. وفوق هذا، أرتاع من رقم الشهداء، وارتفاع حصيلتهم لهذا اليوم. 67 شهيداً ومئات الجرحى.
ماذا تريد إسرائيل؟ ماذا تريد حقاً؟
إن حَشَرت حماس في الزاوية فلن يكون هناك إلا البديل المرعب: القاعدة. هذه قناعتي منذ سنوات، قناعتي التي كونتها من معرفتي الوثيقة بما يجري على الأرض. قناعة لن أُغيّرها. وبالمصادفة، قرأت اليوم، مقالاً مترجماً في القدس العربي، نقلاً عن quot;هآرتسquot; أمس، كتبه أبراهام بورغ، رئيس الكنيست والوكالة اليهودية الأسبق، والكاتب والمثقف الحكيم. جاء فيه ما يؤكد وجهة نظري. يقول بورغ [في اليوم الذي تيأس فيه حماس وترتبط بكل بواطن روحها بالإسلام العالمي، سنفقدها تماماً. رجالها باتوا منذ الآن في نقطة الانطلاق، على شفا الانتقال إلى المجرة الأصولية التالية. ولكننا لا نزال نرفض أن نفهم بأن الحركة السياسية هي جزء من النسيج الإقليمي، الذي أساس أبعاده لا تزال وطنية، يجب أن تكون، مع كل الصعوبة التي في ذلك، جزءاً من الحوار الإقليمي. وفي اليوم الذي تصبح فيه مناطق غزة ملكاً للقاعدة وللإسلام العالمي سنكتشف أن حماس إياها في واقع الأمر - تلك التي في أيامنا هذه - لم تكن على هذا القدر من الفظاعة.]
المجرّة الأصولية.
هذا مآلنا، فيما يبدو، يا بورغ!
الجمعة / قبل انتصاف الليل
* أنباء عن [ 32] شهيد تحت الأنقاض.أنباء عن [54] جريح، جرّاء قصف.أنباء عن [68] منزل سُوّيَ بالأرض. نعيش لنعدّ الشهداء والجرحى والبيوت المهدمة _ تلك هي وظيفتنا الأولى هذه الأيام! نربّيهم فإذا كبروا ماتوا وانهدموا.جيل منذور للموت. كان الله في عون الأمهات والآباء وفي عوني كشاعرٍ أيضاً.لقد تعبت يا إلهي: تعبت من العيش فوق أرض مغطاة بالدم. ومجبول ترابها بنجيع الأبناء.أكل هذا من أجل فلسطين؟ يا لسوء حظنا إذن. الحياة كتذكير دائم بالموت.العيش على الحواف. كيف يتطور الأديب في جو كهذا؟وكيف يتثقف كما يتثقف الخلق خارج فلسطين؟بعد قليل سأذهب لمجلس عزاء، وسأظلّ مواظباً فيه لمدة ثلاثة أيام، أستقبل الناس، وأودّعهم، بصفتي واحداً من أهل الشهيد. أما طموحي الكتابي، فعليه أن يتوارى خجلاً، أمام هذا الحادث الجلل، يتوارى ربما لشهور قادمة.
* العيش في قلب المأساة، يمنع المرء من تطوير قدراته الأدبية. يبدو هذا الكلام، في سياق كهذا، نوعاً من العبث الماسخ، فالناس في إيش وأنت في إيش يا رجل! ومع ذلك فليكن: لا بد من التذكير ببعض الحقائق!
* ومن أين لي عضلات مصارع روماني لكي أواصل وأكتب؟ انتهت الأيام التي كنت أعيش فيها كما يروق لي، انتهت للأبد. قوة إحساسي بالمأساة تعيقني عن الكتابة الجيدة. المأساة تجعل الكتابةَ تنبذ الكاتب. العيش في قلب المأساة هو ذاته العيش على هامش الكتابة. بقايا عمر وفتات كتابة. ما صلة المأساة بالإبداع الأدبي؟ السنوات الجهمة التي تصنع من المرء إما حكيماً وإما كديشاً. رأس في بياض الثلج! وذاكرة بلا علامات، ويدان ترتعشان، وسهوم ووجوم. كان الله في عون أبي الشهيد!
* أمس واليوم، حلمت بأني أخذت إجازة من الكتابة. فلم أقرب الشاشة، بل لم أشغّل الكمبيوتر من أصله. فالحق أنني أخشى من هذا الإسهال الكتابي، لأني أعرف أنّ له مخاطر ومحاذير، ليس أولها التكرار، ولا آخرها الاجترار. لكن المؤلم في الأمر، أنني أمضيت اليومين السابقين، بمشاهدة الفضائيات في معظم الوقت، وليس في القراءة، كما هي عادتي سابقاً، ربما الحرب وأجواء الحرب، هي السبب، وربما هو كسلي وفتور همتي ويأسي من جميع ما أرى. فالحال، على جميع الوجوه، يتراجع نحو الأسوأ، بما فيه الحال الغذائي، فكيف لي أن أمارس حياةَ المثقف، في وسط جهم مكفهر كهذا؟ إنه سؤال مؤلم، ومع ذلك، لا بد من مواصلة المشوار، مهما تكن الظروف، فمنذ متى كانت الظروف أفضل؟ لا، لا بد من العودة إلى نمط حياتي القديم: أقرأ يومياً وأكتب، دون التفات كبير لما يحدث من خراب في مالطة! فمالطة، طوال عمرها خاربة، فهل معنى هذا أن تخرب حياتي كمثقف أنا أيضاً!
* حاملاً بؤس البشرية فوق كتفيّ، وفرحها المؤجلَ في أعماقي البعيدة.
* أحب النوم والفاكهة والبراري الصفراء واللون الأخضر وماء البحر وأعلى النساء وأعماق المحيطات واللبّ من كل شيء حتى في الميتافيزيقا النووية.
* مفتوحو العيون كمزبلة. جنودهم وهم ينزلون عن الدبابات.
* لأول مرة في حياتي أحلم الليلة الماضية بأحلام متعددة لأرغفة طويلة طويلة، موجودة في كل مكان أذهب إليه، والأمكنة خالية من البشر والسيارات والحيونات أيضاً، فما معنى هذا غير أنه ربما يكون نذير جوع وشيك!

* يا ليتني شجرة، فالشجر هادئ بطبعه، ويبدو أنه حاصل على ثقافة أوروبية راقية.
* أكتب بمزاج سيىء لعدم وجود حليب أخلطه مع الشاي في مطبخ المنزل. هذا أولاً، وثانياً: لقرب نفاد المئة غرام من التبغ التي اشتريتها قبل أسبوع. وثالثاً وليس آخراً hellip; لكن ما ذنب القراء؟ لا. سأقطع وأسكت فهذا أستر وأوفر، فحتى الشكوى لله، صارت هذه الأيام مذلة، وبالذات بعد أن تكررت مليون مرة، دون أدنى بادرة إلهية بالسماع الكريم.

* نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها حليبا، ولاّ إيش رايكم؟ مش أحسن في سياقنا هذا من quot;سبيلquot; محمود درويش؟
* الزنّانة تزنّ. لو كان لي غرفة مارسيل بروست!
* أغنى أحلامي أن أنام جيداً لو ليلتين في الأسبوع. أجل: أن أنام فحسب. كان حليفاً فيما مضى. النومُ حليفٌ خائن الآن.
* جنرال غضوب وشاعر عصبي، كيف يمكن حلّ هذه الإشكالية؟
* وثبة إلى الدوحة، ثم وثبتان إلى المريخ، ثم بعدهما الانهباد على أمّ رأسك!
* لذة النوم على حواف الصحو. ثمة لذة أعمق وأشهى: النوم على كفّ باراك.
* في بلادنا، حتى الشجرة تجفل من مرور صاروخ.
*غير معروف في الخارج: هذا الإحساس العصي على الوصف، وعلى لغة القواميس، وعلى مخيلة الشاعر، وعلى إزميل النحات، إلى آخره إلى آخره، وأنتَ تدفن شهيدين لأمّ واحدة!