الثلاثاء 13/ 1
ألتقط إشارات ذات مغزى، تجعلني آمل بنهاية وشيكة لهذه الحرب. الإشارة الأهمّ هي تصريح صحفي لرئيس الاستخبارات الإسرائيلية، أطلقه أمس، ويقول فيه: quot;إنه لا يتوقّع استسلام المقاومة في غزةquot;. هذا ليس تهويلاً بقدرات الخصم، على جري عادتهم، إذا أرادوا إفناءَهُ، بل هو قراءة واقعية وموضوعية لتطوّرات الأحداث. إسرائيل، في اليوم السابع عشر للحرب، تعرف استحالة فصل قوى المقاومة عن حضنها الأصلي وهو الشعب. فالشعب هو غابة هذه المقاومة. وإذا استمرّت إسرائيل في مواصلة حربها، فلا معنى لهذا سوى المزيد من المآسي في حق المدنيين. ومع أنها دولة مارقة بكل الاعتبارات، إلا أنها بدأت تعاني من لطخات العار الملتصقة باسمها ووجودها. مَن يدري، لعلّ وعسى.
الشاعر كاتب اليوميات مع ابنه
* تهجير جديد: أذهب إلى مقر الهلال الأحمر بجوار بيتي. مبنى ضخم بناه فتحي عرفات، وعاصرتُ مراحل بنائه منذ وضع لبناته الأولى. يحتوي هذا المبنى على مستشفى وحديقة وفندق كبير (هو الوحيد في مدينة خان يونس). ما زال المبنى في يد فتح، رغم سيطرة حماس. أصعد درجات الفندق، وأمرّ على quot;المُهجّرين الجُددquot;، في طوابقه العشرة. كل طابق يحتوي الآن على عشرات العائلات التي تمّ تدمير بيوتها بصواريخ الإف 16. هؤلاء بالنسبة لغيرهم من المُهجّرين، محظوظون. فهنا تحصل كل عائلة على غرفتين بمنافعهم. وهو أمر لا يُتاح لغيرهم. فغيرهم يلجأ للأقرباء والجيران. ليزداد الضيقُ ضيقاً. ثمة من المهجّرين من ينامون في دكاكين عارية مبنية أسفل المنازل. تُسمّى هنا quot;حواصلquot;، وهي بالفعل ضيقة كحواصل الطير. لا نعرف حتى الآن عدد المهجرين الجدد بالضبط. الأونروا قدّرت عددهم بنحو عشرين ألفاً. لكنه عدد لا يشمل الذين هجروا بيوتهم، بعد تلقيهم إشعارات بقصفها، ولم تُقصف بعد. ولا يشمل كذلك عددَ الذين يخافون من القصف، لارتباطهم بحماس. أعرف عدداً من الأخيرين، هجر بيته وأخذ عائلته للعيش عند أخت متزوجة أو صديق. عموماً لدينا احتمالات تقريبية من عدة مصادر، بوصول العدد الإجمالي للمهجرين إلى نحو ال 39 ألف. وعليه، فالسؤال حاضر وحامض: كم مرّة سيُهاجر المهاجر؟ كم مرة سيهاجر الفلسطيني؟ نحن الآن في خضمّ صقيع quot;الأربعينيةquot; (هي أبرد أربعين يوم في السنة). فكيف يتدبّر هؤلاء حالهم؟ وكيف لا يبرد ولا quot;ينتفخ من البردquot; كبارهم وأطفالهم؟ يقول بورخيس إنّ نهر النسيان كفيل بطمر كل شيء، النقمة والمغفرة، الصفح والغضب، لكننا نقول لا: لن نغفر ولن ننسى.
* يندلع قصف مكثف في هذه اللحظات على السوافي الفارغة غربَ خان يونس. تُغير الإف بحمولتها الزائدة، وتُلقيها هناك. لا أحد يسأل ما الحكمة من هذا العبث وهذا الجنون. شبابيك دُورنا تهتزّ، وكذلك الأبواب. لا شيء أكثر. والناس درجت في الأسبوع الأخير على فكّ الشبابيك من حلوقها، خوفاً من التهشّم وشظايا الزجاج. المؤلم أنّ مَن يتهشّم شُباكه لا يجد بديلاً في السوق. فيضطر إلى تغطيته بالخيش. وفي زمهرير كهذا الزمهرير، تكون النتيجة معروفة سلفاً: قيء وإسهال والتهابات برد، وما شَاكل.
الثلاثاء ضحىً
* أذهب إلى المستشفى. موعود بإجراء لقاء صحفي مع أطباء فرنسيين وصلوا ليلة أمس. في الطابق الأرضي، في قسم استقبال المرضى، أستمع إلى شرح طبيّ لمعنى الفسفور الأبيض. هو مادة شيطانية النفاذ إلى درجة أنها لا تحرق جلد الإنسان فحسب، بل تدخل إلى الخلايا، وهناك تتفاعل مع الأوكسجين والماء الموجوديْن في الدم، فتتضاعف قوة الحرق عشرات المرات، حتى يصل الأمر، من هذا التفاعل الداخلي الرهيب، إلى حدّ حرق العظام وتهتيك أنسجتها. إنه سلاح يُستخدم لأول مرة في حروب إسرائيل. ويُقال هنا، بين أوساط الأطباء، إنّ ثمة مادة غامضة تُلقى مع نوع آخر من المقذوفات، لا أحد يعرف طبيعة تكوينها الكيميائي. الأطباء المحلّيون محتارون ويأملون بوصول أطباء دوليينيستطيعون تحديد هذه المادة، والتعرّف على اسمها العلمي، حتى يتسنّى لهم صرف الدواء اللازم.
أصعد إلى quot;غرفة الهولquot; كما يُسمونها هنا في المستشفى، وأضبط نفسي بصرامة، كي أحتمل وأتحمّل. أرى حالة لطفل في العاشرة. الطفل في غيبوبة صناعية أجراها له الأطباء، في انتظار نقله إلى مطار العريش. يُزيح الطبيب قليلاً من الشرشف المُبقّع بالدم، لأرى. يقول بأسى أنّ تقسيماتهم الطبية الكلاسيكية للحروق البشرية مضى عهدها وتقادمت بحيث لا تفي بالوصف. فقديماً، ما قبل هذه الجحيم، كانوا يُقسّمون الحروق إلى ثلاث درجات: حروق درجة أولى وثانية وثالثة. الآن لا يوجد وصف يُطابق الموصوف. وهذا الطفل برهان. أنظر في الجزء المكشوف من جسم الطفل المُخدّر. ولا أعرف أيُّ شيطانٍ ذكّرني ب quot;الهيطليّةquot;! منظر فوق التصوّر والتخيّل. أيّ نوع من القسوة المجرمة يتمتع به الساديّون. هل هؤلاء بشر حقاً. ما أفدح أن تكونَ ضحيةً لضحية! أن تكون ضحية لجلاّد، هذا مفهوم. أما ضحيةً لضحيةٍ تُقلّد أسوأ وأعتى جلاديها، فهذا فوق العقل. لم يتعلموا درسَ أوشفيتس. إنهم يُعيدون إنتاجه في غزة. ما هي quot;أوشفيتسquot; إن لم تكن هذا الطفل؟ ما هي أوشفيتس إن لم تكن هذا quot;الجلد المهموط السايح بعضه على بعضهquot;؟
كلا يا بورخيس. لن نغفر ولن ننسى. حتى لو نسيَ سياسيّونا ذات يوم. لن نغفر ولن ننسى، تماماً مثلهم هم، فهم لم يغفروا ولم ينسوا. بنوا quot; متحف الكارثة والبطولةquot; ليُذكّروا كل العالم بمآسيهم ومحارقهم. لا ليُذكّروا فقط، بل ليبتزّوا الغربَ حتى آخر نفَس. ونحن سنبني متحفنا، يوماً، وعلى طريقتنا، يوماً، وسننقل روايتنا لأولادنا، جيلاً بعد جيل. لن نبتزّ، ولكننا أبداً لن نغفر.
* ينقل لي طبيب جراحة عظام ما سمعه قبل ساعات بخصوص الموضوع. يقول إنه يتابع الصحافة العالمية، وثمة تحليلات تشير إلى استخدام إسرائيل لأسلحة quot;قيد الاختبارquot; تُجرّب هنا. ما معنى quot;قيد الاختبارquot; هذه؟ أيّة جحيمٍ تقبع بين المفردتين؟ إسرائيل وأمريكا وحدهما تعلمان. سواهما لا أحد يعلم. فالشيطان هذه المرة لم يكن ثالثهما، ليعرف quot;اللغزquot;، فما بالك بأهالي قطاع غزة الزراعيين. لكنّ الزمن كفيل بكشف كل الحقائق. مرة أخرى نراهن على علْم الأطباء الغربيين القادمين إلينا. مرة أخرى: علَّ وعسى.
الثلاثاء ظهراً
تتقاطر على المستشفى عشرات الحالات، كلها مصابة باختناق شديد وبجروح في أماكن مختلفة من الجسم. نعيق سيارات الإسعاف يملأ الطرقات والفضاء. سيارات خاصة يأتي بها الأهالي مليئة بوجبات جديدة. أحد المصابين شيخ جاءت به سيارة وربعُ جسمه معلّق في الهواء خارجها. الشباب والنسوة يتجمّعون في الطرق وأمام فسحة بوابة الاستقبال. يهرع مصورو الفضائيات، ويمارسون عملهم. إلى الآن لا تركيز إعلامياً على الأحداث في رفح وخان يونس وقراهما. فغزة بشمالها هي قلب الحدث. معهم حق. نحن لا شيء بالقياس لغزة وجباليا وبيت لاهيا وبيت حانون. متى يرتاح شعبي من فوهات الكاميرات؟ إنها تقتات على لحمهم المطبوخ ودمهم _ المرقة. تنزل إمرأة في عمر أمي، وتبدأ في اللطم وإهالة الرمل على رأسها. يُهدّئونها دون جدوى. quot;قتلوك يمّا.. قتلوك ولاد الحرامquot;. quot; لأ يا حَجِّةْ.. هوَّ مُصابْ مِشْ شهيدquot;، يبدو القائل أحد جيرانها أو صاحب السيارة التي أتت بها إلى هنا. في هذا المسلخ، في هذه الفوضى والهياج العاطفي، يُستحسنُ ألا تتكلّم، ألا تفوه بكلمة. بل أن تُساعد إذا أُتيحت لكَ المساعدة، أو تغادر. فالأطباء وطاقم التمريض يريدان ممارسة عملهما على أكمل وجه، لكنّ الفوضى تُعيقهما أحياناً. فإذا كان الأهالي معذورين، فماذا نقول عن بعض الفضوليين العموميين؟ هذا النوع الأخير هو آفة هذا الشعب! أفضولٌ وفي هذا الوقت؟ أَحَشَفٌ وسوءُ كيلة؟ أُنادي على الشرطة، ثم أتسحّب إلى خارج المكان.
* الوعي المفرط ب quot;الذاتquot;. الوعي الذي يتماهى مع quot;الجماعةquot; كامتداد عضوي لأعضاء الجسد. ربما تكون هذه هي مبررات أولئك الفضوليين. ألاحظ، عبر ثلاثة أيام من التواجد بالمستشفى، ومن المراقبة والملاحظة الدائمتيْن، أنّهم هم أنفسهم كل يوم. يزدادون قليلاً ولكنهم لا ينقصون. والزيادة تكون بالضرورة على شاكلتهم، نفسياً وعصبياً. حتى أنهم يتآلفون بسرعة، وهم يُرابطون هناك حول قسم الاستقبال. فثمة رابط موحِّد يجمعهم كأنما في لُحمة: رابط التماهي مع مآسي الآخرين. أجل. فالوعي المفرط ب quot;الذاتquot;، يندلع أكثر ما يندلع، وقتَ الخطر الوجودي الداهم، والتهديد بالموت. أفكّر فيهم، وبيني وبين نفسي، أعذرهم، وأقول إنني تسرّعت حين وصفتهم بالآفة. فهم غلابا، طيبون على الأغلب، وفي أسوأ التأويلات ربما كانوا يعانون من الفراغ.
* بعد ساعة أعود إليهم، أجدهم في الأماكن ذاتها. تحت الحيطان المقابلة للقِسم، أو حول مربعات العُشب المتناثرة هنا وهناك. معظمهم شبان تحت الثلاثين. أستغلُّ فترة الهدوء النسبي، وأدخل معهم في حديث حميم وأسئلة، فأكتشف أنّ أغلبهم من ذوي الشهداء والمصابين. سواء في هذه الحرب، أو في الانتفاضة السابقة. أدير الحديث برهافة، لأعرف سرّ هذه quot;العادةquot; وهذا quot;الإدمانquot; على التواجد شبه الدائم بجوار الاستقبال. يقول لي أحدهم (وهو فتى في الثانية والعشرين) إنه هو نفسه لا يعرف. أبوه وأمه يُوبخانه يومياً، كلما عاد من المستشفى للبيت. لكنه لا يرتاح إلا هنا. أسأله: أهو من قبيلquot; من شاف مصايب الناس هانت عليه مصيبتهquot;. يقول لا أعرف. يقول منذ استشهد أخيه، وجابوه إلى هنا، قبل سنوات، وهو يشعر برابط قوي مع المكان. أسأله: هل تزور قبر أخيك كثيراً؟ يومئ بالإيجاب. ويضيف: أرتاح هنا أكثر من راحتي أمام قبره. أسأل آخرين، فيقولون إنهم هنا فقط للمساعدة. مَن لا يقف مع الناس في مصائبهم ليس منهم. أقول إنّ طواقم الممرضين وشباب الشرطة يقومون باللازم. يقولون: ولو. ربما احتاجوا مساعدة. واحد منهم فقط، وبعد أخذ وردّ، اعترف بأنه حين يأتي هنا ويرى إصابات أفظع من إصابة ابن اخته، المفضّل على قلبه، يرتاح.
الثلاثاء عصراً
حصيلة هذا اليوم حتى وقت العصر تجاوزت الثمانين إصابة، بين بسيطة ومتوسطة وخطيرة، وثلاثة عشر شهيداً. كل الحالات جاءت من قرية خزاعة على الحدود الشرقية مع إسرائيل. من ضمن الحالات سأتوقّف عند اسم الشهيد: محمود سعيد الشاعر. محمود رجل بين الخامسة والأربعين والخمسين. يمارس عمله اليومي كصرّاف جائل، يُبدّل العُملات. يقف مع الصرافين الآخرين، في quot;سوق العُملةquot; كما يسمّى هنا. ويلتقط رزقه. هذا اليوم كان بصحبته أحد أبنائه (لعله ابنه الأكبر). اسم الابن عبد الرحمن. في الثانية عشرة من عمره (أي في السادس الابتدائي). فماذا حصل؟ كانت الزنانة تحوم كعادتها في الفضاء. وهو أكثر منظر طبيعي يحدث الآن في بلادنا. فالزنانة لا تبرح سماء المدينة بل كل شبر من القطاع أبدا. الرجل وابنه واقفان ولعلهما كانا يضحكان أو يبتسمان لأمر ما. فجأة ألقت الطائرة بصاروخ على الأب والابن. أُصيب الابن إصابة فوق المتوسطة، وهو ما زال في غيبوبة. لا يعرف شيئاً عمّا جرى ولا كيف جرى ولماذا.
أما الأب؟ فيا لهول ما أصاب الأب! كنت في زيارة لقسم العناية المكثفة لتصوير أختين شابتين سيّحتهما قذائف الفسفور الأبيض. وجدت الأختين وقد انتقلتا إلى المستشفى الأوروبي. قال لي ممرضان في القسم: لدينا ما هو أفظع. شهيد مُقطّع إلى أربعة أجزاء. كل من رآه منا صُدم. هل دفنوه؟ كلا، أجابا، هو الآن في ثلاجة الموتى، وسيأخذه ذووه غداً للدفن. لماذا لا تُصوّره؟ أنا؟ لا أستطيع، قلت لهما. قالا: نذهب معك ونحن نصوّره، فنحن نريد أن نخدم بقدر الاستطاعة، ليعرف العالم هول ما يجري.
ذهبنا وفتحا الثلاجة، بعدما أخذا المفتاح من زميل لهم، رفض في البداية، ثم وافق على أن يتمّ الأمر بسرية، فلا يعلم أحد. لم أجرؤ على الدخول وبقيت أنتظر على الباب. صوّراه بكاميرا الجوال، وصورا شهداء آخرين. الأب مقطّع إلى أشلاء. ولم أنظر في صوره حتى لحظة كتابة هذه الكلمات. أثناء التصوير، جاء بضعة من أهل الرجل وزملاء المهنة. أحدهم من أنسبائي البعيدين، وهو تاجر عملة. لما عرف بمهمتي، عرض عليّ تصوير المصاري التي كانت مع الشهيد لحظة الانفجار. قال: كان في يده وجيوبه ما يعادل ثمانين ألف دولار، معظمها أمانات للناس. أغلبها احترق وبعضها تطاير في الهواء، فضاع أو سُرق. وضع نسيبي الأوراق المالية من نوع الدولار على الطاولة الموجودة بجوار باب ثلاجة الموتى، وأخذتُ لها عدة صور.
هذا هو حال ومآل محمود سعيد الشاعر من خان يونس البلد. quot;موت وخراب ديارquot; كما نقول بالبلدي. ثمانون ألف دولار ضاعت، ومات الأب المعيل، وابنه لا يزال في غيبوبة. تُرى: كيف ستمضي عائلته الصغيرة ساعات هذه الليلة؟ وبمَ يفكّرون الآن وأنا اكتب؟ وكيف سيدفنون أباهم غداً، ولن يروه بعدها أبداً؟ بل الأغلب أنهم لن يُمنحوا فرصة نظرة الوداع الأخيرة حتى. فquot;حال الرجلquot; لا تسمح. الرجل مقطّع أربعة أجزاء. والصورة المرفقة له مع هذه اليوميات، هي أخفّ الصور وقعاً، لئلا نصدم القرّاء.
الثلاثاء مغرباً
أسمع هذه القصة نقلاً عن شهود عيان، سمعوها من مصدرها الأصلي: أحد quot;المرابطينquot; [ وهي التسمية التي تطلقها حماس على من يحرسون الحدود] كان في قرية خزاعة، وتعرّض لغاز أعصاب، أصاب كل أجهزة جسمه بالشلل، ما عدا دماغه. ظل عقله يتابع ما يجري دون القدرة على تحريك إصبع. في البداية دخلت قوة راجلة من جيشهم، إلى منزل منزو على الأطراف. المنزل كان فارغاً من سكانه، ومفخخاً أيضاً. الشاب المرابط، حاول لكنه لم يستطع الضغط على الزرّ لتفجير المنزل. بعد قليل دخلت قوة ثانية. حاول مرة أخرى دون جدوى. كل جسمه مشلول. مرّ وقت، وجاءت قوة ثالثة، ولخطأ ما، أطلقتْ النار على من كانوا بالمنزل. إلى الآن لم تعترف الجهات المسئولة في جيشهم بquot;مقتل وإصابة البعض جراء نيران صديقةquot;. ما يعنيني في القصة هو هذا: غاز الأعصاب. فسواء صدقت الرواية أم لا، لا تعنيني التفاصيل. يعنيني أنّ جيشهم يستخدم غاز الأعصاب، فهو الجزء المؤكد في القصة. ومن يدري؟ ربما يستخدمون غازات أخطر من غاز الأعصاب.
الثلاثاء بعد الحادية عشرة ليلاً

أعود للبيت بسيارة أسعاف، بعد تأخير لضرورة إجراء حوار صحفي. أجد الزوجة في حالة صحية سيئة. برد ونتق وإسهال ومغص. صقيع كانون! لا مفر من العودة للمستشفى ثانية. أتصل برقم الإسعاف، وبعد رجاءات، يوافقون على القدوم بصعوبة. فالحالة لا تستدعي المغامرة. أصف لهم المكان وأحدده، وأنتظر. من حسن الحظ لا يتأخرون. نذهب لقسم الاستقبال في ناصر. يتم الفحص، ويُصرف لها محلول ملحي مع أدوية مذابة. ننتظر كلانا أكثر من نصف الساعة، حتى يفرغ المحلول. الأولاد الصغار استيقظوا وقتَ ذهابنا وهم الآن صاحون وينتظرون عودتنا. ننتظر أمام فسحة الاستقبال، لعلّ سيارة إسعاف تكون مارّة وتأخذنا. أذهب وأستطلع الشارع بلا أمل في هذا الوقت المتأخر. هدوء سابل يعمّ المنطقة بعد أحداث النهار المتلاحقة. أعود للزوجة فأراها تتحدث مع ممرض لا أعرفه. يتضح أنه ابن عمّها وأخو زوج أختها. أصافحه، وفي الأثناء يتصل من quot;مخشيرquot; بأحد سائقي الإسعاف. دقائق وتأتي السيارة لتقلّنا للبيت. الشوارع خالية ومعتمة لا نأمة. الكل تحت خطر الزنانة نائمون أو صاحون لكنهم لا يتحركون. الجميع يخشون صواريخها، حتى المسعفون. فكم قتلت منهم. يوصلنا الرجل وأشكره ممتناً بحقّ. ننزل ونمشي بضع خطوات، ثم ندخل. ذهب المغص عن الزوجة بفعل الدواء. حسناً. الأولاد هم أيضاً يتأهبون للنوم بعد أن أمّنوا بوجودنا. الكل ينام، وأجلس أنا منتظراً الكهرباء، لأكتب. ساعتان في العتمة مع مئات الأفكار والتهويمات، وأخيراً يُضاء البيت بالنور الغامر. أشعر بثقل جسمي بعد مدة الاسترخاء تلك. أقاوم وأقوم، فلا مفر من كتابة بعض الفقرات، واستنقاذ بعض ما رأيت من هوة اللا كتابة: من هوّة النسيان.
أكتب عن أشياء، وأنسى أشياء. أكتب عن أشياء، ولا أستطيع كتابة أشياء. فليس كل ما يُرى ويُعاش يُكتب. حتى لو كان أهمّ وأولى. حتى لو كان أخطر. فللكتابة قوانينها غير المكتوبة. قوانينها الغامضة. قوانينها الظالمة. تماماً كما هيَ الحياة. الحياة بكل مفارقاتها وصُدفها ولا معقوليّتها و و.. وأسقط، أخيراً، من التعب!