وتتلخص هذه المفاهيم، حسب بسراب نيكولسكو، في: التحول عن العقلانية المفرطة إلى الحدس والكشف، عن التحليل إلى التركيب، عن الاختزال إلى التكامل، عن التفكير الخطي إلى التفكير اللولبي، عن الإمعان في التخصص إلى اجتياز المناهجية، وعن مراكمة

الحلقة الأولى
المعلومات إلى المعرفة كوظيفة وجودية. وليس القصد استبدال مفهوم جديد بمفهوم قديم، بقدر ما هو التحول عن التشديد المفرط على أحد المفهومين إلى توازن أعظم بينهما.
وهكذا فإن اجتياز المناهجية هي دعوة لبعث التعليم القدرة على التفكير التكاملي، وهي تقودنا إلى التأسيس المنهجي للحوار بين ثقافتي ما بعد الحداثة ndash; Postmodernism وبين الحقول المعرفية المختلفة.
وقد أسهم في بلورة هذا الاتجاه الجديد، ومنذ ثلاثة عقود تقريبا، نخبة من أبرز العلماء، وهم: quot;جان بياجيهquot;، quot;إدجار مورانquot;، quot;اريك نيتشquot; و quot;بسراب نيكولسكوquot;. وهذا الأخير يعيد اليوم اكتشاف مصطلح quot;اجتياز المناهجيةquot;، وتأصيله كسياق مضاد لفكرة quot;موت الإنسانquot; و quot;نهاية التاريخquot; و quot;صدام الحضاراتquot;، ولحسم الصراع بين الكوننة والخصخصة، ومن هنا تكمن أهميته وأهمية التركيز على مؤلفه الأساسي quot; العبر مناهجية quot; أو بالأحري quot;اجتياز المناهجيةquot; في هذه الورقة.
وبسراب نيكولسكو ndash; Basarab Nicolescu عالم وابستمولوجي فرنسي من أصل روماني، يشرف على المركز الدولي للأبحاث والدراسات لـ quot; العبر مناهجيةquot; ndash; Transdisciplinarity(3) ويعمل في المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا ويدرس في جامعة باريس السادسة. له مؤلفات عديدة (4) تعتبر شهادة حية عن نشاطه، حيث أنه متخصص في دراسة القسيمات الأولية للفيزياء النظرية (الكوانتية)، ومهموم في الوقت نفسه بعلم تاريخ الأفكار، وبحث العلاقة بين العلم والفن والتراث المنقول، وتشييد الجسور بين المناهج وعبرها وما يجتازها، مذكرًا بأن مصطلح quot;اجتياز المناهجيةquot; من ابتكار quot;جان بياجيهquot; ndash; Jean Piaget عام 1970 (5).
بيد أن quot;نيكولسكو ndash; يستخدم البادئة اللاتينية ndash; Trans، استخدامًا مراوغًا، وحسب لالاند ndash; Laland: quot;فإن ndash; Trans، وتعني quot;عبرquot; (من خلال، فيما يتعدى) بادئة كثيرة الاستعمال لدى الفلاسفة المعاصرين، لابتكار ألفاظ جديدة تقابل مفهومًا بما يتعداه ويتخطاه، وهذا التخطي يمكن فهمه، من جهة أخرى، بمعان شتىquot;(6).
وتشير هذه اللفظة عند نيكولسكو إلى ما هو، في آن معًا: بين المناهج وعبرها، وفيما يتعدى كل منها على حدة، وغايتها فهم العالم الحاضر، الذي صار فيه توحيد المعرفة الإنسانية إلزامًا يتاخم الضرورة القدرية، وعليه تتوقف نجاة الإنسانية كنوع.
كما أنه يميز بين المعاني التالية: تجاوزquot; و quot;خرقquot; و quot;عبرquot; وquot;من خلالquot;، ويربط بينها جميعًا في الوقت نفسه، كدلالات متواشجة للفظة ndash; Trans. وعلى سبيل المثال، يستخدم كلمة quot;خرقquot; Trans quot; بالمعنى القانوني والحقوقي عند القانونيين، والتي تشير إلى انتهاك القانون أو النظام، وكأن ndash; Transdisciplinarity تعادل خرقًا معممًا لفتح فضاء غير محدود من الحرية والمعرفة.
من هنا آثرت ترجمة مصطلح ndash; Transdisciplinarity بـتصرف إلي quot;اجتياز المناهجية quot;وليسquot; عبر مناهجيةquot; وهي الترجمة العربية المتداولة لكتابه العمدة، لأنها تشمل كل هذه المعاني تقريبًا وتتخطاها في الوقت نفسه، فضلاً عن أنها أقرب ndash; في تصوري - إلى الدقة اللغوية والدلالية للكتاب ومضمونه.
وفي معاجم اللغة العربية quot;جاز الموضع سلكه وسار فيه، يجوز جوزًا وأجازه خلّفه وقطعه، واجتاز سلك وجاوز الشيء إلى غيره تجاوزه بمعنى أي جاوزه hellip; وأجاز له أي سوغ له ذلك. والجوز فارسي معرب، الوحدة جوزة والجمع جوزات.quot;
أضف إلى ذلك أن لفظة quot;اجتيازquot; في اللغة العربية ترتبط بمجابهة الصعاب والعقبات والتحديات، وتخطي الحدود والجسور والحواجز، كما أنها تفيد معنى الإنجاز والترقي، وهو ما يعنيه نيكولسكو بالضبط: وحسب تعبيره، فإن: quot; اجتياز المناهجية ما كان له أن يتم إلا بفضل وجود المناهج أولاً، وأن البشرية احتاجت قرونًا حتى تراكم من المعارف والمناهج ما يكفي حتى تجتازهاquot; hellip; وفي موضع آخر يقول: quot; إنها علم وفن اكتشافquot; المعابرquot; بين الكائنات والأشياء quot;.(7)
يقترح quot; بسراب نيكولسكو quot; اكتشاف روابط اجتماعية جديدة، لتحقيق السلام العالمي، عن طريق إيجاد quot;معابرquot; لأن غياب هذه المعابر بين الكائنات والأشياء ينفي إمكانية قيام حوار حقيقي بين أمم الأرض في عصر العولمة. ولإنشاء معابر كتلك يجب إنجاز ثورة حقيقية ( في التعليم ) وللفطنة قادرة على فتح معابر بين الطبيعة والكيان الداخلي، الفطنة التي قوامها الوجدان، مما يوجب إضفاء بعد شعري للوجود.
إن اجتياز المناهجية يقود إلى سمة جديدة هي التسامح، حيث أن الاختلاف والتعدد هو الأصل والأساس، وهو quot; ينتج عن تبين وجود أفكار وحقائق مختلفة عن المبادئ الأساسية quot; (8) مما يعني أن هذه المبادئ ليست مطلقة وإنما نسبية تقبل التعديل والتطوير والتغيير.
ويؤكد نيكولسكو على أن نقل أو ترجمة ثقافة إلى أخرى أمر غير ممكن، رغم ثورة الاتصالات والمعلومات، مما يؤكد أن الاختلاف والتباين والتفرد والتمايز والأصالة والخصوصية لا يمكن دمجها أو ذوبانها وتلاشيها في وحدة معني أو وحدة مبني، وذلك لأن quot; الثقافة ناتجة عن الصمت بين الكلمات، وهذا الصمت غير قابل للترجمة quot; (9). صحيح أن الحداثة أدت إلى تقارب الثقافات المتنوعة، كما أدت التعددية الثقافية إلى اكتشاف ثقافتنا بشكل أفضل، وشجعت ثورة الاتصالات على ظهور الثقافة البينية - intercultural، لكن كل ذلك لم يزد عن كونه تمهيدًا أو مدخلاً أوليًا إلى اجتياز للثقافة - Tran cultural الذي يعني quot; انفتاح كافة الثقافات على ما يجتازها ويتخطاها quot; (10). واجتياز الثقافة هو ثقافة المكان بلا مكان، فضاء الصمت، وهكذا فإن quot; نواة الصمت هذه تبدو لنا وكأنما لا معرفة، لأنها عمق المعرفة وجوهرها quot; (11) ولا يمكن التعبير عن الصمت بلغة الكلمات، وإنما بلغة من طبيعة مختلفة يسميها نيكولسكو quot;عبر لغةquot; - trans-language.
وعبر اللغة هو لغة تلقائية مباغتة، تنبه آني، حدث مرتبط باللحظة الحاضرة التي هي الزمن الحي. quot;اللحظة الحاضرةquot;، تحديدًا، هي لا زمن non-temps، اختبار للعلاقة بين الذات والموضوع، وهي بذلك تنطوي كمونيًا على الماضي والمستقبل، كلية دفق المعلومات الذي يجتاز مستويات الواقع وكلية دفق الوعي الذي يجتاز مستويات الإدراكquot; (12).
هذا من جهة، من جهة أخري يربط نيكولسكو بين الثقافة والدين، وذلك من خلال طرحه لمشكلة quot;المطلقquot; أو quot;المقدسquot;، والتي quot;لا يمكن تفاديها في كل مقترب عقلاني للمعرفةquot; (13) وهو يستعير تحديد مرسيا إلياد لـ quot;المقدسquot;، الذي يقول: quot;إنه.. اختبار واقع ومنبع وعي الوجود في العالمquot; (14). والمقدس بما أنه كذلك، لا يقبل الاختزال، لأنه بالفعل العنصر الجوهري في بنيان الوعي، وليس مجرد شوط في تاريخ الوعيquot; (15).
إن المقدس عند نيكولسكو هو quot;اجتياز مناهجيquot;، لأنه نطاق مقاومة بالنسبة إلى مستويات الواقع والإدراك، وهو، وإن كان غيبًا بالنسبة لها، إلا أنه يربط فيما بينها بوصفه ثالثًا مرفوعًا. فالمقدس، باعتباره مسألة مفتوحة على تعددية الإجابات ( والأديان والمعتقدات )، هو مصدر موقف عبر ديني، وحسب قوله quot;فإن صراع الحضارات لن يقع إذا وجد الموقفان العبر ثقافي والعبر ديني مكانهما الصحيح في الحداثةquot; (16).
من هنا لابد من البحث عن quot;نمط جديد من التربية ( والتعليم والتعلم ) يأخذ في الحسبان أبعاد الكائن البشري كلهاquot;(17) وهو يتأسس عنده على أربعة أركان هي:
1 - تعلمُّ المعرفة للتمييز بين الواقعي والوهمي
2 - تعلم الفعل، أي تحصيل مهنة قادرة على التواصل مع المهن الأخرى، وهو يعني عنده تعلم quot;الإبداعquot;.
3 - تعلُّم الحياة السوية، الأمر الذي يعني الانفتاح والاحترام والتسامح.
4 - تعلم الوجود باكتشاف التناغم والتنافر بين حياتنا الفردية والاجتماعية.
وهذه الأركان الأربعة ترتبط فيما بينها، وفق اجتياز المناهجية، بما يمكن تسميته عبر علاقة- trans-relation. والتربية القابلة للحياة quot;لا يمكن أن تكون إلا تربية متكاملة للإنسان hellip; تخاطب الكلية المفتوحة للكائن البشري، وليس مكونًا واحدًا من مكوناتهquot;(18) أي أنها تربية دائمة طوال الحياة.
وعلى ذلك، فإن هدف النمط الجديد من التربية ليس هو تجنب صراع الحضارات فحسب، وإنما إجراء تغييرات جذرية في العقلية والمسلك الاجتماعي، وهي مسؤولية كل فرد تجاه ذاته. ولكن quot;على البنى الاجتماعية أن تخلق الشروط لكي تستطيع هذه المسؤولية أن تنفتح فيها وتمارسquot; (19) وبالتالي تظهر حاجة ماسة إلى شكل جديد للنزعة الإنسانية - Humanism يمكن أن quot;يوفر لكل كائن بشري القدرة القصوى على التنمية الثقافية والروحيةquot; (20) يطلق عليه quot;العبر إنسانيةquot; - Tran humanism.
وتختص العبر إنسانية ببحث الحالة الطبيعية للإنسان - الإنسان الذي يتجاوز ذاته، وذلك بالبحث عما هو quot;بينquot;، وquot;عبرquot; trans، وفيما يتعدى الكائنات البشريةquot; (21).
كما يربط نيكولسكو بين quot;الأمةquot; Nation و quot;الطبيعةquot; Natura وquot;الجنسيةquot; Nationality، من خلال الجذر اللغوي المشترك لها، ويقول quot;إن الاعتراف بالأرض كوطن رحمي - matricielle هو واحد من إلزامات اجتياز المناهجية. لكل كائن بشري الحق في جنسيته، لكنه في الوقت نفسه ( وفي عصر العولمة ) كائن عبر وطنيquot; (22).
ويمكن للعبر وطني إزالة أسس التمييز الممثلة في الأنانية القومية والدينية والطائفية، منع الحروب والاستغلال والاستعباد، وبالتالي منع انتهاك كرامة الكائن البشري. quot;على هذا الأمل وعلى هذا الرجاء تنوى اجتياز المناهجية أن تشهدquot; (23).

الهوامش والمراجع:
3 - International center of Transdisciplinary Research (CIRET)
http://perso.club-internet. Fr/nicol/ciret/
باللغات: الفرنسية والإنجليزية والبرتغالية والأسبانية.
4 عن مؤلفاته: نحن والتقُسيُم والعالم، الإنسان ومعنى الكون: مقالة في يعقوب بوهمه ونظريات شعرية العلم يواجه تخـوم المعرفة (وثائق ندوة البندقية المنعقدة بمبادرة من اليونسكو في مايو 1986) وقام بترجمته محمد حسن إبراهيم. منشورات وزارة الثقافة بدمشق 1994، وبيان العبر مناهجية، تقديم أدونيس، ترجمة: ديمتري أفييرينوس، دار مكتبة أيزيس، دمشق 2000، وهو الكتاب العمدة بالنسبة لنيكولسكو والذي أعتمدنا عليه في هـذا البحـث، ويشتمـل على مجموعة من الدراسات الجادة نشرت تباعًا في مجلة quot;معابرquot; الإلكترونية التي تصدر باللغة العربية في سوريا. 50megs.Com.http://maaber منها مستويات التعقيد ومستويات الواقع، العدد الأول. العبر مناهجية والتعقيد.. مستويات الواقع كمصدر لعدم التعين، العدد السابع. العلوم المضبوطة: تفاعلها مع العلوم الإنسانية ودوره في المجتمع، العدد العاشر.
5 - Jean Piaget: in Lrsquo;interdisciplinariteacute;-Probleacute;mes Orsquo;enseignement et de recherche dans les universiteacute;s, OCDE, Paris, 1972.
6- أندريه لالاند: موسوعة لالاند الفلسفية، تعريب خليل أحمد خليل، تعهده وأشرف عليه أحمد عويدات، منشورات عويدات بيروت - باريس ط 2، 2001 (ثلاثة أجزاء)، الجزء الثالث (R - Z) ص - 1471.
7- نيكولسكو (ب): بيان العبر مناهجية، ص - 109.
8 ndash; المرجع نفسه: ص - 143.
9 - المرجع نفسه: ص - 123.
10 - المرجع نفسه: ص - 127.
11 - المرجع نفسه: ص - 128.
12 - المرجع نفسه: ص - 129 و 130.
13ndash; المرجع نفسه: ص - 147.
14- المرجع نفسه: ص: 14
15 - المرجع نفسه: ص - 148
16 - المرجع نفسه: ص - 151.
17 - المرجع نفسه: ص - 153.
18 - المرجع نفسه: ص - 159.
19 - المرجع نفسه: ص - 168.
20 - المرجع نفسه: ص - 168.
21 - المرجع نفسه: ص - 168.
22 - المرجع نفسه: ص - 169.
23- المرجع نفسه: الصفحة نفسها.