يمكن النظر إلى ما يجري في إيران، اليوم، ومن خلال هذا الغليان والفوران والتماوج الشعبي والفكري والتجاذب السياسي، وفي أحد الوجوه، من منظور الحيوية الحضارية التي تمتع بها هذا الشعب العظيم، الذي يرفض أن يستكين لواقع يتيم، والتي ndash; الحيوية- مكـّنته عبر التاريخ من إنتاج الحضارات وتداولها والتفاعل الحضاري والإنساني مع الحضارات الأخرى. فحين ظهر الإسلام في جزيرة العرب في الثلث الأول من القرن السابع الميلادي، طغت العبقريات الفارسية، عليه وتمكنت من إعطائه جزءً من هويتها، ودفعاً حضارياً هائلاً بحيث أصبحت الرموز الفارسية واحدة من أهم مكونات ومولدات ما يسمى بالحضارة العربية التي توجه رموز هذه الأخيرة، وخلفاؤها للهو، والمتع المادية، والانشغال بتفاصيل هامشية غير جوهرية ما أفضى إلى هذا السبات التاريخي Hibernation Historical الذي تكابده quot;الأمةquot; عبر التاريخ.
لقد استطاعت إيران المعاصرة، وفي أحد وجوه تجدد حيوتها التاريخية، أن تتميز، دائماً، عن محيطها الشرق أوسطي المترهل، والشاخر في العطالة التاريخية quot;المجيدةquot;، إياها، وذلك عبر عدة تحولات جذرية تنم عم رفض ذاك المكون البشري لحالة المراوحة في المكان، والإيمان العميق بضرورة مواكبة المتغيرات العالمية. ولعل قيام الثورة الإسلامية في العام 1979، على يد آية الله روح الله الموسوسي، تدلل، وفي بعض وجوهها، وبغض النظر عن مضموناتها السلفية والدينية على رغبة كامنة، في تجاوز حالة الترهل السياسي والنمطي الذي وضعت به المنظومة الشاهنشاهية الوراثية الأبوية إيران، ونزوع دائم نحو التحرر من أصفاد التاريخ ومسلماته الإذعانية التي كبلت جارها quot;العربيquot;.
وتبدو الريادة والتفوق العسكري الإيراني اليوم، وعبر الاستغلال الأمثل للثروات الوطنية، كدلالة بالغة على حيوية هذا الشعب عبر محاولته امتلاك كل أسباب وأدوات القوة التي هي إحدى الآليات والركائز الحضارية التي يجب توفرها لتتبوأ أية أمة سدة السؤدد والمنعة والاستقلال. كما كان لاحتضان إيران لثقافة مقاومة الاحتلال والهيمنة العسكرية لقوى الشر والاستعباد، والدعم المطلق للمقاومات الوطنية في كل من لبنان والعراق وفلسطين، على التوجه لتبنيها لرؤى حضارية وإنسانية تحررية وثورية ترفض الهيمنة والمنطق الاستعماري وبغض النظر دائماً، وأيضاً، عن القسرية التي يتم تناول هذا الموضوع بها، ومحاولات توظيفه وتفريغه من مضمونه التحرري والإنساني والثوري عبر رده مذهبياً واللعب على موروثات عقائدية تفعل فعلها في عقل المتلقي وتزيف وعيه الفطري الإنساني والمعرفي.
كما إن اتجاه إيران المذهل، وبعد الثورة مباشرة، وربما، كرد على الاستبداد الشاهنشاهي الأسطوري الخرافي، لتبني الخيارات الحضارية في تداول السلطة عبر اللجوء للخيار الديمقراطي والانتخابي في إدارة شؤون البلاد، هو أحد الدلالات الكبرى أيضاً على حيوية هذا الشعب والبلد. فالانتخابات البرلمانية الإيرانية والبرلمان الإيراني المنتخب، هي واقع حقائق سياسية ملموسة، على الأرض، لا يمكن نكرانها. إضافة إلى أن عملية انتخاب رئيس الجمهورية، أصبحت، هي الأخرى، تقليداً منتظماً في إيران، وقد شهدنا حتى الآن تداول منصب الرئاسة فيما بين كوكبة من الرؤساء منذ الثورة، نستحضر منهم في هذه العجالة، بداية بأبي الحسن بني الصدر، وعلى الخامنئي( المرشد الأعلى اليوم)، ومحمد على رجائي (الذي قضى بانفجار دموي)، مروراً بهاشمي رفسنجاني، ومحمد خاتمي، وليس انتهاء بأحمدي نجاد. وعلى الجهة المقابلة، لا تزال، تقريباً، ومنذ نفس التاريخ، نفس القيادات في المحيط الشرقي أوسطي الاستبدادي، والتي تهاجم نفسها هذا الحراك الحضاري الإيراني، تجثم على رقاب شعوبها منذ عقود خلت، رافضة أن تتزحزح وتتخلى عن امتيازاتها quot;الإلهيةquot;، ها هنا وبكل دقة لفظية، وليست مجازية مطلقاً.
كما تعتبر مظاهر الاحتجاج السلمي، وتعبيرات الرفض العلني البارزة في غير زمان ومكان، كهذه، وتلك التي جرت في العام 1999، من قبل طلاب محتجين، كلها دلالات على امتلاك هذا الشعب والأمة لأدوات العصرنة، ومحاولة مواكبة ودخول العصر، كما التاريخ من أوسع أبوابه.
ويبقى السعي لامتلاك السلاح النووي، والصناعة النووية، وبغض النظر عن كل تلك الآراء المتضاربة ووجهات النظر المثارة حوله، أمراً بالغ الدلالة والأهمية في ميل فطري حضاري جمعي لدى هذا الشعب للاصطفاف مع quot;الكبارquot; وترك عالم الضعفاء والصغار. والحيوية المتألقة والمتجددة نفسها، هي في تثمير الثروات الوطنية في مشاريع استراتيجية ناجعة على المستوى البعيد، وبالضد تماماً، مما فعلته منظومة الجوار quot;العربيquot;، الأبوية quot;الإلهية اليقينية الناجية من النارquot;، عبر احتكار غريب للدنيا والآخرة عبر التمسح بمظاهر الورع والتقوى والإيمان، وتبديد للثروات الوطنية على الملذات والبالونات والفقاقيع الأخرى والمتع الشهوانية الاستعراضية الفارغة من أية مضامين حضارية، أو إنسانية، وحتى أخلاقية، أحياناً، والتي لا تخيف بعوضة أو تؤثر في أي شيء استراتيجي، لا إقليمياً ولا دولياً.
ومن يصدق، أيضاً، أن إيران، اليوم، التي تشكل ثقلاً عسكرياً استراتيجياً وإقليمياً هائلاً، هي نفسها، إيران، التي خرجت منهكة من حرب استنزاف السنوات الثمانية مع الجار العروبي البعثي الخالد المخلـّد العظيم، لولا التمتع والتوفر على تلك الحيوية الخاصية الحضارية والزائدة، ربما، عن الحاجة لدى الشعب الإيراني، بما يكفي لتصديرها إلى كل من لبنان، وفلسطين والعراق، وإحداث تحولات بينة في عمقها السياسي والمجتمعي والاستراتيجي،. ( وحتى مصر، فالبعض لا زال يذكر الحملة الهائجة والهوجاء التي شنها فضيلة الشيخ الجليل القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، رعباً مما أسماه بالتغلغل والنفوذ الشيعي في مصر، كما بالنسبة لإغلاق السفارة الإيرانية في المغرب خوفاً من المد الحيوي الإيراني، إضافة لظهور الأقليات الشيعية كقوى صاعدة quot;بخجلquot; حتى الآن في الخليج، ولا حاجة بنا للكلام عن السودان، فالقصة معروفة للجميع). فهل ستكرر إيران سيرتها quot;الطغيانيةquot; الأولى على المحيط العربي، كما فعلت مع quot;حضارتهمquot; القديمة؟
وبكل شفافية وحياد، يمكن القول، اليوم، أن ما يسمى بالثورة الإسلامية، ( من منظور أنها أحد أوجه الحيوية الحضارية الإيرانية التاريخية)، قد دخلت هي الأخرة، في حال من الترهل والنمطية والمراوحة في المكان، وبدا أن تلك الحيوية الحضارية التاريخية بدأت تدب وتسري في أوصال المجتمع، من جديد.
نعم التغيير قادم في إيران، والانتقال إلى مرحلة حضارية جديدة. إنه التغيير الإيجابي الحضاري والحيوي الحتمي والتقليدي الذي كان يدفع بإيران، كل مرة، خطوات حضارية وريادية، نحو الأمام مراكماً المزيد من خبراتها الحضارية، ومن قلب النظام، هذه المرة بالذات. فقد ألهبت ملاحظات أحمدي نجاد، نفسه، المحافظ المتشدد، الشارع الإيراني، بحديثه الشفاف، والواضح وفضحه، غير المسبوق، لمظاهر الفساد والمحسوبيات واستغلال النفوذ والثروة والسلطة التي باتت تنهش أجزاء من المنظومة السلطوية في إيران، وذلك خلال المناظرة التلفزيونية الرئاسية المستجدة قبيل الانتخابات( وهي تجديد حضاري مستحدث آخر دخل حلبة الحيوية)، والتي استرعت ndash; المناظرة- احتجاجاً مكتوباً من هاشمي رفسنجاني، الرمز الإفسادي الإيراني اليوم، قدمه للمرشد الأعلى علي خامنئي.
إيران جديدة، بعد هذه الانتخابات ومفاعيلها المثيرة، وستشهد حالة من التموضع الجديد بعد هذا الحراك والغليان الشعبي الكبير. وهي، بالطبع، غير إيران، التي كانت قبل عملية انتخاب الرئيس الأخير. ولا تفسير لذلك إلا من المنظور الحضاري، والحيوي الأكيد، الذي امتلكته الأمة الفارسية، عبر التاريخ.
- آخر تحديث :
التعليقات