ظلت ولاءات رئيس التحرير لا تُعد ولا تُحصى لأصحاب الشأن بالرغم من مركزه السيادي، الذي يتمناه أي صحفي آخر، وكان من بين الجوقة التي ينتمي إليها كثيرون، لا سيما أنّ حالات الزملاء البقية يعيشون المعاناة ذاتها، ويحاولون جادّين التخلّص منها بصورة أو أخرى، كي لا تتأجج ويقع الفأس في الرأس، وعندها لا يمكن أن يغفر لها أحد حيال ما سبق، مهما كانت مكانته الوظيفية وعلاقاته الاجتماعية، وإن وصلت إلى رأس الهرم!
ألوان قزحية شكلت معها صورة ولا أجمل للسيد رئيس التحرير، وهو يحاول الخروج من بيته إلى مكان عمله، المكان الذي يستمر فيه طيلة نهاره، وأكثر من نصف ليله حتى الانتهاء من طباعة عدد الصحيفة بالكامل التي يترأس تحريرها، والمعني بنشر كل صغيرة وكبيرة فيها.
خطأ بسيط، بلا شك، وإن كان غير مقصود منه، أو من قبل زملائه المحررين العاملين في الصحيفة، سيقضي على مستقبله الوظيفي، ما يعني هذا أنه يتحمّل مسؤولية كبيرة ومهمّة، وقد يكون السجن مصيره، وخاصة إذا كانت تتعلّق بهيبة الدولة أو رئيسها، فهذا ما يعني أنه حفر قبره بيده.
إنّ معاناة رئيس التحرير ظلت قائمة مع طاقم العمل التحريري، ومع رؤساء الأقسام الذين يشرفون على معظم مناحي العمل في الصحيفة ويتسيدون رقعتها، وفي أكثر من مرّة كان يحاول الإقلاع بواقع العمل في الصحيفة التي تأخذ حيزاً واسعاً من وقته وطموحه الدائم في ظل منافسة بقية الصحف التي تصدر، وأن مجلس الإدارة المشرف عليها بصورة مباشرة وظّف لها إمكانات مادية جيدة لأجل الإقلاع بها وتحسين هيكليتها والمنافذ التي من خلالها يمكن أن تكون من بين الصحف التي تدخل في منافسة حادّة مع بقية الصحف الصادرة.
وهذا ليس غريباً على رئيس التحرير، الذي كان يحاول دائماً أن تكون صحيفته في المقدمة، وأن تنافس بقية الصحف ليكون النجاح حليفها في المستقبل.
اجتهادات رئيس التحرير جاءت في محلها هذه المرة، فبادر إلى تغيير كلي في جميع الأقسام، واستبدال محررين عاملين بمحررين آخرين من العاملين في الصحيفة دون اللجوء إلى التعاقد مع صحافيين من خارج الملاك، كما نجح في استبدال حروف الطباعة المتبعة منذ فترة طويلة، أضف إلى تحسين الخطوط الرئيسية الخاصة بالعناوين...
الصورة التي ارتآها رئيس التحرير فاجأت رؤساء الأقسام في الصحيفة، إذ بادر إلى إجراء حملة شاملة لجهة استبدالهم وتغيير عدد كبير منهم من أجل تحسين الأداء فيها، ويحاول منذ زمن بث روح التحدي في الصحيفة، وخلق تناغم جديد وتغيير شامل من حيث الشكل والمضمون، وانتهاء بالأعمدة الصحفية والزوايا التي تطرح بصورة دائمة، وتجديدها لتتلاءم مع كل ما هو جديد...
هذا ما جعل رؤساء تحرير الصحف البقية يحاولون حذو الخطوة التي خطاها، وتفعيلها والعمل بموجبها، وتقليد الخط الذي أجراه زميلهم التي كانت لها إيجابياتها بالتأكيد، وزاد من رصيد القرّاء الذين رأوا فيها تميّزاً واضحاً في الشكل والمحتوى، وفي المادة الصحفية، وتغيير في سياستها العامّة، فضلاً عن طرح العديد من القضايا الجادة التي تُلامس قضايا الناس ومعاناتهم، وهذا ما هو مطلوب وما يحاول الجمهور وشرائحه المختلفة أن يصل إليه بالوقوف على معاناته وحلحلتها.
إنَّ مشكلة رئيس التحرير لا تتوقف على ذلك التغيير فحسب، وإنما حاول مراراً تجديد الخط الصحفي للصحيفة، ونجح في ذلك، كما كان يحاول أن يُجسّد في كلمته الافتتاحية التي يكتبها في كل فترة رؤية الحكومة وتصوراتها، على أنه فضل أن يلتزم بموعد أسبوعي، وهذه رغبته، إن لم نقل بصورة يومية يتناول فيها حالة عامة، أو قضية لها شأنها، وهذا ما قطعه على نفسه بدلاً من حالة الإحباط والكسل التي هو عليها باكتفائه بمقال أو اثنين أو ثلاثة، ولنقل أربعة طوال عام تشتمل على خطة الحكومة وأهدافها وتوجيهاتها.
إقرأ أيضاً: الطلاق أبغض الحلال
فضّل رئيس التحرير العدول عن ذلك التوجه، مجسداً صورة جديدة لعالم صحافي جميل ومتجدد يجد فيه نفسه، ويُخرجه من بوتقة الكسل والسكون التي يعيشها إلى انتفاضة متجددّة تجعل منه رئيس تحرير له رؤيته وسلطته ومكانته، وكل ذلك دفاعاً عن قضايا عامّة تُلامس حياة الناس ويأمل حلها.
هذا ما يحاول رئيس التحرير تجسيده، ويؤكد عليه مع تطور الأحداث الجديدة التي باتت تشهدها المنطقة بصورة عامة، وهذا يحتاج إلى إمكانية وقدرة على مواكبة كل ما هو جديد ونافع، على أن تصب بالتالي في مصلحة الوطن والمواطن، وهذا ما كان يأمله متحدياً بذلك رغباته للوصول إلى رؤية صحيحة يحاول تجسيدها إلى واقع يلامس هموم الناس واحتياجاتهم، ويعالج قضاياهم قبل كل شيء.
اجتهاده بهذا الاتجاه بالتأكيد سيقلع من مكانة الصحيفة، ويثري صفحاتها بالتكالب عليها باقتنائها، وكسب الإعلان الذي يظل هو المورد الأساسي لأي صحيفة تحاول النجاح والتألق والاستمرارية، وهذا ما أراد رئيس التحرير أن يشير عليه، ويصرح عنه في الاجتماعات الدورية، وينقله بدوره إلى مجلس التحرير الأسبوعي، وكل هذا الجهد تمكن من أن يحققه بسبب الشغف غير العادي الذي كان يثير فيه مشارب مختلفة من العطاء والتحدي والنبوغ من بين زملائه الآخرين العاملين في الصحف التي يشرفون عليها.
إقرأ أيضاً: المرأة خصب الحياة
هذا طبعٌ جبِل عليه، وظل يُلامس النجاح الذي رفع من شأن صحيفته اليومية، وزاد دخلها المادي أضعافاً مضاعفة، ما جعلها تُهيمن على السوق المحلية في البلد التي ولدت فيه، وصارت تنافس وبشدّة الصحف العاملة التي لها مكانتها في دول الجوار وباهتمام ومتابعة جماهيرية لم يسبق لها مثيل.
الهمة العالية والتألق والرغبة والتحدي، والعمل الجاد جعلت من رئيس التحرير إنساناً آخر، بالرغم من تواضعه وبساطته، إلّا أن الشغف والحب غير العادي للمهنة جعلته يتفرد ويتميز على زملائه، ونجح في ذلك.
التعليقات