معيار نجاح وتقدم أي دولة يتشكل من خلال وجود نظام سياسي راسخ، يعمل وفق تخطيط منهجي لعمل المؤسسات وبرامجها في تحقيق مشاريع قصيرة المدى زمنياً إلى جانب أهداف طويلة المدى، وفق ضوابط التقدم والنمو المتراكم في إدامة الاستراتيجيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وصولاً إلى الرياضة وكرة القدم عندما تكون واجهة حضارية ومدخلاً لتعزيز الاقتصاد.

كل شيء في الدول المتقدمة يخضع للتخطيط، بدءاً من المشاريع الكبرى في بناء المحطات النووية والصعود للفضاء وانتهاءً بأصغر مشروع إنتاجي أو وحدة إدارية أو فنية، لا شيء عشوائياً أو بمحض الصدفة والارتجال والمزاج المتغير للمسؤول، كما يحدث في العديد من الدول العربية ومنها العراق.

نعاني جميعاً في العراق من أزمة عنوانها العريض شح الطاقة الكهربائية، خصوصاً في فصل الصيف، والمفارقة المحزنة أنها أزمة مستمرة منذ 21 سنة، أي عقدين من السنين، وأنفقت لها أكثر من تسعين مليار دولار أميركي، دون أن تتوفر للمواطن بلا عناء وصعوبات. الأزمة هنا ليست فنية وحسب، بل هي معطى لأزمة سياسية وإشكالية اقتصادية يطول الحديث فيها، لكنها تمثل أحد أوجه الارتجال السياسي وغياب التخطيط مع تغول الفساد في هذا القطاع.

الحديث عن أزمة الكهرباء نعني بها تعطل قطاع حيوي مهم في الحياة ترتبط به الصناعة والعديد من المهن ووسائل الاتصال وغيرها، وتلك صورة لأزمات أخرى مثل أزمة المياه في بلاد الرافدين، ونتركها لنذهب إلى أزمة البطالة، وتكدس أكثر من مليون خريج بلا وظيفة، وضياع مليارات الدولارات في إنفاق يفتقد الرشد والحس الوطني والأخلاقي تحت عناوين قوانين انتقالية اسمها تعويضات للسياسيين وعوائلهم وأبنائهم في مرتبات شهرية تماثل السرقات العلنية المخزية التي تغطيها بقوانين وقرارات عبثية وغير مدروسة؛ هدر بالمال يأكل جزءاً كبيراً من موازنة الدولة السنوية.

إقرأ أيضاً: ماذا لو توقف الموت عن زيارة البشر؟

بالانتقال إلى المدار السياسي، فالأزمات تتشظى دون اكتراث من القائمين على العملية السياسية، بسبب عدم تطبيق الضابط القانوني والدستوري. أزمة غياب رئيس مجلس النواب العراقي أكملت شهرها الثامن دون انتخاب رئيس جديد حيث يشترط القانون أن يُنْتَخَب رئيس جديد في أول جلسة برلمانية في حال فراغ منصب الرئيس لأي سبب كان. وبتعليل موجز لأزمة مجلس النواب، فإنها تعكس تنافس وصراع الأحزاب السّنية على هذا المنصب وعدم قدرتها على الاتفاق واختيار شخصية سياسية تحقق القبول لدى الفرقاء السّنة.

إقرأ أيضاً: الدكتاتور المتمرد صدام حسين يتناسل عراقياً

الأزمة في داخل الإطار التنسيقي وأحزابها، إذ يريد البعض انتخابات مبكرة وبقانون انتخابي يضمن لها البقاء في السلطة، وطرف آخر يريد إنهاء مشوار حكومة محمد شياع السوداني بعد أن حققت مقبولية في الشارع العراقي والتفاف عدد من نواب مجلس النواب حوله، الأمر الذي يهدد بكسب مقاعد برلمانية عديدة تتيح له البقاء في رئاسة الوزراء دورة ثانية، والأمة داخل فريق الأحزاب الشيعية أشبه بنار تحت رماد.

إقرأ أيضاً: الأسلحة السرية!

الكتابة عن الأزمات في العراق تستدعي مجلدات كبيرة، لأنها تمتد على جميع مستويات الحياة من التعليم إلى الصحة إلى النقل إلى التفاوت الصارخ في المستوى المعيشي وغياب العدالة في توزيع الثروة؛ أزمات بلا حلول جميعها تولدت من أزمة غياب التخطيط والشفافية واستبدالها بطموحات الأحزاب التي تتصدى للسلطة في كل أربع سنوات، وتلك أزمة سياسية وتنظيمية كبرى، لأنَّ الحكومات المتعاقبة لا تعمل وفق منهج تراكمي وبحسب البرنامج والخطط السنوية والخمسية، بل كل ٌ يعمل وفق اشتهاء ورغبة الحزب في الانتفاع على حساب المال العام ومصادر عيش الشعب، وهنا نعود إلى الأزمة الأم بوجود فساد يشكل منظومة حاكمة في المجالات جميعهن، بل هو الذي يُغيب التخطيط، ويقصي الكفاءات ويحقق إرادة الدولة العميقة التي تؤكد غياب التخطيط حتى تعمل وفق قوانينها التخريبية وتحطيم الدولة والمجتمع وإشغالهم في أزمات تلد أخرى.