تتقاطر الأحداث والشواهد الدالة على عمق الاهتراء والضعف الذي تعانيه المنظومة الأمنية الإيرانية في الداخل، منذ اغتيال العالم النووي الإيراني الأبرز محسن فخر زادة، الذي يعتقد أنه كان العقل المدبر للبرنامج النووي الإيراني، في كمين نفذته مجموعة مسلحة استهدفت موكبه بالقرب من طهران في نوفمبر 2020، حتى مقتل الرئيس السابق حسن روحاني بحادثة سقوط مروحية نسبت إلى "القضاء والقدر" من دون إعلان رسمي عن نتائج التحقيقات النهائية، وبينهما اغتيال قائد الحرس الثوري السابق قاسم سليماني بغارة أمريكية في العراق، وصولاً إلى استهداف رئيس المكتب السياسي لمليشيا "حماس الإرهابية" إسماعيل هنية في قلب منطقة سكنية يحكم الحرس الثوري قبضته عليها بشكل كامل.

من بين هذه السلسلة من الضربات الكاشفة، تبرز عملية اغتيال هنية باعتبارها الضربة الأكثر إيلاماً وتأثيراً للنظام الإيراني لسبب أساسي هو أن العملية تمت بشكل دقيق للغاية وسط ظروف لم تمكن النظام الإيراني من التعامل معها كعادته في المراوغة والتهرب وامتصاص الضربة مهما كان ثقل ضحيتها، حتى لو كان بوزن رئيس البلاد!.

اغتيل هنية وهو نائم في المنطقة الأكثر أماناً من وجهة نظر إيران الرسمية، في لحظة لا تخلو من إذلال وإهانة وسقوط مريع لكل ادعاءات ميلشيا الحرس الثوري ومزاعمها حول قدراتها التكنولوجية والأمنية، وهو مايفسر استشعار النظام على الفور حجم الإهانة التي لحقت به، ليخرج المدعي العام الإيراني بعد ساعات قلائل معترفاً ضمنياً بحدوث ما وصفه بإهمال أو أخطاء، متوعداً بمحاسبة المسؤولين عن ذلك، وهو أمر غير مسبوق في السلوك الإيراني الذي لم يعترف في حالات اختراق سابقة للمنظومة الأمنية بحدوث مايصفه بالتقصير عوضاً عن تسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية أو الاعتراف بأن هناك فساد مدقع وخيانات بالجملة داخل هذه الميلشيا، التي لا تخضع لأي محاسبة أو رقابة من أي نوع!

إيران لم تشعر هذه المرة بجرح كبريائها وكرامتها الوطنية سوى لأنها لم تستطع تبرير الأمر والخروج من ورطة الفشل التي وجدت نفسها غارقة فيها جراء عدم قدرتها على حماية شخص كان يشارك في احتفال تنصيب رئيسها الجديد (!) فقد اعتادت مثل هذه الأحداث التي استهدفت قادة عسكريين وخبراء نوويين تم اغتيالهم في قلب إيران واحداً تلو الآخر خلال السنوات الأخيرة، إذ لم يكن محسن زادة أول عالم نووي يغتال في قلب طهران، فقد سبقه مسؤولين آخرين في العام ذاته وبفارق 20 دقيقة حيث قتل الأول واصيب الثاني! وبعدها اغتيل جنرال كبير في الحرس الثوري وتلاه مهندس كبير بمنشأة نووية إيرانية، والقائمة تطول في السنوات الأخيرة بين قتل وإعلان انتحار ووفاة في ظروف غامضة ومنهم عالم الفضاء البارز أيوب انتظاري، الذي قيل أنه تعرض للتسمم، في ظروف مشابهة لما تعرض له العالم النووي بمنشأة "نتانز"، كيمران مالابور، وشخصيات عديدة وأسباب أخرى مختلفة والنهاية واحدة، ناهيك عن فضيحة تهريب أطنان من وثائق سرية خاصة بالبرنامج النووي الإيراني، في عملية كارثية استخباراتياً لم تجد طهران أمامها سوى الادعاء بأن الوثائق ليست ذات أهمية، واختراق النظم الأمنية في أهم مفاعلات إيران النووية سواء عبر هجمات الكترونية، أو إشعال الحرائق وتعطيل نظم التشغيل.

هذه المرة، ضُبط النظام الإيراني وحرسه الثوري متلبساً أمام العالم أجمع بالضعف والفشل والاهتراء، والسبب أن الضحية (إسماعيل هنية)هذه المرة موضع اهتمام بسبب الحرب الدائرة في قطاع غزة، وبسبب كونه يقود أحد أهم أذرع مليشيات إيران الإرهابية في منطقة الشرق الأوسط، وتعرض للاغتيال في غرفة كانت أبعد ماتكون عن أي تصور بان تطاله يد أعدائه بالاستهداف، فهو يبيت ليلته في مقر سكني تابع للحرس الثوري في شمال طهران، بدليل أن وجود مرافق أمني واحد لشخص بوزن وأهمية "إسماعيل هنية" يعكس احساساً بالاطمئنان والثقة في الإجراءات الأمنية المحيطة!

الدلائل على عُقم وفشل الإجراءات الأمنية في داخل ميلشيا الحرس الثوري عديدة، فقد قتل العديد من كبار قادتها في داخل إيران وخارجها بطرق وأساليب وخطط مختلفة تعكس في مجملها غياب الحس الأمني الدقيق ووجود انتهاكات وخيانات واختراقات متكررة للإجراءات الأمنية المطبقة، وغياب أي مراجعة لهذه الاجراءات بسبب الغرور والغطرسة التي يعانيها النظام الإيراني بشكل عام، وهذا ليس استنتاجاً بل حقيقة واقعة تحدثت عنها إحدى أكبر الصحف الناطقة باسم عتاة المتشددين في النظام الإيراني، حيث ذكرت صحيفة "جمهوري إسلامي" في اليوم التالي لاغتيال هنية إن "أهم بعد لهذه الحادثة هو كيفية وصول إسرائيل إلى هنية بهذه السهولة، وفي قلب العاصمة طهران"، وأشارت الصحيفة إلى أنها دعت منذ اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده إلى "مراجعة الخلل الأمني في فرق الحراسة على هذه الشخصيات والمسؤولين الكبار في إيران، لأن سهولة الوصول إلى الأهداف وتصفيتها بهذه الشكل يؤكد وجود اختراق ومندسين داخل هذه المجموعات الأمنية المكلفة بحراسة المسؤولين والقادة العسكريين الكبار"، وقالت إنه "لا توجد آذان صاغية لدعواتها لتطهير فرق الأمن والحراسة من المندسين والعملاء"! واللافت أن الصحيفة انتقدت تكرار الحديث عن الانتقام دون أن يكون هناك انتقام حقيقي على أرض الواقع، معتبرة أنه بدلاً من الحديث المكرر عن الانتقام فإنه "يجدر بنا أن نطهر أنفسنا من وجود المندسين ونعاقبهم، لكي نمع تكرار مثل هذه الاغتيالات، موضحة أن المندسين وعملاء إسرائيل يترقون في إيران إلى أعلى المناصب من خلال الخداع والغش الذي يمارسونه في الداخل الإيراني"، وباعتقادي أن هذا الكلام ربما يمهد لعدم صدور رد فعل إيراني قوي وفق ما تروج إيران الرسمية منذ اغتيال هنية، باعتبار أن هذا الحديث يوفر غطاءاً جديداً للتنصل من الرد تحت شعار منح أولوية لتطهير الجبهة الداخلية من العملاء.