سبق أن كتبت في صحيفة الشرق الأوسط، 22 كانون الثاني (يناير) 2011، مقالاً بعنوان "الحفرة اللبنانية"، وذلك بعد أن رفعت السعودية يدها عن الوساطة السورية - اللبنانية بملف المحكمة الدولية الخاص في لبنان.

استهليت ذلك المقال بالقول إن "أول درس يتعلمه منقذو الغرقى أن لا تجعل الغريق يتشبث بك، أو برقبتك، وأول درس يجب أن يتعلمه من يتعاطى مع الشأن اللبناني هو أن لا تلعب على إيقاعهم، بل ارفعهم إلى مستوى الدولة لتتعامل معهم".

والآن أكتب مجدداً للتحذير من "اللبننة"، وخطورتها على المنطقة. و"اللبنة" هي التغول على الدولة، وتفريغها من الداخل، وتدمير نسيجها الاجتماعي، وقدراتها الاقتصادية، ومميزاتها الثقافية، وتحويل الدولة إلى كيان واهي لا يملك حتى قراره.

"اللبنة" هي أن تقول، لكن دون أن تقول شيئاً، وتسعى فقط إلى "تدوير الزوايا"، أي مضيعة وقت، وتسويف. وان تكون مقاوماً وقت "حمية الرأس"، ومدنياً تطالب بالحكومة المدنية وقت السلم "المزعوم"، أي التهدئة، وبالتالي التمدد الإيراني.

وتدافع عن مغامرات "حماس"، لكن ضد وجود الحركة في لبنان. وتريد السياحة، لكن ضد الدول القادرة على توفير السياح لك. وتحتفي بحفل تنصيب ملكة جمال لبنان، بينما تستنكر حفلاً فنياً في السعودية، أو دول الخليج.

"اللبننة" هي أن تقول: "نحن مع حزب الله، والحزب معنا"، ثم تطالب المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل لتكون "الضربة الرد" على عملية استهداف مجدل شمس بالجولان المحتل "محدودة".

و"اللبننة" أن تتلقى الضربة بعمق الضاحية الجانبية، وباستهداف أبرز قيادي الحزب، ثم تهاجم الآخرين. وتشاهد كيف اغتيل إسماعيل هنية وبطهران، ووسط حماية كل رجال الحرس الثوري، ثم تتهم الآخرين بـ"الصهينة" ودون أن تتوقف وتتسأل إلى أين نحن ذاهبون؟

ودون أن تتساءل كيف لإسرائيل أن تقوم بهذا الاختراق الصارخ في الضاحية الجنوبية ببيروت، وكذلك في إيران، وفي قلب طهران، بينما لم يحدث هذا الاختراق، مثلاً، وطوال تسعة أشهر بحق يحيى السنوار في غزة المدمرة؟

أكتب هذا ليس انتقاصاً من لبنان، أو اللبنانيين، وإنما حرصاً على لبنان الدولة، والإنسان، وحرصاً على دول المنطقة التي تتهاوى الواحدة تلو الأخرى، وهناك من يترنح، ومهدد بـ"اللبنة"، ويكفي تأمل حال العراق، واليمن، وسوريا، وليبيا، والسودان.

احذر من "اللبننة" لأنه لا يعقل أن من جرب حرباً أهلية، واحتلالاً إسرائيلياً، وإيرانياً، وحرب عام 2006، وقبلها احتلالاً سورياً "مبطناً" ولديه مجتمع مدني متعلم، ومتطور، ثم يكرر نفس المآسي، ولا يعتبر الآخرون من ذلك، أو يتعظوا!

لا يمكن أن نقبل بمنطقة تقبل بمنطق هذه "اللبننة"، بل لن تكون هناك دولة عربية من الأساس إذا انتشرت هذه "اللبننة"، حيث يكون القرار من الخارج، وحكومة لا تملك قرار الحرب والسلم، وبدون رئيس، ومرتهنة إلى قرار ميليشيا.

ولا يمكن لدولة أن تجلس منتظرة ضربة "محدودة" من إسرائيل، وهي بإمكانيات محدودة، وتتطلب المساعدة الاقتصادية، ويعيش مواطنوها في عناء حقيقي، وكفاءاتهم تطوف الأرض بحثاً عن فرص، وهرباً من وطن مدمر، ويدمر.

هل قلتها بصراحة؟ أظن أن "اللبننة" واضحة، وخاصة مع جماعة "بلا نقاش حاد"، والباحثين عن "تهدئة" مضللة، فلا شيء أكثر حدة من السلاح، والاغتيال، ولا خطر أكبر من خطر تدمير الدول، والتواري خلف مواقف وكلمات "ملبننة".

التحذير من خطورة "اللببنة" ليس مبالغة، بل تحذير من واقع خطر وواضح على نصف الدول العربية. والمطلوب اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، هو حماية الدول وهيبتها، وحماية الأوطان، والسلم الاجتماعي، والعمل من أجل تعليم واقتصاد أفضل، وليس مغامرات وأكاذيب أكثر.