أحد الأساليب التي تنتهجها الولايات المتحدة في التعامل مع خصومها تتمثل في المبالغة في قوة هؤلاء المنافسين وتضخيم قدراتهم لإرضاء غرورهم، كجزء من استراتيجيات التعامل معهم لاحقاً سواء على طاولة التفاوض المباشر وغير المباشر، أو لمباغتتهم في أي مواجهة عسكرية أو اقتصادية، وفي هذا الإطار يمكن فهم تصريحات مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي، التي قال فيها إن الولايات المتحدة تصدق الإيرانيين عندما يقولون إنهم سيردون على إسرائيل، وأضاف "لن أتحدث عن تقييماتنا الاستخباراتية، لكننا بالتأكيد غير قادرين على الوصول لعقل المرشد الأعلى علي خامنئي، وبماذا يفكر".

كيربي لا يتحدث من فراغ حين يشير إلى عدم القدرة على التنبؤ بقرارات المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، أو بالأحرى قراءة أفكاره والوصول إلى توجيهاته بشأن كيفية الرد على مقتل إسماعيل هنية، وكأن أجهزة الاستخبارات الأمريكية لا تعرف حتى الآن نمط تفكير رأس السلطة في بلد يمثل تهديداً للولايات المتحدة بحسب تصريحات متكررة لقادتها، أو كأن أجهزة مخابرات دولة إسرائيل الذين اخترقوا غرفة نوم قائد أحد أهم الوكلاء الإرهابين التابعين لإيران في العاصمة الإيرانية، لا يستطيعون اختراق الدائرة المقربة من المرشد، ولكن كيربي يدرك تماماً أن ملالي إيران يريدون الوصول إلى ذروة الشعور بإثارة مخاوف أعدائهم الأمريكيين، وساعتها ربما يكون هذا كافياً لإرضاء كل / بعض غرور المرشد ورفاقه ونزولهم من فوق قمة الشجرة التي يصعدون إليها عقب كل استهداف يطال قادتهم وكبار مسؤولي النظام وأذرعه الإرهابية ووكلائه الاقليميين، سواء في داخل إيران أو خارجها.

نحن نتحدث إذا عن أحد الأساليب النفسية التي تمرس عليها جيداً الجانب الأمريكي للتعامل مع العقلية الإيرانية المريضة التي تعشش فيها غطرسة القوة والغرور، وهو يدرك تماماً أنه يخاطب هذه العقلية ويعرف مسبقاً كيف يؤثر في قراراتها وسلوكياتها، فهؤلاء الملالي يريدون ما يوظفونه في خطابهم الدعائي لاستقطاب انصارهم ومواليهم، وهي عقلية مغايرة تماماً للعقلية الغربية العملية التي تكتفي بتحقيق أهدافها وتحقيق المكاسب الاستراتيجية الفعلية دون مبالاة بالدعاية والخطاب النفسي والتعبوي الذي يتمحور حوله فكر أنظمة الحكم الفاشلة في الكثير من دول العالم.

ولو تركنا كل ماسبق جانباً، وافترضنا أن كيربي يتحدث بجدية وأن التقييمات الاستخباراتية الغربية، بما فيها الأمريكية بطبيعة الحال والإسرائيلية، لا تستطيع بالفعل بناء تقييم واقعي للخطوة الإيرانية المقبلة، فإننا نتصور أن سيناريوهات الرد الإيراني لا ترتبط بما يدور في عقل المرشد فقط، بل في قدرات إيران الحقيقية على تنفيذ تهديداتها التي تفوق القدرات على الأرض في معظم الأحيان، فنحن نتحدث عن نظام شعبوي يراهن يعتمد بشكل كبير على الخطاب الدعائي والشعارات الرنانة، وبالتالي ليس لنا أن نقف عند كل عبارة ترد على لسان قادته، فجميعها تقريباً خطباً نارية وعبارات حمالة أوجه تصب في خانة الحشد الجماهيري و الحرب النفسية أكثر من كونها مواقف حقيقية لدول وقادة.

في تبرير تأخر الرد، يقول بعض مريدي النظام الإيراني، بل وحسن نصر الله زعيم ميلشيا "حزب الله" أن عذاب الانتظار هو بحد ذاته جزء من الرد، باعتبار ذلك نوع من الارهاب والاستنزاف النفسي والمادي والعسكري للجانب الآخر، الذي لا يعرف من أين تأتيه الضربة المضادة، وأن بقاء قادة دولة إسرائيل في الملاجىء أو عدم قدرتهم على التحرك بحرية بعيداً عن أنفاق تحت الأرض، وملاذات آمنة من أي هجوم مفاجىء، واستمرار هذه الحالة لأطول فترة ممكن يمثل كارثة بالنسبة لإسرائيل!

بلاشك أن تصدير حالة الرعب والخوف من الرد الإيراني يمثل أيضاً استراتيجية مدروسة ترضي غرور الملالي، الذين هدأت نفسيتهم كثيراً بعدما تابعوا سيل التقارير الإعلامية، التي تتحدث عن الملاجىء الإسرائيلية الخالية من مكيفات الهواء، وحفر "يوم القيامة" المعدة لرئيس الوزراء نتنياهو وأعضاء حكومته للهروب من أي هجوم إيراني، وهذه التقرير تغذي بدورها احساس القادة الإيرانيين بالنشوة ما يدفعهم لتكرار التهديد والوعيد الذي يفاقم ـ وفق حساباتهم ـ حالة الخوف الإسرائيلية باعتبارها جزء من الرد والعقاب كما قال نصر الله ربما تمهيداً لتقديم حالة الرعب هذه لجمهورهم باعتبارها جزءاً من الرد الحقيقي.

أغلب الظن أيضاً أن إيران لا تريد بدء الحرب وأنها تراهن على أن تصاعد حالة الرعب الإسرائيلية ستدفع نتنياهو بالأخير إلى القبول بفكرة الضربة الاستباقية التي عرضت عليها ورفضها، حيث تسعى إيران إلى تفادي فكرة الهجوم على دولة إسرائيل والاعتماد على الرد واستراتيجية الضربة الثانية، وساعتها يكون بإمكانها استخدام أقصى قدراتها العسكرية من دون أي حسابات لردود الفعل الدولية، ومن الوارد أن تكون حساباتها في هذا الشأن مرتبطة بموقفي روسيا والصين، على أساس أن أي ضربة استباقية إسرائيلية تجعل إيران في حالة دفاع مشروع عن النفس، بشكل أكثر وضوحاً من استهداف رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" على أراضيها.

الصبر والهدوء الذي يتمتع به صانع القرار الإيراني في هذا الأزمة ليس جديداً، واستراتيجية "حائك السجاد" التي ينفذها الساسة الإيرانيين في علاقاتهم مع الغرب بشكل عام منذ قيام الثورة عام 1979، هي ذاتها التي تفسر ردود أفعالهم البطيئة/ المتباطئة حيال أي فعل مهما تعاظمت تداعياته، فالحسابات في عقل المرشد ليست كحسابات الساسة التقليديين، فهو ليس رجل سياسة بالمعنى التقليدي بل رجل دين بالمقام الأول، وبالتالي تبقى عينه على أهداف الثورة وأيديولوجيتها الممتدة أكثر من الأهداف الاستراتيجية قصيرة المدى في عالم السياسة التقليدي، وهذا مايدفع البعض أحياناً للقول بأن ثمة مشروع تآمري مشترك إيراني ـ أمريكي ـ إسرائيلي لاستهداف العالم العربي، وهذا ليس صحيحاً، وإن كان الأمر لا يخلو من حسابات مصالح تتنافر وتتقاطع في بعض الحالات والظروف، بحيث يمكن أن نجد الطرفين بالفعل في مربع واحد في بعض الأحيان، مثلما حدث في استهداف نظام صدام حسين عام 2003، وكذلك استهداف حركة طالبان في عام 2001، وهذه هي السياسة البراجماتية التي يجيدها النظام الإيراني الذي يعرف جيداً كيف يتفادى الضربات، وكيف يتعايش مع أحلك الأزمات.

خلاصة ماسبق أن عقل المرشد يبدأ وينتهي عند مصلحة النظام، وليس الدولة الإيرانية، فما بالنا بمصير حركات مثل "حماس الإرهابية" أو "حزب الله" وغيرهما ممن يمكن التضحية بهم إن لزم الأمر وتقديمهم قرباناً لبقاء النظام، وبالتالي فإن قرار الرد مرهون بمدى تأثيره على مصير الملالي ونظامهم ولاشىء غير ذلك.