بعدما هبّت رياح السوء على بلدها، قرّرت المخرجة إيفا داود العمل على فيلم قصير يحمل أوجاع الشعب السوري إلى العالم، فكان "ربيع مرّ من هنا" الذي جال على مهرجانات عالميّة وأوصل الألم والمعاناة السوريّة جرّاء الحرب الدائرة منذ أكثر من ثلاث سنوات. خلال مشاركتها في مهرجان بيروت للأفلام القصيرة، كان لـ"إيلاف" حوار مع المخرجة البحرينيّة السوريّة، التي تحدّثت بغصّة عن بلاد الشام وبحرقة عن الطفولة التي تُسرق من أولادها.


بيروت :&درست الإخراج لتنفّذ أفلام كرتون تحاكي الخيال وقصص الأطفال، ولم تكن تتوقّع يومًا أن تغوص في أي عمل إنساني& سياسي، إيمانًا منها بأن السياسة تلوّث الروح والدماغ، لكن الحرب السوريّة الأليمة التي قتلت وشرّدت ويتّمت الملايين هزّت كيانها،&هي التي اعتادت على التمتع برائحة ياسمين الشام خضّتها صور القتل والدمار والدماء السائلة، والطفولة المُغتصبة برضى داخلي وخارجي، عربي وغربي، فكان فيلمها القصير "ربيع مرّ من هنا" أشبه بجرعة من الألم يذوقها المشاهد ليدرك ما يعيشه السوري منذ ثلاث سنوات.

"ربيع مرّ من هنا" للمخرجة البحرينيّة السورية، إيفا داود، يحمل رسائل عدّة، ويضع الإصبع على الجرح، ويصرخ بوجه كلّ من يغتصب الأرض والطفولة والإنسانيّة في سوريا. من يشاهده يقف والغصّة في قلبه متحسّرًا متألّمًا جرّاء ما حلّ بأقدم مدينة في الشرق، وأعرق ثقافة فيه،&وأطيب شعوبه، يقف خاشعًا أمام دماء السوريين التي هدرت في هذه الحرب الأهليّة – العالميّة.

أوجاع لا تختصر
تعرّف المخرجة إيفا داود العمل في حوارها مع "إيلاف"، بأنه "فيلم قصير لا يشبه طبيعة أفلامي، فأنا إمرأة لا تحبّ السياسة وإنّما حسّاسة، ونظرًا لما يمرّ به العالم العربي من أحداث رأيت أنّ من واجبي تقديم عمل إنساني، فكان "ربيع مرّ من هنا" وهو سبع دقائق مقتطعة من حياة إنسان في خضم حربٍ أهليّة ودمار شامل، لقد ذهبت معه في رحلة من الألم والعذاب ضمن نطاق منزله الذي لم يغادره، إنها رحلة معاناة تكتنفها جرعة كبيرة من الألم تتمظهر عندما يخرج إلى شرفته ليرى من مات من أهله، ومن فقد، وماذا خسر".

وتضيف داود "لقد أريت المشاهد في سبع دقائق كمّ الألم الذي يعيشه الناس جرّاء الحرب. رسالة العمل واضحة : في الحرب الأهليّة لا يوجد رابح وخاسر، بل الإنسان دائمًا مقتول والوطن هو الخاسر الأكبر والأمّهات والأطفال هم الخسارة المفجعة. الحرب تقتل النسغ الحيّ فينا، وأنا أسقطت هذه الحالة على سوريا ليكون فيلمي صرخة بوجه الحرب، مستشهدة بأغنية السيّدة فيروز : بحرب الكبار شو ذنب الطفولة، شو ذنب الضحكات الخجولة".

إنكسارات وآلام
وعن تشبيه الربيع بقطار مرّ مدمّرًا كلّ ما تحته تقول : "هذه حال أي حرب أهليّة في أي بلد، وليس فقط في سوريا، حياة بطل الفيلم (الممثل عدنان أبو الشامات) لائقة ومنزله مرتّب في الظاهر، من دون أن ندرك ما في باطنه من إنكسارات جرّاء ما خسره، نرى رتابة داخل منزله وضجيجًا نتيجة الدمار خارجه، إنه مشهد درامي مؤلم نصل إليه على مراحل وبتدرّج".

وتضيف : "نرى بداية رجل وسيم جعلته الحرب هرمًا وسحبت منه نضارته وروح الشباب، وهو ما يبدو من خلال انعكاس صورته على المرأة، فالحرب تفقدنا كلّ ما فينا حتى الروح . الفيلم يمرّر ثلاث سنوات من الدمار، وإنكسار الطفولة وضياعها، إنكسار الإنسانيّة، إنكسار الناس وطموحاتهم، والصورة الحضاريّة التي كانوا يعيشونها".

وتشير داود إلى أن : "السوري لا تُختصر معاناته بسبع دقائق، لأنها أكبر من ذلك، لكني من خلال هذه الدقائق القليلة استطعت إيصال هذه الجرعة من الألم، فما بالك من ثلاث سنوات؟ أردت إلقاء الضوء على انكسار الروح التي قد ندفع أثمانًا قيّمة نتيجة له، لقد قدّمته بطريقة تجعل المشاهد الغربي يفهم وجعي ويتقبّله، فكرت بما يحبّ رؤيته وقدّمت له هذا الألم بطريقته".

غشّونا بهذا الربيع
من يشاهد الفيلم سيدرك أنه يحمل رسالة واضحة ومؤثرة، رسالة اجتماعيّة انسانيّة لا تخلُو من السياسة، ويحمل انتقادًا لما سميّ بالربيع العربي، فهل قصدت المخرجة ذلك نظرًا للتناقض بين إسمه والصورة التي ينقلها ؟ تردّ المخرجة داود : "لقد آلمتني هذه التسميّة، نحن ننتظر الربيع لنرى زهوره ونتنعم بفرحه، لأن الربيع هو ولادة التقاوة والنقاوة، لم أكن لأمانع الحراك في سوريا لو بقى سلميًا، توجّهي في الفيلم ليس سياسيًا وإنما إنسانيًا، فسوريا أكبر منا كلّنا، صرخت كأي سوري موجوع لأنه أكبر من كلمة "الله أكبر" التي تُقال قبل قطع رأسه، هناك انتهاكات للإنسانيّة وفيلمي إنساني بحت بوجه الألم الذي يمرّ فيه شعبي".

رياح التغيير التي عصفت بالمنطقة، يبّست الحركة الاقتصاديّة والعلوم والمعرفة ودورة الحياة، لقد أتى هذا الربيع محمّلًا بالسموم ولعنة على الأوطان، يا ويل الربيع من هذه التهمة، لقد غشونا بهذا المسمى".

الشرّ الداخلي بوابة التدخل الخارجي
ونظرًا لتجوال الفيلم على كثير من المهرجانات الغربيّة والعربيّة، فقد شاهده جمهوران، أجنبي وعربي، فكيف يمكن فهم تفاعلهما مع العمل، وهل لديهما القدرة على تشكيل مجموعات ضغط ضدّ ما يصدر عن بلادهم المتورّطة في هذه الحرب الدائرة منذ ثلاث سنوات، تردّ داود بحسم قائلة : "لو لم يكن هناك شرّ في الداخل لما استطاع الخارج أن يتدخلّ، وهناك مثل عامي تقول فيه الشجرة للفأس التي تقطعها : "لو لم تكن يدك من غصني فما قطعتني"، فلا أحد يدخل وطنك ويقول لك أقتل أهل بلدك تحت أي مسمى إلّا إذا كان إبن البلد مستعدًّا لذلك لأسباب شخصيّة أو ماديّة أو لأن لديه فعلًا قضية ومستعد لتبنيها".&

لا لقتل جيش بلدي مرتين
وتضيف داود : "أنا أحترم الرأي الآخر والطرف المعارض والرأي الحرّ، لكن أن يتورّط أي سوري في قتل أبناء بلده فهذا لا يدعو للاحترام، أنا مع الجيش السوري وأحترم الثورة التي تشكّل قفزة نحو المستقبل من دون أن تقتل طفولة الطفل وإنسانيّة الإنسان، السوري يموت من الجهتين لكنني لا أستطيع تبني القتل والثورة لأنني بذلك أخون الجيش الذي جُنِّد إلزاميًا للدفاع عن وطنه وأبناء وطنه ضدّ ما يهدّد وحدته"، وهنا تتساءل :&"هذا الجيش الذي حماك لفترات طويلة بات الآن عدوك؟".

وتقول داود : "لن أقتل الجيش السوري مرّتين، مرّة بخيانتي له ومرّة بتبرئي منه، هذا الشاب الذي أخذ إجباريًا من حضن والديه ووقف في الجبهة لم يكن يريد أن يقتل وإنما قُتل، ما ذنبه عندما أتت إمرأة من داعش وما سواها، ورمت عليه الزيت المغلي وشوّهته؟ هذا يقهرني".

ثرواتنا لعنتنا
وبالعودة لتأثير الرأي العالمي على القرارات السياسية، تقول : "الشعب الأوروبي والغربي لن يهتم ولو صنعنا مليون فيلم، لأن القرارات تطبخ في الأعلى عند حكامهم، بينما الشعب العربي يتدخّل في السياسة لأنها تدخل في لقمة عيشهم وإذا تبنّوا رأيًا مخالفًا من الممكن أن يعتقلوا وينكّل بهم".

"لقد تعمّدت إعداد هذا الفيلم وتحميله ما يثير الغرب من دون أن أضع أي توجّه سياسي، فيلمي هو صرخة سوريّة، أكثر المطلوب أن يصلّوا لنا ويحاولوا الاحتجاج من أجلنا، لكن أن نكذب ونقول إن الغربي صاحب قرار فهذا أمر غير واقعي".

"بلادنا لُعِنت بسبب ثرواتنا البشريّة والباطنيّة، لذلك الأنياب كلّها مسلّطة علينا، والمستفيد الأوّل هو اسرائيل السعيدة بكلّ هذا القتل الذي نمرّ به".&&
&
الخيال عالمي الخاص
وعن توجّهاتها بعد "ربيع مرّ من هنا"، إن كانت ستكون نحو الأمور السياسيّة والاجتماعيّة، أم سيكون التركيز على القصص العاطفيّة، تشير&داود : "مشاريعي الجديدة لن تتمحور حول الأمور السياسيّة، للأسف هبّت رياح السوء على وطني وحرقت قلبي، لكني إمرأة تحبّ الخيال ودرست الإخراج لأكون مخرجة اليافعين وأفلام الكرتون وقصص الخيال، ولم أتوقّع يومًا أن أنفّذ فيلمًا يحمل صرخة لأنني كنت مطمئنة على بلدي، لكن الحرب قلبت المعايير".

نقلة نحو الأفلام الطويلة
وتضيف : "أحضر لفيلم بعنوان "سارق النور"، إنتهيت من تصويره في إسبانيا، وبعد فترة سيكون جاهزًا للصدور والمشاركة في المهرجانات العالميّة، العمل جميل وهو مزيج بين الحقيقة والخيال، أي عالمي الذي أحبّ، هو يحكي عن الحبّ وما يحصل فينا عندما نخسره، شبّهت الحبّ بالنور، وسارقه هو سارق النور، علمًا أنه سيكون فيلمي القصير الأخير لأني في طور التحضير لفيلمي الطويل الأول الذي وضعت رؤوس أقلامه وسيكون بعنوان "رحم الله تموزي"، وهو فكرة فيلم عراقي، تموزي هي فتاة ليل، والبطل كاتب سيصل إلى العالميّة من خلالها".

كسر المحرّمات
وعن سعيها الدائم لكسر للمحرّمات ووضع الإصبع على الجرح، تقول : "الفضيلة قد تصدر عن امرأة مجروحة اضطرت لامتهان الدعارة، علمًا أن الدعارة هي الصادرة من الروح وليس الجسد، أنا مع المرأة ظالمة كانت أم مظلومة، لا يمكنني لوم أي امرأة قست ظروفها عليها، لكني ألوم المجتمع الذي ظلمها، ما من سيئ يدوم أو ممتاز يدوم للأبد، السيئ للأبد هو نوايانا السيئة".

يشار نهاية إلى أن "ربيع مرّ من هنا" جال على أحد عشر مهرجانًا عالميًا، وحصد ثلاث جوائز كانت أشبه بغصّة في قلب المخرجة لأنها ارتكزت على وجع ودماء شعبها، فيما يستعدّ للمشاركة بمهرجانين، الأوّل "ينابيع النخيل السينمائي العالمي في كاليفورنيا، وفي حال فوزه سيرشّح مباشرة لمهرجان الأوسكار، والثاني مهرجان فيرونا السينمائي في إيطاليا.