"هل طفلك متنمر؟" ربما يجمع أولياء الأمور على أن الإجابة بنعم لن تكون بالأمر السهل. تحضر الأمهاتُ في الواجهة في هذا الأمر. إذ تظهر"جروب الماميز" (مجموعات التواصل والتشارك بين أمهات التلاميذ) الأمهات بوصفهن في الأغلب حائط الصد الأول في تلقي الاتهام الموجع .
قضية التنمر المدرسي لا تزال عصية على الحل، ووفق تقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونسيف) فإن هناك 130 مليون طالب في جميع أنحاء العالم يتعرضون للتنمر، وهو ما يلحق بهم الكثير من الأضرار قد تصل إلى حد الانتحار.
وبجانب ضحايا التنمر من الأطفال، فإن هناك جانباً من القصة يبدو أنه لم يُدرس بشكل كافٍ، ألا وهو المتعلق بالأطفال الذين يُتهمون بممارسة التنمر وتبعات ذلك عليهم وعلى ذويهم. بي بي سي تفتح هذا الملف وتسرد وقائع حقيقية.
تنمر أم طاقة زائدة؟
اضطرت السيدة نسرين صدقي من القاهرة، وهي أم لصبيّين صغيرين، لسحب الابن الأكبر من مدرسة تلو الأخرى ثلاثَ مراتٍ سابقاً. لم يمض عليه في أي مدرسة إلا حوالي عام أو أكثر، وهو حالياً بالصف الرابع الابتدائي في مدرسة رابعة في مشواره الدراسي القصير. حكت لي عن تلك السنوات وتقول "معنوياتي تأثرت وضاق صدري مما انعكس على علاقتي بإبني. لا يمكننا التحكم بكل ما يحدث لنا، وأحيانا بما يحدث داخلنا" .
يأتِي الطفلُ من منزل مستقر لوالدين مهنيين يوفران له أحوالاً معيشية كريمة. لكنه ليس مثل باقي طلاب مدرسته. تقول الأم "ابني لم يكن قط مؤذياً لكنه مليء بالطاقة الزائدة". الابن أُدرج على القائمة السوداء من قبل أساتذته وزملائه في المدارس الخاصة التي التحق بها نظير مصروفات غير بسيطة مقارنة بموارد المواطن المتوسط في مصر. لكن سلطات تلك المدارس حثتها وزوجها على سحب ابنهما من صفوفها بسبب "سلوكه غير الجيد".
أكدت الأم أنها ومن بعد تواتر الشكاوى بحق الابن، توجهت للمختصين ليتم تشخيص حالته إكلينيكيا بفرط الحركة نتيجة اضطراب هرمون الدوبامين واستنكرت نسرين افتقار الأنظمة التعليمية التقليدية للحلول بدلاً من محاولات تصدير المشكلة.
"خاطبت الأخصائيين الاجتماعيين في تلك المدارس وشرحت لهم أن ذلك هو الوصف الأدق لحالة ابني بدون تلك (الوصمات) التي ارتبطت به. توقعتُ بعد ذلك تكاتفاً وخطة عمل بالتنسيق مع المعلمات لتحسين أدائه الاجتماعي والدراسي، لكن ذلك لم يحدث وكانت النتيجة ازدياد ما وصفوه بـ (شراسته) بينما استمروا هم على انعزاليتهم بحصر دورهم في المسؤولية المدرسية دون التربوية".
استطردت "نهروه وعاقبوه، أمور لا تنبغي مع حالته الخارجة عن إرادته، واستسهل زملاؤه بطرق احتيالية نسب أي خطأ إليه دوماً وتلفيق القصص وتعود هو ببطء على الألم. صار مستخفاً بالآخرين والإساءة لهم".
استجابت نسرين لطلب الشادو تيتشر أو معلم الظل، الذي تتمثل مهمته بمرافقة الطفل أثناء يومه الدراسي، داخل المدرسة. تابعت حديثها إلي بقولها "أمورٌ كثيرة تتغير في عصرنا بسبب الظروف المختلفة. تنشئة الأطفال ليست هينة بالتوازي مع ثورة في تشخيص الاعتلالات تولدت عنها مصطلحات ننساق فى استعمالها بطريقة غير متسقة وغير عادلة أحياناً".
"بالطبع لن يكون وساماً على صدري أن يخطئ ابني، لكنني أحب أن أراه يتصرف كطفل. والخطأ من طبيعة الإنسان وفطرته فإلى أين توارى ذلك الموروث؟"
ثم أخذت الأم على عاتقها، وبمشاركة زوجها، دعم الابن. لم يدخرا المال أو الوقت أو الجهد لتنظيم برنامج غير مجاني يتضمن ممارسة الرياضة بجانب أنشطة أخرى لتفريغ شحنات الطاقة الزائدة بالإضافة لجلسات تعديل للسلوك ودروس دينية.
نظراً لحاجة طفليها لإشراف كامل، اضطرت تلك الأم للتخلي عن وظيفتها لكن "مع أي هفوة، كان يتم اصطيادي وتتزاحم الأمهات حولي بشكل يشعرك بتقصير وبأنك من نقلت تلك السلوكيات المزعجة إلى ابنك.
وأضافت "ثقافة إدارة الخطأ مهمة وأعلم أن هناك فئة من الأهل تشجع أطفالها على البلطجة لكن هذا ليس دأب الجميع. لو أن العالم ينصت من دون إصدار أحكام مسبقة لتغير الكثير."
أدوار مفقودة
" افتقد ابني وجودَ علاقات دافئة خارج المنزل" هكذا روت لنا صدقي عن طفلها الذي لا يحب تجربته الدراسية وتراوده شكوك مزمنة حيال بيئته المدرسية وإذا ما كانت تتقبله وترغب بوجوده .
طالبت بتضافر الجهود الدعوية والتربوية على هذا الصعيد وبالارتقاء بوظيفة الأخصائي الاجتماعي" الجوهرية" في مجتمع التعليم باعتماد معايير صارمة. "لم أجد من يأخذ بيدي وسط حيرتي. لم أتعامل إلا مع مسميات وظيفية بدون قدرة فعلية على التقييم والمعالجة وتعامل كوادرها باحترافية، وبحس الواجب دون استهتار أو مصالح جانبية ".
غلاظة أم تنمر؟
من مصر إلى بريطانيا، وعلى إحدى منتديات دردشة الأمهات "نات مامز" بثت إحداهن شكوى بخصوص تصرفات ابنها الذي يبلغ من العمر أقل من أربع سنوات. تقول إنه لطيف في المنزل، لكن ما أن يكون مع نظرائه يبدأ في جذبهم ودفعهم دون إصغاء للتوجيه، ويبدأ بالضحك مستهزئاً. لم يفلح التقويم والتحفيز السلوكي المنزلي في احتوائه، فالصغار بطبعهم يحبذون العناد والتلاعب، مما جعل زملاءه يرفضون مشاركته اللعب لاحقاً. أما مسؤولو الروضة، فهم وبعدما أبدوا تفهماً واستعداداً للتعاون، راحوا يتذمرون مع غياب ما يضمن تحسناً قريباً لسلوكه. فجاءت الأم تتساءل عما إذا كان لديها متنمرٌ كامن سيهاجمُ الجميع؟
تحذرنا المستشارة الأسرية ماريا عكيدي من إسطنبول من تشكل ما تصفه بانتشار ثقافة شعبية تبالغ في الوصم وإصدار الأحكام المسبقة في ظل ما سمته بـ "عشوائية النصائح المتداولة وخلط المفاهيم الحاصل" إزاء قضية التنمر المدرسي. وتحدد لنا الحدود الفاصلة بين "غلاظة" و"تنمر" الأطفال، وما هو المقبول من عدمه.
تقول عكيدي إن السلوكيات الفظة والشقاوة واردة بدون شك عند الأطفال، لكن ما يصنع الفرق بينها وبين التنمر هي أنها تكون صادرة عن جهل أو بعفوية. أما المتنمر على حسب تقديرها فيكون عدوانه مدبراً لا يخلو من نوايا بغيضة؛ بشكل يمكن ملاحظتهُ من قبل الراشدين كأن يتعمد الفعل المهين، أو التهديد، أو الانتهاك، أو الإذلال جسدياً أو لفظياً، أو حتى الإقصاء للطرف المقابل على سبيل المثال لا الحصر.
وتشير أيضاً إلى عوامل أخرى منها أن المتنمر يطغى عليه حبُ الظهور بمظهر صاحب السلطة، ولديه نزعة إخضاع وسيطرة واستئساد واستغلال نقاط الضعف وترصد وتحقير البسطاء، وهو ما لا يحصل في شغب الأطفال كما نألفه.
"إن وجود القرار المسبق مع الدراية الكاملة بمخالفاته التي تنطوي على ضرر فادح يظل عاملاً حاسماً في اكتشاف المتنمر" حسبما صرحت عكيدي لبي بي سي. كما وتوصي الأسر بعدم تشجيع الطفل على دفع السوء بالسوء والتركيز في المقابل على تفعيل مجموعة من الأدوات والمهارات وتعلم التنظيم الانفعالي لاستقبال الاعتداء وقت حدوثه، والتعامل بوعي للدفاع عن النفس وحل المشكلات أو الإبلاغ عنها دون إغفال أهمية استعادة الثقة والأمان.
جمود التفسير
رغم أن الحديث عن التنمر المدرسي منتشر بشكل كبير، إلا أن الواقع يبدو أكثر مأساوية.
ففي 2018، ظهر على مواقع التواصل أحد الفيديوهات المزعجة للغاية، ليافعين في زيهم المدرسي ببريطانيا يتربصون بوافد لمدرستهم من أصول مهاجرة؛ تكاتلوا عليه وطرحوه أرضاً. في العام التالي طفت للسطح حادثة أخرى أثارت بدورها غضباً كبيراً لطالب سوداني في مصر. وتصر الأرقام أن الظاهرة شائعة ومقلقة.
كل أولياء الأمور قد ينخلع قلبهم بتلك المشاهد المأساوية. لكن المتنمرين لديهم آباء وأمهات أيضاً، وقد يصعق بعضهم بدورهم مما يقدم عليه أبناؤهم.
ووجد استطلاع أجرته (بي بي سي) أن ما يقرب من واحد من كل خمسة مدرسين في إنجلترا تعرض للضرب من قبل أحد التلاميذ هذا العام. وربما الأطفال الأكبر سناً على ما يبدو لا يستوعبون تماماً أن جسمهم بمقاييسه الجديدة إن استعملوه في الضرب والمضايقة كما كانوا صغاراً، سيكون الأمر جللاً. ووجد الباحثون في السنوات الأخيرة أن المراهقين اليوم يتمادون في السلوك الطفولي أكثر من أي وقت مضى.
تدعو ماريا عكيدي، المختصة بتنمية الطفل إلى عدم التعويل على تفسير وحيد للتنمر المدرسي "كفانا تفسيرات جامدة صلبة. اعتمدنا لوقت طويل على تصور واحد متكرر وهو أن ممارسة الطفل التنمر يعود لنمط تربيته غير الصحي. فالبيت الطرف الخاسر للتعاطف في المشهد لكن يجب أن نودع ذلك لأن لكل حالة ظروفها".
" ليس وراء كل طفل مشاغب أسرة أرادت صناعة "متنمر". لقد خرجت ذريةٌ فاسدة من صلب الأنبياء، وقد ينجم السلوك غير الصحي ليس عن بيت سيء مهمل، بل بيئة معادية ومؤثرات خارجية شتى والمدرسة قد تكون أحدها، نحن لا نعيش في دائرة من الأخلاق الحميدة."
"من هم في طور الطفولة يطيب لهم كذلك محاكاة السلوكيات التي يراقبونها في حياتهم اليومية أو عبر الوسائط المتعددة وأجيالُ القصر الحالية لم يعد البيت نافذتها الوحيدة وتحاول بناء شخصية بعيداً عن سلطة المنزل".
" نحتاج لقراءة مختلفة للتنمر تتحدى التنميط وموازين القوى المبنية على المظهر الخارجي والبنية الجسدية والتفاخر بهما أو تفاوت القدرة الاقتصادية. "
" يتعين معالجة الظروف التي يزدهر فيها التنمر مما يتطلب تماسكاً مجتمعياً ومسؤولية لا تستثني أحداً. أدعو لأن لا ننحي الصفة الإنسانية جانباً والحل ليس في مهاجمة بعضنا بعضاً".
ويصنف معهد أبحاث الطفل في أستراليا التنمر مشكلةً لا ترتبط بالاختلالات السلوكية فحسب بل والعضوية.
مزاح مراهقين أم تنمر سيبراني؟
وجدت تلك الأم، وهي مهاجرة تعيش في بريطانيا وفضلت إخفاء هويتها، في أحد أيام فبراير شباط الماضي رسالة طويلة على هاتفها من إحدى الأمهات زعمت فيها تلك الأخيرة أن ابنها يتلقى عبر قناته على يوتيوب "سخافات لاذعة" وتعليقات بـ"لغة متنمرة" من نجل الأولى ويضع جانبها شعار "الجماجم 💀" مؤكدة أنه يتحرش بابنها ويتعقبه من حساب مجهول.
الطفلان كانا يدرسان في نفس المنشأة بالمرحلة الابتدائية دون أي منغصات ثم ألحقا بمنشأتين منفصلتين وهما على عتبة الثانوية لكن كان مازال هناك ما يجمعهما، الشبكة الإلكترونية الداخلية بالمدرسة. "للأسف نشر الابن على تلك الشبكة ما يدينه، إذ دون تعليقاته نفسها التي يراها فكاهية حتى بحق إحدى المعلمات.
"داخلي ظل صوت يردد أعلم أنك تريدين سحق ابني وأنا أيضاً أعاني بالمناسبة لكنني استحق بعض الأسى فلم أربه ليكون متنمراً! ثم دخلت في محادثة طويلة مع ابني وكانت المفاجأة".
"إنه يجهل مآلات فعلته وعندما علم انهار وجزع وقد كان يحسب الأمر مجرد مزاح ثقيل بين زميل دراسة بدأه الاثنان في الصغر وأخذ مجراه مع تقدم عمرهما والقدرة على الحيلة واللهو على الإنترنت".
عن تعاملها مع الأم الأخرى ردت "رغم توبيخي لإبني، لم استحسن فكرة المجاهرة بالاعتذار وإلا كان أقر بديهياً بذنب التنمر، آثرت التكتّم".
تابعت " لكنني أخذت على عاتقي معالجة الأمر ولم أتركه هكذا. أتفهم ذعرها بسبب ما نسمعه عن حوادث التنمر المؤلمة، لذا تجنبت تبادل الجدال معها لكنني توصلت لرد مقبول ليس على الفور. ترويت حتى لا يتسلل توتري إليها فتتضخم شحنة معاناتها وهي لا تريد إلا من يسمعها أن الأمور تحت السيطرة " .
"لم يكن كلامي دفاعياً واستعملت لغة سلسة مطمئنة. ركزت على ضرورة التوجيه والمساءلة الأبوية في المطلق لاسيما مع الأطفال في سنوات مراهقتهم المتعبة". "عرضت عليها معلوماتي عن طرق الوقاية والحماية الإلكترونية ليستعيد ابنها عمل قناته على الشبكة الاجتماعية بأمان ".
توضح تلك الأم التي تعمل كباحثة أنها استعانت بالإرشادات التي تقدم المساعدة لأم الطفل المتنمر وإلا لما أغلق الأمر على هذا النحو ولربما وقع "الصدام الحضاري" الذي توقعته للموقف.
وتشتمل تلك التوجيهات الخاصة بالتعامل مع الأطفال المتنمرين إعطاء طفلك مساحة مفتوحة لشرح ما حدث، وشعوره حياله ودوافعه مع إفهامه عواقب قرار اقتحام الأخطار والمطلوب منه حيال الانضباط الذاتي ومراقبة سلوكه لكبح الضار منه مع بدء إصلاح الأمور مع الآخرين من حوله. كذلك لا تنسى تصويبه بذكاء مع فتح مجال التواصل المستمر لدعمه في إعادة بناء العلاقات في حياته والتعاطي مع مشكلاته وحثه على الاستمتاع والتميّز بإيجابية وعدم البخل عليه بالتقدير إذا بادر بشيء لطيف.
"وصل الحوار بيننا إلى تساؤل هام وهو: من منا لم يتندر على أحد مدرسيه أو زملائه؟ أهو لأنه صار في أيدينا أجهزة أجازت لنا الكثير وفي الآونة نفسها بمقدورنا أن نشهرها في وجه بعضنا البعض؟ لم يكن هناك أحد بكاميرا بوجهنا في الماضي؟ وكان هذا هو نهاية الأمر".
أكدت تلك الأم لبي بي سي "إن وجود طفل لديك هي الخطوة الأولى لإدراك أنك ستتعامل مع الكثير من الأطفال ولن تكون كل المواقف ممتعة، أحيانا قد تكون مرعبة.. فوق ما نتخيله ".
التعليقات