تعيش تركيا في ظل انقسامات سياسية حادة وغير مسبوقة في تاريخ البلاد، وقد دخل العامل الأمني ليزيد الطين بلّة، وليعمّق الشرخ بين مكوناتها السياسية والإجتماعية.

لندن: قُتل أكثر من 100 شخص وأُصيب مئات آخرون بجروح، عندما فجر انتحاريان في 10 تشرين الأول (اكتوبر) نفسيهما وسط اجتماع حاشد من اجل السلام في العاصمة التركية انقرة.&
&
وأُصيب الاتراك بصدمة شديدة جراء أشدّ الهجمات الارهابية دموية في تاريخ بلدهم الحديث، فبعد عدة ايام على انتهاء مراسم الحداد ومجالس العزاء، لا يزال هناك احساس متزايد بالغضب، فيما يتساءل كثيرون ممنّ ينتقدون الحكومة عن فشل دولة معروفة بقوة مخابراتها، في منع المجزرة. ولماذا كانت حماية الشرطة ضئيلة في التظاهرة.&
&
وقال صبري باتور، الذي يطوف على المستشفيات بحثا عن جثمان زوجته فاطمة وقد بدا الاعياء واضحا عليه: "ان السياسة كانت حياتها"،&واوضح كيف ناضلت فاطمة من اجل حقوق المرأة، وكيف انتُخبت القائدة المحلية لحزب الشعب الديمقراطي في مدينة "الانيا" جنوب تركيا.&
&
وكان حزب الشعب الديمقراطي، الذي شُكل بالتحالف بين الكرد وتنظيمات يسارية، قد حصل على 13% في الانتخابات البرلمانية التي جرت في حزيران (يونيو) الماضي، حارمًا حزب العدالة والتنمية، بزعامة الرئيس رجب طيب اردوغان، من الأغلبية المطلقة التي ظل يتمتع بها طيلة السنوات السابقة. هذا النجاح جعله هدفًا لسخط حزب العدالة والتنمية وحقده، ولأن حزب الشعب الديمقراطي كان احد منظمي التظاهرة الحاشدة في انقرة، فان ضحايا الهجوم الارهابي لم يلقوا تعاطفا يُذكر من الحكومة.
&
ودعا اردوغان الى انتخابات مبكرة في 1 تشرين الثاني (نوفمبر)، على أمل ان يلتف الناخبون حوله ليستعيد حزب العدالة والتنمية اغلبيته المطلقة، لكن الأشهر الثلاثة الماضية شهدت مقتل مئات في اشتباكات بين قوات الجيش التركي ومسلحيّ حزب العمال الكردستاني واعلان منع التجوال في العديد من المدن جنوب شرق تركيا.&
&
ازمة سياسية
&
اسفرت الهجمات الارهابية في مدن أخرى مثل باريس ونيويورك ولندن عن احساس متزايد بالتضامن الاجتماعي، لبعض الوقت على الأقل، لكن الهجوم الارهابي في انقرة أدى، على ما يبدو، الى تعميق الانقسامات في تركيا. بحيث راحت الحكومة والمعارضة تتبادلان الاتهامات بالمسؤولية عن المجزرة، وتبّدى الانقسام بأسطع اشكاله اثناء الوقوف دقيقة صمت حدادًا على ارواح الضحايا قبل مباراة كروية في انقرة، بينما تعالى صفير الاستهزاء وهتافات الرفض من قوميين واسلاميين متشددين بين الجمهور.
&
دشن الهجوم فترة من الاحتقان السياسي في تركيا، وتسببت ردة فعل اردوغان عليه في تأجيج النار بدلا من اطفائها، لا سيما وانه معروف باستغلال كل مناسبة للتعبير عن آرائه، لكنه غاب ثلاثة ايام كاملة عن الانظار في اعقاب الهجوم، كما وصدرت توجيهات الى وسائل الاعلام بعدم نشر صور عن الحادث، ولم يشارك وزير واحد في تشييع أي من الضحايا، كما لاحظ مراقبون.&
&
وذهب تجاهل الحقائق الموضوعية الى حد اعلان رئيس الوزراء التركي، احمد داود اوغلو، ان المسؤول عن الهجوم هو تحالف يضم عناصر تنظيم داعش، وعناصر من حزب العمال الكردستاني، رغم معرفته بأن التنظيمين يناصبان بعضهما عداءً مريرًا ويتقاتلان في سوريا.&
&
لكن ما توصل اليه المحققون من أدلة تشير الى ان احدى خلايا داعش الارهابية، في مدينة اديامان جنوب شرق تركيا، كانت وراء هجوم انقرة، وقبله هجوم مماثل في مدينة سروج اوقع 34 قتيلا في تموز (يوليو)، يجعل تقصير أجهزة الأمن يبدو أشد فظاعة من الجريمة. ففي حين اعتقلت قوات الشرطة مئات الصحافيين والمتظاهرين بتهمة الارهاب خلال السنوات الأخيرة، عجزت عن اكتشاف خلية ارهابية تعمل في جنوب شرق البلاد. ما يعمّق عدم ثقة قطاعات من المجتمع، لا سيّما أولئك الذين يتهمون الرئيس بالتواطؤ مع داعش.
&
افتعال الأزمات
&
يتهم خصوم الحكومة اردوغان بالتعمّد في تأزيم الوضع لتلميع صورة حزب العدالة والتنمية قبل الانتخابات بوصفه الحزب القادر على اعادة النظام، فيما يرى المراقبون بأن اردوغان يدفع الكثير من الاتراك الى احضان المعارضة، بحيث تشير استطلاعات الرأي الى ان حزب الشعب الديمقراطي سيفوز في تشرين الثاني (نوفمبر) بالنسبة نفسها من الأصوات التي حصل عليها في انتخابات حزيران (يونيو) على أقل تقدير، كما ويبين استطلاع اجراه معهد غيزيجي في منتصف تشرين الأول (اكتوبر) ان حزب الشعب الديمقراطي سيفوز بنحو 13.6% من الأصوات.
&
إلى ذلك، أعلن رئيس حزب الشعب الديمقراطي، صلاح الدين دميرتاش، "ان حزب العدالة والتنمية بدأ حزبًا للشعب، لكن اردوغان يقاتل الشعب هذه الأيام خوفًا من فقدان سلطته"&واضاف: "نحن الكرد اعداء الحكومة الحقيقيون وليس داعش" مشيرًا الى ان اردوغان مستعد للمخاطرة باشعال حرب من اجل البقاء في الحكم.&
&
الخوف والكراهية
&
بعد النجاح الذي حققه حزب الشعب الديمقراطي في انتخابات حزيران (يونيو)، كان اردوغان لا يفوّت فرصة للنيل من الحزب، فيما تندد وسائل الاعلام المؤيدة للحكومة بالسياسيين الكرد بوصفهم ارهابيين.
&
هذا وشهدت الأشهر الأربعة الماضية حوالى 140 هجومًا على مكاتب حزب الشعب الديمقراطي، وقال مستشار "دميرتاش" ان داعش اصدر تهديدات بقتله، فيما نقلت مجلة شبيغل عن احد هؤلاء المستشارين، ان القوميين الاتراك هم مصدر الخطر الآخر. &
&
وكان غالبية ضحايا الهجوم الارهابي في انقرة من الكرد واليساريين المناهضين للحكومة. ويتحدث دميرتاش مع ذويهم ويبكي ويصلي معهم ويؤاسي اطفالهم ويتصرف عموما وكأنه رئيس تركيا، كما تلاحظ مجلة شبيغل، التي نقلت عنه قوله: "الكرد لم يكونوا وحدهم الذين قتلوا في انقرة، بل قُتل اتراك ومسلمون متدينون ومسلمون غير متدينين، ونحن لا يمكن ان نسمح بتمزيقنا".&
&
ويحرص دميرتاش على ان يكون نقيض اردوغان السياسي، بينما يروق للرئيس التركي ان يقوم بدور القائد الهمام الذي يلاحق المعارضين. ولذلك فان الانطباع الذي يتركة &دميرتاش هو التواضع وتحسس نبض الشارع كونه يسكن شقة بسيطة في دياربكر مع زوجته المعلمة وابنتيه.&
&
وفي احد احياء اسطنبول العمالية، يحتشد مئات بانتظار ظهور رئيس حزب الشعب الديمقراطي، يصافح دميرتاش كل يد ممدودة اليه، وهو يستخدم زياراته لذوي ضحايا هجوم انقرة لنشر رسالته السياسية معلنًا "ان اردوغان يذهب الى ان الهجوم كان هجوما على الدولة، &كلا، لقد كان هجوما علينا".&
&
ولم يعد دميرتاش يعتقد ان السلطات مقصرة فحسب، بل يقول انه "لو كانت لدى اردوغان وداود اوغلو ذرة من الكرامة لاستقالا بعد هذه المجزرة، وأضاف: "ان يد الدولة ملطخة بالدم".&
&
وبحسب دميرتاش فإن "اردوغان دعم داعش منذ فترة طويلة"، ويعتقد بأنه يطلق يد داعش في تركيا، رغم الضربات الجوية التي تنفذها الطائرات التركية بين حين وآخر ضد مواقعه. &
&
ويُقدر ان نحو 1000 تركي، وربما 2000، انضموا الى داعش، فمنذ عام 2013 اقام التنظيم شبكة من المؤيدين المحليين، ومن القواعد السرية والعيادات الطبية في تركيا، بالإضافة إلى اتصالات قوية مع السلطات، بحيث ان داعش كان قادرا على تأمين اقامة طويلة للانتحاريين الذين يمرون عبر تركيا، بحسب مجلة شبيغل، التي أشارت الى ان عناصر داعش لم يكلفوا انفسهم حتى الاختفاء عن الانظار في تركيا، مؤكدة بان العديد منهم قالوا، بعد القاء القبض عليهم أو فرارهم، انهم تلقوا تدريبا عسكريا في تركيا. &
&
التغيير قادم&
&
لا تزال الولايات المتحدة واوروبا تدرجان حزب العمال الكردستاني على قائمة المنظمات الارهابية رغم الانتصارات التي حققها ضد داعش، ومنذ تفاقم العلاقة بين الكرد وحكومة اردوغان بعد هجوم سروج الارهابي في تموز(يوليو) قتل ناشطو حزب العمال الكردستاني نحو 140 عنصرًا من عناصر قوات الأمن التركية عبر هجمات مختلفة. &
&
إلى ذلك، يرفض دميرتاش العنف الذي يمارسه حزب العمال الكردستاني، وهو يحاول التوصل الى مصالحة، لكنه يدرك ايضًا ان كثيرًا من اعضاء حزبه متعاطفون مع حزب العمال، بل وله شقيق يقاتل معه في جبل قنديل شمال العراق. &
&
واشار دميرتاش، في كلمة أمام اعضاء حزبه، الى ان حزب العمال الكردستاني اقترح وقف اطلاق النار بعد هجوم انقرة، فيما استمرت تركيا في قصف مواقع الحزب داخل الأراضي العراقية، وقال: "يجب ألا نسمح لأنفسنا بالانجرار الى الاستفزاز".&
&
والغى حزب الشعب الديمقراطي عددا من فعالياته المقررة خلال الاسابيع المقبلة بحجة انه لا يستطيع ان يضمن الأمن لاقامتها، لكن دميرتاش يصر على القول بأن "التغيير قادم لا محالة".&
&
&