يكشف المعرض الخاص بالأطباء الرومان في كولون أن جراحي ما قبل الميلاد كانوا يستأصلون الزائدة الدودية ويخرجون الحصى من الكلية ويستخدمون أدوات جراحية ما زالت تستخدم حتى اليوم.

&
استقر الروم على ضفة الراين قبل 2000 سنة ليقيموا أهم مراكز توسعهم العسكري إلى هولندا وبلجيكا وبريطانيا...إلخ. أطلقوا على الموقع اسم "كولونيا" (المستعمرة)، وهو ما تحول خلال سنوات قليلة إلى ثاني أكبر مدينة في الامبراطورية بعد روما. يعود الفضل في الاسم الفرنسي للمدينة "كولون" إلى الغزاة الفرنسييين المتأخرين الذين كان نابليون بونابرت آخرهم.
تحت هذه المدينة، مدينة الكاتدرائية الشهيرة (الدوم)، ترقد مدينة كولون الرومانية العتيقة بكامل بيوتها وكنوزها. وخلال السنوات الاخيرة من شق نفق المترو الجديد، الذي يربط بين شمال وجنوب المدينة، تأخر البناء لفترات طويلة بسبب العثور على الآثار المطمورة تحت الأرض. وأعلن المتحف الروماني الألماني في المدينة عام 2012 عن العثور على ملايين القطع الأثرية، خلال أعمال شق نفق المترو الجديد، قرر الاحتفاظ ببضعة آلاف منها.
أدت أعمال بناء خط مترو "الشمال" تحت المدينة القديمة بموازاة نهر الراين إلى انهيار مبنى أرشيف المدينة التاريخي، وإلى انحراف برج إحدى الكنائس القديمة، وإلى تشقق جدران العديد من المباني القديمة. إلا أن أعمال البناء التي بدأت في العام 2004 تكشفت عن الكثير من اللقى التاريخية التي تختفي تحت أرض مدينة كولون الرومانية القديمة.
&
قطع أثرية&
أعلن الباحث ماركوس ترير، المدير الفني للمتحف الروماني في كولون، عن 2,5 لقية رومانية قديمة بين 2004-2009. وقد أخضع معظم هذه اللقى الثمينة، ذات الأهمية التاريخية، إلى الترميم وجرى عرضها في المتحف، وتمت أرشفة ثلاثة أرباع اللقى ومن ثم حفظت في أقبية المتحف لأغراض الدراسة والبحث.
تم العثور على معظم هذه اللقى قرب ساحة كلودفيغ في الحي الجنوبي، حيث تنتصب بوابة المدينة القديمة "سيفرين تور"، وقرب الباب الخلفي من محطة السكك الحديدية حيث تنتصب كاتدرائية كولون، وقرب بقايا البرج الروماني القديم. وعمل العلماء طوال سنوات على تصنيف وتقويم عمر موجودات القبور، وبينها قبر يحمل اسم النبيل لوسيوس كوادراتيوس، الذي يعود إلى القرن الميلادي الأول.
من بين الآثار التي اكتشفت نحو 400 قبر تحتوي على نفائس تعود إلى نبلاء الرومان الذين سكنوا المدينة قبل أكثر من 1800 سنة. بين هذه القبور كانت قبور أطباء كولون الرومانيين وقد دفنوا مع كامل معداتهم وأدواتهم وقواريرهم وكتبهم.&
&
16 طبيبة وطبيبا
يجري الآن، وحتى نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، عرض محتويات قبور الأطباء في المتحف الروماني الجرماني في كولون بالقرب من الكاتدرائية العظيمة (ارتفاعها 157 مترًا). اطلق على المعرض اسم "ميديكوس"، نسبة إلى الفيلم الذي عرض في السينمات قبل عامين فقط، ويحمل الاسم نفسه. وهو فيلم من اخراج الألماني فيليب شتولز، وتمثيل السير بين كنغسلي وتوم باين، ويسرد قصة شاب يهودي يسافر إلى اصفهان ليتتلمذ طبيًا على يد العالم الجليل ابن سينا.
ومعروضات "ميديكوس" هي محتويات 16 قبرًا لأطباء من فترات زمنية مختلفة من العصر الروماني، إلا أنها تعود بالأساس إلى القرنين الأول والثاني بعد الميلاد. وتكشف هذه القبور مدى التقدم الذي حققته المدينة الرومانية الجرمانية القديمة على مستوى الطب. وتكفي الاشارة إلى جمجمة بشرية، مثقوبة في أكثر من مكان، وتدل على جراحة عصبية في الدماغ أجريت إلى الرجل في ذلك الوقت، للتعريف بذلك.
المفاجأة الأكبر بالنسبة للعلماء كان العثور على قبور ثلاث طبيبات كنّ يمارسن المهنة في القرن الثاني بعد الميلاد. وهذا يدل على مدى تطور الطب من ناحية، وعلى مدى تطور مكانة المرأة في المجتمع، وكانت الطبيبات مدفونات مع أدوات عملهن، الأمر الذي يكشف أنهن لم يكن "ساحرات". المفاجأة الثانية كانت عيادة طبيب بيطري عمل قبل اكثر من ألف سنة على معالجة مختلف امراض الحيوانات المدللة التي تربيها الطبقة العليا من رومان ذلك الزمان.
&
المباضع نفسها
ذكرت الدكتورة ماريون أويسكرشن، المختصة بالآثار من المتحف الروماني الألماني، لـ "إيلاف"، أن العلامات الجسدية الفارقة في الهيكل العظمي هي التي كشفت جنس الطبيبات، إضافة إلى أنهن دفنّ مع ملابسهن وحليهن وأدوات عملهن.
وكانت الأولى طبيبة جرّاحة، وتم العثور على مشارط وملاقط داخل قبرها. وكانت الأخرى طبيبة عيون يبدو أنها كانت تصحح كدر العين جراحيًا بواسطة مشارط غاية في الدقة.
وكانت الثالثة طبيبة أسنان، عثر في قبرها على مشارط وكمّاشات وسكين بشكل دائرة صغيرة وفكوك اصطناعية. والمثير للدهشة أنهن لم يتخصصن في الجراحة النسائية والتوليد، وهو أول ما قد يتبادر إلى الذهن عند سماع كلمة "طبيبة" من العصور القديمة. عمومًا، وبحسب تقدير الخبراء، كانت النساء تشكل نسبة 10% من الأطباء في كولون الرومانية.
وأكدت اويسكرشن أن الأطباء المتخصصين اليوم لاحظوا أن المباضع والمشارط والملاقط، من ناحية الشكل والتصميم، لم تتغير كثيرًا منذ 2000 سنة. وتم العثور في أحد قبور الأطباء على ملقط كبير، يشبه الخطاف، يستخدم حتى اليوم في سحب الجنين من الرحم. ولو اتيحت الفرصة لطبيب روماني لدخول عيادة جراحة حديثة لما وجد صعوبة في التعامل مع الأدوات الجراحية اليوم، بحسب رأي الباحثة.
&
طبيب لكل 300 مواطن
كانت معظم المشارط حادة من الجانبين، وتكشف رغبة الطبيب بالعمل بسرعة لانجاز مهمته الجراحية، لأن عقاقير التخدير لم تكن معروفة كثيرًا لديهم.
وتم العثور على هذه الأدوات داخل خزانات زجاجية عالية، الذي قد يعني أن الأطباء دفنوا داخل عياداتهم نفسها.
وردًا على سؤال، ما إذا كان هذا التقدم الطبي مقصورًا على كولون، قالت اويسكرشن إن روما كانت متقدمة أيضًا في الطب، لكن العثور على 16 قبرًا في كولون، وهو بالطبع لا يمثل عدد كل أطباء المدينة، يكشف عن عدد غير مسبوق في أية مدينة رومانية قديمة أخرى، إذ يقدر الباحثون في عصر الامبراطورة اغربينا الابنة (ولدت سنة 16 بعد الميلاد) وجود طبيب لكل 300 مواطن، وهي نسبة تقترب من نسبة الأطباء إلى عدد سكان كولون اليوم.
ولا ننسى هنا وجود عدد مماثل من الصيادلة في المدينة.
&
عيون ومسالك بولية
تكشف إحدى اللفائف الجلدية، التي تم العثور عليها في قبر أحد الجراحين، كيف كانوا يعملون في ذلك الوقت من دون تخدير، نزولًا عند حكمة ابوقراط الشهيرة "المرض الذي لا تنفع معه الأدوية ينفع معه الحديد (المشرط)". وتخبرنا الوثيقة أن طبيب العيون تيبيريوس ليلوس لايوس، الذي تتلمذ على يد الطبيب المشهور سيلسوس، جعل مريضه يمتنع عن الأكل والشرب طوال ثلاثة أيام بهدف تبليد اعصابه، ثم جعله يجلس أمام النافذة ويتطلع في السماء. هاجمه مساعد الطبيب من الخلف وثبت رأسه نحو الأعلى، ثم هجم الطبيب بمشرط نحاسي دقيق كالابرة أدخله في عين المريض واقتلع منها العدسة الكدرة خلال ثوانٍ. ربط عين المريض بضمادة من الصوف، وكان الرجل قد اغمى عليه بفعل الألم.
في قبر لايوس، عثر الباحثون على بوتقات تحضّر فيها الأدوية، اضافة إلى رقاقات صغيرة جدًا تحتوي على مواد طبيعية لمعالجة التهابات العيون المختلفة.
وتتلمذ الطبيب الكولوني القديم ماركوس روبريوس ليوناتا على تعاليم الطبيب اليوناني الشهير ابوقراط، وتكشف الوثائق في قبره أنه كان عبدًا في روما، ثم نال حريته بفضل علومه في الطب، ونال ثروة كبيرة في حياته تكفي شاهدة قبره للدلالة على ثرائه. وتعلم لويناتا كيف يعالج الأمراض كأمراض جسدية عضوية وليس كنوائب تنزلها آلهة اوليمب بالبشر. تخصص هذا الطبيب بأمراض المسالك البولية وكان يستخرج الحصى من الكلية، بحسب ما تكشفه الوثائق التي حملها معه في قبره. واستخدم ليوناتا سلكًا دقيقًا مزودًا بنهاية تشبه الملعقة لاخراج الحصى من المثانة من خلال شق إلى المجرى البولية يقطعه قرب المخرج. بين الوثائق التي عثر عليها في قبره كتب طبية لليوناني الشهير اسكيلوبيس مع تمثال لألهة الطب هايجيا تحمل تمثال الثعبان الذي يدل على الطب والصيدلة آنذاك.
&
الطب والحروب
يقال في التاريخ إن الحروب دفعت التقدم التقني إلى الأمام، وذلك منذ العصور الحجرية وعصر اكتشاف المعادن، ويبدو أن حروب روما المعروفة كانت دافعًا للتقدم الطبي، كما كانت ساحة تجريب وتدريب للأطباء، وللجراحين على وجه الخصوص. ولهذا، نادرًا ما يعثر في كولون على مستشفى، لأن الأطباء كانوا يعالجون المرضى في بيوتهم (المرضى) أو في الحمامات، وكان الجيش وحده يمتلك المستشفيات الثابتة والمتحركة.
ويبدو أن طبيبًا عسكريًا حاول أجراء عملية في الدماغ لجندي روماني في القرن الثاني بعد ميلاد المسيح. وكانت جمجمة الجندي مقطوعة بواسطة منشار دائري تدل آثار القطع عليه، والمعتقد أن الطبيب احتفظ بالجمجمة بعد موت الجندي أو أعتزازًا بانجاز ما. وتم العثور على عيادة الطبيب العسكري قرب برج المراقبة القديم على ضفة الراين، وكان الهيكل العظمي للجندي وسيفه وخوذته الرومانية مدفونة معه في القبر.
وهذا ليس كل شيء في معرض ميديكوس، لأن تماثيل أبو قراط واسكيليبوس، وغيرهما من أطباء العصور القديمة، تواجه الزائر في المدخل. وفضلًا عن اللقى المعروضة، يستطيع الزائر مشاهدة بعض الأفلام العلمية عن الطب في العصر الروماني، كما يشاهد أفلامًا عن العصر الكولوني الاغربييني، بالعلاقة مع القيصرة العظيمة اغربينا. وكان لاغربينا 8 أولاد منهم نيرون الذي احرق روما، والقيصر، والقيصر دروسوس، والقيصر غايوس الذي حمل لاحقًا اسم كاليغولا.
&