عاش الكاتب الصحافي والفيلسوف المصري أنيس منصور تسعة عقود من الزمن ملأتها كتبه وموسوعاته ورحلاته بالنظرة الكونية والرؤية الفلسفية التي تخترق الزمان والمكان والإنسان، وكان خزانة أسرار، أو قُل كـ"الصندوق الأسود" الذي يسجل بكل دقة وبراعة اللحظات الأخيرة فتقرأها وكأنك تعايش أدق تفاصيلها.

&
أسرار وحكايات داخل صندوق أنيس منصور اختص بكشفها والبوح عنها للكاتب الصحافي والأديب المصري الدكتور مجدي العفيفي، والتي نقلها إلينا عبر صفحات كتابه، وربما موسوعته "آخر 200 يوم مع أنيس منصور"، في 550 صفحة، أضاء خلالها جوانب من حياة أنيس منصور، الذي أوصاه بنشرها فقط بعد رحيله.
&
الفلسفة والصحافة والأدب خيوط رفيعة تشابهت وتشابكت بين الكاتب والفيلسوف، حتى إن الدكتور مجدي العفيفي قد قضى العام الأخير من حياة أنيس منصور ملاصقًا له ليل نهار، وافتتح العفيفي الصندوق الأسود لأنيس منصور متسائلًا.. "ماذا حدث في آخر 200 يوم في حياة أنيس منصور؟، إلى أي حد كان يجري مراجعات فكرية؟، ماذا كان يكتب؟، ماذا ترك من أوراق ومذكرات؟"، لتأتي الإجابة في سبعة فصول من كتابه، الذي صدر هذا الأسبوع من دار اكتب، وعلى طريقة مائتي يوم حول العالم لـ"أنيس منصور" يبدأ العفيفي تقاسيم الفصل الأول على قيثارة أنيس منصور، والفصل الثاني: في (مشواره السري) بين القاهرة وتل أبيب: مهام سياسية مباشرة، والفصل الثالث: في مذكراته الخاصة (حكيت وبكيت) كان يحكي كثيرًا.. ويبكي أكثر، والفصل الرابع: في بلاط صاحبة الجلالة كانت لهم أيام، والفصل الخامس: نبوءات..واعترافات.. ومكاشفات، والفصل السادس: نحن (أولاد) أنيس منصور، ليختتم موسوعته في فصلها السابع بـ"صور نادرة من الصندوق الأسود".
&
غلبت الحاسة الصحافية على الكاتب، فبدأ بآخر سؤال سأله لأنيس منصور في أيامه الأخيرة جدًّا: ماذا تقول لربك غدًا إذا لقيته ؟!..."قال بلغة الأعماق البعيدة التي كان يتهامس بها في كل حواراته معي:&
– سأقول له: أنت الله، لا شريك لك، ما أعظمك!... وظل يبكي، كما كان يبكي في مراجعات كونية كثيرة.
&
بهذه السطور بدأ الكاتب الصحافي الدكتور مجدي العفيفي صفحات كتابه الجديد «آخر 200 يوم مع أنيس منصور»، مشفوعًا بمجموعة من الصور النادرة عبر مراحل حياة أنيس منصور. وأوراق مخطوطة تركها الكاتب الراحل للمؤلف، الذي يشهد بأن أنيس منصور ما كان والد أحد منا، لكنّ رسولًا من رسل الكلمة، وخاتم جيل من المفكرين والكتّاب الموسوعيين من أصحاب النظرة الكونية والرؤية الفلسفية التي تخترق الزمان والمكان والإنسان.
&
المسكوت عنه
في الفصل الأول يقدم المؤلف تقاسيم على قيثارة أنيس منصور في أكثر من ثلاثين نغمًا فكريًا تشكل المحاور الأساسية والتأسيسية لمنظور أنيس منصور للحياة والإنسان والكون، يبدأها بقوله: في المائتي يوم الأخيرة تحديدًا من حياة أنيس منصور.. كان يحدثني عن كثير من الأسئلة المسكوت عنها، سواء على المستوى الذاتي في مناطق وعرة من جغرافية حياته وفكره، أم على المستوى الموضوعي في رؤيته لكثير من القضايا والهموم المحظور اقتحامها، أفاض عليَّ بأسرار ومذكرات، وفتح لي «صندوقه الأسود» من مراجعات سياسية، واعترافات شخصية، ومناوشات فكرية، وارتعاشات دينية، وخفقات علوية، وتنهدات وجدانية، ونبوءات واقعية، وتحديقات مستقبلية.
&
لم تكن عملية البحث في أغوار أنيس منصور بالمهمة السهلة، حيث يصفها الكاتب بأنها "مثل ولوج الجمل في سم الخياط".. عملية مستحيلة فيقول: أن تقرأ أنيس منصور معناه أنك تقرأ آلافًا من الكتب، في الفكر والفلسفة والدين والعلم والأدب والفن والفلك والإنسان والزمان والمكان.
&
صداع في معدتي ومغص في قلبي!
عشرة من الزمان تجاوزت عقودًا، جمعت بين وحيي العفيفي وأنيس منصور كانت كفيلة بأن يبوح الفيلسوف للكاتب الذي سأله في الفصل الثاني قائلًا: هل عرفت من أنت بعد كل هذا العمر؟، فقال: "آه لو كانت أفكاري وعواطفي ملفوفة.. كلها على هيئة بكرة خيط.. لها أول ولها آخر.. ولها اللون الذي يعجبني.. آه.. لو كنت أستطيع أن أرتب هذه الخيوط بالشكل الذي يعجبني..آه.. لو كنت أعرف ما يدور في عقلي.. وفي قلبي.. وفي معدتي.. إنني كثيرًا أتلخبط في مشاعري، فأحس بالصداع في معدتي.. وأحس بالمغص في عقلي.. وبالقرب من قلبي.. إنني لا أعرف أين يوجد الحب، ولا أين توجد الكراهية.. ولا أين يوجد الجوع والعطش، إنني أعرف أن الطريق إلى العقل يمر بالمعدة وبالقلب، ولكن أنا لا أعرف أول هذا الطريق ولا نهايته.. فنحن نأكل، ولكن عملية الأكل هذه عملية عقلية.. والشعور باللذة.. مسألة عقلية.. والشعور بالارتياح للذين نجلس إليهم عند الأكل مسألة عاطفية.. مسألة قلبية.. فبأي شيء نأكل.. بالقلب؟ بالعقل؟ لا أعرف!".
&
لم أقل ما فيه الكفاية
لا تزال الأسئلة مستمرة وفضول الصحافي يخيّم على رأس العفيفي، فيقول: سألت أنيس منصور في&أشهره الأخيرة، وكنت أراجع معه فصول كتابه الأخير الذي كان يتهيأ للنور «أعجبني هؤلاء»: هل قلت كل ما تريده؟.
&
أجاب: عندي إحساس دائم بأنني لم أقل بالضبط ما أريد، ولكنني أحاول، ثم أكرر المحاولة، وتتكرر المعاني؛ ولذلك أستخدم في التوضيح كأنما ولعل، أي كأن المعنى كذا وكذا، وأشعر بأنني لم أقل بما فيه الكفاية.
&
وعن القلم والقراءة والكتابة، يذكر المؤلف أن القلم كان في يد أنيس منصور مثل عصا موسى.. يهش به على غنمه من الكلمات، يسوقها إلى المعاني، أو يسوق إليها المعاني، أحيانًا، تمشي وراءه وينفخ في عصاه كأنها أرغون، ويغني، ولا يلتفتُ إلى الأغنام وراءه وحوله وأمامه، هو يقول: أحيانًا أرى عصاي تلتهم الكلمات وتلتهم الأفكار، ولا أعرف ما جدوى أن تكون لي عصا، وأحيانا أرى عصاي مثل عصا المايسترو، أقود بها ما لدي من أفكار، وأهش بها على ما لدي من كلمات، وأقوم بالتنسيق بينها جميعًا، ويسعدني ذلك، وأحيانًا أرى عصاي مثل عصا توفيق الحكيم..«لقد دفنت نفسي في قبور أنيقة اشتريتها من مكتبات العالم»، هكذا يصف مكتبته ومقتنياته من روائع المعرفة الإنسانية، وأن تشاهد أنيس منصور وهو يكتب متكئًا على «عموده الفكري» أكثر من ارتكازه إلى «عموده الفقري» فأنت تشاهد عملية كيميائية معقدة جدًّا، لها طقوسها وتقاليدها، ولها دلالاتها ووظائفها.&
&
مؤلفاته في سجن "غوانتانامو"&
روائع من مؤلفاته احتلت حيزًا واسعًا من قائمة الكتب، التي طلبها سجناء، كان آخر خبر وضعته بين يدي أنيس منصور في أيامه الأخيرة، وأثار تعجبه قبل إعجابه، أن «معتقل خليج غوانتانامو» الذي يحتجز نحو 450 سجينًا من 18 دولة، ليقرأوها في مكتبة المعتقل القابع في جزيرة كوبا في معسكر دلتا أو المعسكر الخامس، وهي: «أرواح وأشباح»، و«ألوان من الحب»، و«اتنين اتنين»، و«التاريخ أنياب وأظفار»، و«الخبز والقبلات»، و«الذين هبطوا من السماء»، و«قالوا»، و«قلوب صغيرة»، و«كل معاني الحب»، و«من أول نظرة»، و«يا من كنت حبيبي»، وهذه المؤلفات تتجاور معها المؤلفات الكاملة لنجيب محفوظ، وعميد الأدب العربي طه حسين، وجبران خليل جبران، وتوفيق الحكيم.
&
يرى الدكتور مجدي العفيفي أن أنيس منصور كان مثل العنكبوت، له عشرون عينًا، فمشى أنيس وراء عيونه، يمينًا وشمالًا، واتجه إلى أعلى حاسر الرأس، ونظرت إلى أسفل عالي الرأس، وأحس كأنه يبني بيوتًا منيعة فوق الأرض أو تحت الأرض، حمته من مخاوفه، فالإنسان صانع مخاوفه، وكل إنسان هو شيطان نفسه، ولكن في الوقت نفسه حرمته الماء والهواء والضوء.
&
عدو المرأة
ويشهد المؤلف أن أنيس منصور كان محبًّا للمرأة، بل عاشق، وإن احتواها بالنقد اللطيف، ولم يكن عدوًّا كم أُشيعَ عنه، وأشاع هو، وساعد على ذلك، شأنه شأن توفيق الحكيم.
&
يستطرد المؤلف المشوار السري في حياة أنيس منصور ومقال «حمار الشيخ عبد السلام»، الذي نشره في «أخبار اليوم»، والذي كان سببًا في قرار الزعيم جمال عبد الناصر بفصله من عمله، كما يفرد صفحات من كتابة للحديث عن علاقة أنيس منصور بالسادات، حيث يزاح النقاب للمرة الأولى عن كثير من المهام الصعبة والسرية، التي كان يقوم بها مباشرة بين الرئيس الراحل أنور السادات وحكام إسرائيل، باعتباره «موفد السادات» في نظر القيادة الإسرائيلية السياسية، ولم يكن يعلن عنها، حتى تؤتي ثمارها في كتابه "مشواري السري".
&
ويختتم الدكتور مجدي العفيفي فصول كتابه بعرض شرائح العمر المصورة.. وهي تشكيلة نوعية ومتنوعة من حياة أنيس منصور، هي وثائق لـ 100 عام تقريبًا، عصر بكامله، شهد الكثير من التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية والصحافية والفنية، مصريًا وإقليميًا وعالميًا.&
&
يذكر أنه سبق للدكتور مجدي العفيفي أن وضع على رفوف المكتبة أكثر من 16 كتابًا في المجتمع والأدب والنقد والثقافة، منها: المرأة والسياسة، وعبَّـاد يتحرر من الشمس، ولغة الأعماق البعيدة.. في قصص يوسف إدريس القصيرة، ولذة القص في روايات يوسف إدريس، وغيرها.
&