ازدادت نسبة التحرش في العراق إلى درجة صار فيها حديث الساعة، مما أدى إلى انطلاق أصوات تطالب بالحدّ من هذه الظاهرة، وهو الأمر الذي جعل وزير الداخلية &العراقي يقول "سأملأ السجون بالمتحرشين".
إيلاف من بغداد: أخذت ظاهرة التحرش في العراق بالتوسع والانتشار بشكل مثير، وصارت ممارستها تتنوع بين التحرش اللفظي واللمس، بل إن الأمر تعدى ذلك إلى قيام مسؤولين حكوميين وغير حكوميين وأساتذة جامعيين بالتحرش، وأصبح الحديث عن ذلك يتم بصوت عالٍ، وقد أصبحت الدوائر الحكومية في وضع سيء للغاية، والشكاوى منه تتعالى، كما إن المستغرب أن الجامعات العراقية سجلت تجاوزات كبيرة، فضلًا عن مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت ساحة للتحرش.
وقد أعرب وزير الداخلية عن قلقه بعد انتشار ظاهرة التحرش والابتزاز، وغياب الجدية في المعالجات، خاصة بعدما أثار حادث قيام معدد من الشبان أخيرًا بمحاصرة مجموعة من الفتيات والتحرش بهن لفظيًا وجسديًا في عمل لم يتم إنهاؤه إلا بتدخل أمني واسع واستخدام سيارات الإسعاف، فيما انطلقت حملات شبابية تطالب (الغيرة) العراقية باستعادة ما فقد من قيم أخلاقية، مع التأكيد على ضرورة المعاقبة والتثقيف.
واستغرب الكثيرون أن ما يحدث هو في بلد تحكمه أحزاب الدين السياسي والدين والعشيرة ولهم الكلمة العليا في المجتمع، ووصفوا ذلك بأنه (كارثة مجتمع يعيش حالة انفصام بين الأخلاق واللا أخلاق)، مشددين على أن التحرش في العراق وصل إلى درجة الخزي.
متابعة حية&
وخلال متابعة ميدانية لـ"إيلاف" للعديد من المتحرشين في أماكن مختلفة فقد ظهر أن الكثير منهم لا يتورع بأن يتحرش بأية امرأة، مهما كان عمرها، وبالألفاظ الخادشة للحياء، وأن (يستقتل) في التلفظ بعبارات معيّنة، تبدأ من (اللطيفة) وتصل إلى (البذيئة)، ولا يجد الكثير من الرجال على اختلاف أعمارهم ما يمنعهم من قول أي كلام للتعبير عمّا في أنفسهم إعجابًا أو تغزلًا، ولكن بشيء من المباشرة في توصيف الجسد، بل إن البعض يظل متابعًا للفتاة أينما تذهب، محاولًا إرغامها على إعطائه رقم هاتفها، فيما كان البعض يتجرأ في أن يضع ورقة صغيرة فيها رقم هاتفه بيد الفتاة.
بعض هؤلاء المتحرشين، كما أفصحوا، لا يمتلك أية هواية في الحياة سوى هواية التحرش، كما يسميها، وبعض الموظفين لم يترك موظفة من دون أن يتحرش بها على اختلاف الأسلوب، وأكثر ما أثار الانتباه ذلك المشهد، حيث وقف أحدهم أمام امرأة جميلة في مكان عام، وقال لها باللهجة العامية (ما هذا الجمال الجنوني)، وحين نهرته، قال لها بجرأة (أي مبلغ تريدين أنا سأعطيك)!.
استبيان
وأشارت دراسة عراقية حديثة أعدّها "منتدى الإعلاميات العراقيات" إلى تفاقم ظاهرة المضايقات والتحرّش الجنسي.. وتضمنت الدراسة استطلاعًا لرأي 200 امرأة تم اختيارهن بشكل عشوائي من العاصمة بغداد والمدن المجاورة، حيث صرحت 77 في المئة منهن أنهن تعرّضن للتحرش، وغالبيتهن من الموظفات والطالبات.
قالت دينا جرجيس، ناشطة مدنية، إن نسبة التحرش تبلغ 92 %، كما أظهر استبيان أجرته بنفسها، ونشرته من خلال استمارة تملؤها البنات، على مواقع التواصل الاجتماعي، واشتركت فيه 15 ألف بنت، فكانت نسبة التحرش 92 %.&
إلى ذلك أقام العديد من المنظمات النسوية ومنظمات المجتمع المدني ندوات توعية مستمرة حول طرق محاربة التحرش وكيفية التعامل مع المتحرش، مؤكدة على أن (المتحرش شخص مخطئ، فلا يجب السكوت عنه، لأن السكوت سوف يعطيه المجال للتمادي. يجب أن تفهم المرأة العراقية هذا الشيء، فالقانون ينصف المرأة بهذا الخصوص)، فيما انطلقت حملة تحمل شعار (خليك إنسان / أنا ضد التحرش).
رأيان وحكايات عن التحرش
إزاء ذلك تختلف الآراء حول ظاهرة التحرش. ويبرز رأيان، الأول مندد بظاهرة التحرش، ومنتقد بشدة للشباب المتحرشين، ومطالب بوضع حد لهذه الظاهرة دفاعًا عن حرية المرأة وحقوقها وكرامتها اجتماعيًا، والرأي الثاني: المنتقد لملبس الفتاة وشكلها، &والذي يعدّها هي السبب في فعل التحرش.
وقالت زهرة حامد، موظفة، لـ (إيلاف)، "حين انتقلت من وزارة إلى أخرى طلبني المدير العام للدائرة التي أعمل فيها، وحين ذهبت إليه في مكتبه، أغلق باب الغرفة، فاستغربت تصرفه وخفت، لكنني بقيت قوية، قال لي: أحس أنك غير مرتاحة في المكان/ القسم الذي تعملين فيه، فأكدت له حقيقة ذلك، لأنه ليس ضمن اختصاصي، لكن الغريب أنه ساومني على نقلي إلى المكان الذي أريده مقابل أن أقيم علاقة سرية معه، نظرت إليه، وهززت يدي، وغادرت من دون أن أتفوه بأية كلمة، وأنا أحاول أن أخفي دموعي لأنني شعرت بالإهانة فعلًا.
أما غيداء جمال، طالبة إعدادية، فقالت: من المستحيل أن أخرج وحدي من البيت من دون أن أتعرّض للتحرش طوال الوقت، في الشارع والسوق وحتى من سائق التاكسي الذي استأجره للذهاب إلى الوجهة التي أريدها، وصدقني حتى الرجل الكبير الذي عمره بعمر أبي يتحرش بي. وأضافت: بصراحة.. تعبنا من التحرش الذي نتعرّض له في كل مكان، ومهما كان لبسنا، فالتحرش واقع، فلا تخلص منه سافرة ولا محجبة، ولا من ترتدي ملابس محتشمة ولا ملابس عادية.&
من جهتها قالت كميلة علي: التحرش الآن، وخاصة في الدوائر الحكومية حدث ولا حرج، فمهمة الموظف قبل أي شيء هو التحرش بزميلته في العمل، حتى وإن كانت متزوجة، وإن قالت له (عيب) قال لها إنه يمزح !!.
وأضافت: لم يعد معظم الموظفين يتعامل مع الموظفة كزميلة له، بل ينظر إليها على أنها مجرد جسد قابل للتحرش، ومهما لبست وتحشمت، فهي لا بد أن تسمع الكلام المباشر وغير المباشر البذيء أحيانًا، وليس لها أن تصمت، لأن أي رد فعل سيحسب ضدها.
لا يمكن السكوت&
إلى ذلك أكد الإعلامي خالد خشان أن الوضع لا يمكن السكوت عنه، وقال: أظهر استطلاع أجري أخيرًا أن أكثر النساء عرضة لهذه الظاهرة الموظفات، وأعتقد أن القضية تتجاوز هذا الرقم وأيضًا التشخيص، ومن هنا يمكن اعتبار التحرش أسوأ ما تتعرّض له المرأة العراقية حاليًا، لأنه إساءة لإنسانيتها وكينونتها.
أضاف: يبدو أن العرف والعادات اﻻجتماعية تحدّ من اعتراض المرأة على هذه الظاهرة الخطيرة التي تجتاح مجتمعنا بشكل خطير.. نحن مطالبون بوقفة حقيقية ضد هذه الكارثة المستفحلة، وإلا فأننا سنشاهد حوادث مرعبة، ولا يمكن السيطرة عليها وسنسمع حكايات تتجاوز التحرش إلى الاغتصاب.
وتابع: لا يمكن السكوت عن هذا الوضع الذي يهين زوجاتنا وأخواتنا وبناتنا، ولا بد من عمل جاد وتوعوي للحد من هذه الحالة التي نأسف لها في مجتمع مثل مجتمعنا العراقي الذي نسميه بالمحافظ.
لفظي وجنسي
من جهتها أكدت الناشطة المدنية نادية عبد الحميد أن النساء يبتلعن يوميًا المئات من الكلمات السامة والمهينة التي تهاجم طمأنينة المرأة وسلام جسدها.. وقالت: تتعرّض المرأة العراقية للتحرش اللفظي والجنسي والحسي بشكل أصبح مؤذيًا وخطيرًا، مما يجعل الكثيرات يردن على ذلك بالدموع وبصمت.
أضافت: من المؤسف أن المجتمع هو من جعل من التحرش حقًا ممنوحًا للذكر، وهو الذي منحه حق التمادي فيه، ولا أعرف السر وراء هذا التمادي الذي ما عاد مجرد كلمات يطلقها المتحرش على مسامع البنات، وإن كانت قبيحة، بل أصبح اللمس غاية حقيرة.
وتابعت: نحتاج قوانين خاصة بالتحرش وشرطة آداب في الأماكن العامة والمتنزهات، مثلما نحتاج أن نشجع المرأة على الإبلاغ عن المتحرشين، خاصة في دوائر الدولة التي صار التحرش فيها أسوأ من الشارع، كما أتمنى أن تكون للمجتمع وقفات جادة، وأن تعلم كل أسرة أبناءها احترام المرأة ورفض التحرش الذي قد تتعرّض له الأخت والزوجة والابنة والأم حتى، كما نحتاج أن تقوم القنوات الفضائية من خلال برامجها بالتوعية بخطورة التحرش والتأكيد على أنه من السلوكيات المذمومة.
تجريم التحرش
عن العقوبات التي يفرضها القانون ضد المتحرشين، قال المشاور القانوني سعدي العبيدي: القانون العراقي يجرّم التحرش بكل أشكاله، فقد تطرق في قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة (1969) النافذ في كل المواد المرقمة (400،401،402) وتحت عنوان (الفعل الفاضح والمخل بالحياء). ويضع القانون عقوبات تصل إلى الحبس لمدة سنة وغرامة مالية، إلا أن هذه المشكلة لا تنقصها المعالجة القانونية فحسب، فهي في أمسّ الحاجة إلى معالجات قيمية واجتماعية للحدّ والتخلص منها.
أضاف: فهذه المعالجات القانونية تصطدم بعوائق عدة، منها الأعراف والتقاليد، فضلًا عن أن واقعة التحرش بحاجة إلى أدلة لكي يتم تجريم مرتكبها، وفي مقدمة تلك الأدلة الشهود، ونحن نعرف أن غالبية النساء والفتيات يفتقدن الجرأة لتقديم شكوى خوفًا من الأهل والمجتمع والنظرة العامة، وليس أدل على ذلك إلا اعتراف وزير الداخلية في مقابلة تلفزيونية أخيرًا أن ثلاث شكاوى فقط رفعت ضد متحرشين.
&
التعليقات