إيلاف من لندن: في الحلقة الاخيرة من مذكرات "السنغال في القلب"، يتحدث الرئيس السنغالي ماكي صال عن نفسه، ويقول: "ربما استحق لقب الصارم لكني أسمح لنفسي في بعض الاحيان أن استجم بشيء من الدعابات". ويقول إنه لا يعتقد انه تغير خلال ممارسة السلطة، مشيرا إلى أن هذه الاخيرة لا تغير الا من عنده دوافع ذاتية للتغير.

يتطرق الرئيس السنغالي لبرنامجه وطريقة عمله، ويقول: "انا ليبيرالي لكنني أرفض توريط السنغال في ليبيرالية متطرفة"، مضيفاً : "اذا تركت الدولة قوانين السوق تتدخل وحدها في كل شيء سيكون الامر مثل قصة الثعلب والدجاجة في قفص واحد ".

في ما يلي الحلقة الاخيرة.

ربما أستحق لقب الصارم

ربَّما أستحقُّ لقبَ الصَّارم،إنني فعلاً، لست إنساناً مَرِناً، كما يقول بعض النَّاس عنِّي، ولكنَّني أكثرُ مرونةً من إيحاءات صورتي الظَّاهرة، كما يظنُّ البعض.

أن تكون على رأس الدَّولة، فهذا يتطلَّب إصدارَ الأحكام والقرارات أو القيام بحالات التَّحكيم، الَّتي قد تُسبِّب استياءً كبيراً للَّذين تطبَّق ضدَّهم هذه الأحكام والقرارات.

من جهة أُخرى، فإنِّي وصلت إلى رئاسة الجمهوريَّة مع أمرين ليسا لصالحي أبداً، الأمر الأوَّل يتمثَّل في أن البعض يرى بأنَّني من النِّظام الَّذي أدَّعي مُحاربته الآن، لأنِّي كنتُ الوزيرَ الأوَّل لعبد الله واد طيلةَ فترة طويلة. إذًا، كيف يُمكنني أن آتي بجديد لم يُعْرَف عن هذا النِّظام، أو كيف يُمكنني أن أحدث قطيعة مع أساليب الحزب الدِّيمقراطيِّ السِّنغاليِّ؟.

والأمر الثَّاني هو أن البعض الآخَر كان يقول بأنَّ النَّاخبين لم يُصوِّتوا لي أنا، إنَّما صوَّتوا ضدَّ عبد الله واد، وأنَّني انتُخِبتُ بالاضطرار لا بالاختيار.

إذا قام الإنسان بتحليلِ حصيلة النَّتائج الَّتي حقَّقتُها، فإنَّها تُعبِّر عن نفسها بلسانِ حالٍ مُبين.

نهضت من جديد لمعركة الحصول على فترة ولاية جديدة وأخيرة، وعندي القناعة نفسها عن وطني، والرَّغبة نفسها في تطوير الأمور ودفعها إلى الأمام. فأنا عندي يوم عمل طويل جدَّاً، لأنِّي لا أذهب إلى الفِرَاش قبل السَّاعة الثَّانية أو الثَّالثة ليلاً، وتجدُني السَّاعة التَّاسعة والنِّصف صباحا في المكتب، ولا أغادره إلَّا في السَّاعة الثَّالثة للاستراحة والغداء،ثمَّ أستأنف العملَ في حدود السَّاعة الرَّابعة، وأبقى في المكتب إلى السَّاعة الحادية عشرة ليلاً. أنا لا أشتكي، هنا، لأنَّني أعرف أن هذا هو الثَّمن الَّذي يجب عليَّ دفعُه للوفاء بمتطلَّبات العمل الَّذي نذرتُ نفسي له.

هل غيرتني السلطة؟

هل السُّلطة تُغيِّرُ الَّذين يُمارسونها؟ وهل غيَّرتني أنا؟

لا أعتقد أنَّني تغيَّرتُ خلال ممارسة السُّلطة. أظنُّ أن السُّلطة لا تُغيِّر إلَّا الشَّخص الَّذي كانت عنده دوافع ذاتيَّة للتَّغيُّر، تتماشى مع طبيعته الحقيقيَّة. إن السُّلطة لا ينبغي أن تُغيِّرَ الإنسان، وبالمقابل، فإنَّ الإنسان هو الَّذي بإمكانه أن يُغيِّرَ مسار السُّلطة وطبيعتها ومجرى التَّاريخ. إن السُّلطة، أعتبرُها، بصفة جوهريَّة، وسيلة لتحقيق الأهداف الَّتي تمَّ تحديدُها، مُتمثِّلةً في مشروع مجتمع، والتَّحوُّل الإيجابيِّ، وبناء إرادة التَّغيير.

إنَّ السُّلطة تُقدِّم للإنسان وسائل للعمل، ولا ينبغي أن تُغيِّرَ الشَّخصيَّة الدَّاخليَّة ولا الطَّريق الاعتياديَّة في الحياة، وإن كانت تجعلُكَ تعيش في محيط مُخالف تماماً.

هناك حالات ضغوط تفرضها السُّلطة على الإنسان. من هذه الحالات، أنَّه لا يستطيع القيام بكلِّ الأمور الَّتي يريدها، فهو لن يجدَ فسحةً أو حرِّيّة للقيام بكلِّ ما يريد. أمَّا أنا، فأرى أن السُّلطة لم تُغيِّرني حتَّى الآن، وأنَّها لن تستطيع تغييري في المستقبل. إنَّني جاوزت الفترة العمريَّة الَّتي يمكن أن أتعرَّض فيها لتغييرات حقيقيَّة.

العودة إلى منزلي السابق

خوفاً مِن ذلك، اتَّفقتُ أنا وزوجتي على أن نعودَ إلى منزلنا السَّابق،وأن نعيشَ فيه خلال فترتي الرِّئاسيَّة.

هذه الحالة تُشكِّل السَّابقة الأولى، حيث يترك رئيسُ للجمهوريَّة القصرَ الرِّئاسيَّ ويعيش مع أُسرته في بيته الخاصِّ.

في بداية 2012، بقيتُ في بيتي الخاصِّ مدة سنة تقريباً. وكان الكلُّ يتساءل: لماذا تصرَّف الرَّئيس هكذا؟ كان انتقالي من بيتي إلى القصرِ الجمهوريِّ يُسبِّب زحمة حادَّة في حركة النَّقل. وبسببِ هذا الجَدَل لدى المواطنين، انتقلتُ إلى القصرِ الجمهوريِّ في ديسمبر 2012. ثمَّ عدتُ، بعد ذلك، مع أسرتي إلى بيتنا الخاصِّ في نهاية سنة 2015.

أرى بأنَّ هذا الانتقال يتضمَّن دروساً وقِيَماً تربويَّة. إن الرَّئيس عندما ينامُ في بيتِه الخاصِّ، فإنَّ ذلك يجعله إنساناً يعيش حياةً مثلَ حياة الآخرين، وفي الوقت نفسِه، فإنَّ ذلك لا يحولُ بينَه وبينَ تجسيد السُّلطة كما ينبغي. وهذا الموقف، أعتبره مُهمَّاً جدَّاً. ومثل هذا الأمر يحدث في بلاد أُخرى. إنَّني أعرف رؤساء دول يعيشون في بيوتهم الخاصَّة دون أن يُثير ذلك أدنى جَدَل.

تصوران لممارسة السلطة

إنَّ مُمارسة السُّلطة يمكن أن تتمَّ وفقَ تصوُّرَينِ اثنين. التَّصوُّر الأوَّل يجعل صاحب السُّلطة يتعلَّق بمباهجها وملذَّاتها ومادِّيَّاتها، مُتمثِّلةً في النَّزعة السُّلطويَّة والحرص على إظهار القوَّة والتَّعلُّق بالامتيازات والشَّرف الشَّخصيِّ. وهذا التَّصوُّر يُمكن أن يُغيِّرَ صاحبَ السُّلطة ويجعلَه عبداً يسعى وراءَ هذه الأمور بكلِّ ما لديه مِن إرادة وتصميم. هذه الحالة، يمكن أن تؤدِّي إلى فقدِ الاستقلال والموضوعيَّة في الحُكم. والتَّصوُّر الآخَر، خدماتيٌّ خالص للشَّعب، بحيث يرى صاحبُ السُّلطة أنَّه انتُخِبَ لخدمة شعبه وبلده.

صحيح أن السُّلطة حتَّى في هذا التَّصوُّر، تجلب لِمَن يُمارسها عدداً من الامتيازات المرتبطة بممارسة السًّلطة، لكن لا ينبغي أن تكون هذه الامتيازات هي الغايات المُبتغاة،بل خدمة الشَّعب يجب أن تكون هي الغاية، لا خدمة الذَّات.

إنَّني لم أتصرَّف قطُّ في حياتي وفقَ هذا التَّصوُّر الشَّخصانيِّ. والدَّليل على ذلك أنَّني كنتُ دائماً مُستعدَّاً وقادراً على التَّخلِّي عن كلِّ شيء مُتعلِّق بالسُّلطة حين تقتضي الأمور ذلك. أن هذا هو عينُ ما فعلته حينما كنتُ في مواجهة مفتوحة مع عبد الله واد، على الرَّغم مِن أن نهاية المواجهة لم تكن معروفةً ولا ما يحضره المستقبل لي!.

بمجرَّد أن أصبحت التَّصرُّفات السَّائدة في الحزب الَّذي كنتُ أخدمه بحماس، مُخالفةً للضَّمير المهنيِّ وللأخلاق، فإنَّني آثرتُ الالتزام بالمبادئ الخُلُقيَّة الَّتي ورثتُها مِن أسرتي. والَّتي تدعوني إلى أن أُفضِّلَ المستقبل الغامض والحرمان المادِّيَّ على امتيازات السُّلطة الَّتي تُفقدني طمأنينة النَّفس وراحة البال.

إنَّهما لَتصوُّرانِ مُتناقضانِ: التَّعلُّق بالنزعة الماليَّة الطَّاغية والامتيازات الَّتي يمكن أن تُفقِدَ الإنسانَ الحرِّيَّة الجديرة به، أو التَّعلُّق بتَصوُّرٍ خدماتيٍّ شبهِ روحيٍّ للسُّلطة مِن خلال التزامٍ خُلُقيٍّ بَدَهيٍّ.

هذا التَّصوُّر الأخير، هو الَّذي يناسبني بوصفي إنساناً ذا تكوينٍ علميٍّ. إن هذا التَّصوُّر يسمح للإنسان بتحديد الأهداف واتِّخاذ الوسائل المعينة على تحقيقها.

مريم فال زوجة الرئيس ماكي صال

أنا جد محظوظ

أنا جِدُّ محظوظ، لأنَّ قناعتي تساعدني على الالتزام بهذا التَّصوُّر الخدماتيِّ للسُّلطة، مُتمثِّلاً في زوجة هي محلُّ إعجابٍ كبيرٍ في قلبي،ووفيَّة وذات فهمٍ دقيقٍ وذكاءٍ حادٍّ للحقائق وللأوضاع.إنَّها تدفعني، بشدَّة، نحوَ الأمام، وتُحبُّ المُزاح معي، ولكنَّها أكبرُ سندٍ لي في الحياة. إنَّها تُساعدني على القيام بأعباء الحياة مع روح الدُّعابة والسَّعادة الزَّوجيَّة.

بالنِّسبة لزوجتي، مريم، فإنَّ الأسرة فوق جميع الاعتبارات، وهناك قرارٌ عظيمٌ جدَّاً مِن مريم فاي، أجدُ سعادةً عميقة في ذِكره للآخرين، لأنَّه يُشكِّل دليلاً واضحاً ومؤثِّراً على صفاءِ مشاعرها وتعلُّقها الشَّديد بدورِها كزوجة وربَّة أُسرة.وهذا القرار يتعلَّق بابنِنا الأوَّل، الَّذي وُلِدَ في الوقت الَّذي كانت مريم طالبة.

في أحدِ الأيَّام، لمَّا أرادَت مريم الذَّهاب إلى الجامعة للدِّراسة، اضطُرَّت أن تتركَ ابنَنا عند زوجةِ صديقي الراحل السَّيِّد عثمان مسيك نجاي. وأُذكِّرُ بأنَّ بنتنا تحمل اسمَ هذه المرأة.

إنَّ ابننَا لمَّا جِيئ به إلى بيت أصدقائنا، لم يكفَّ عن البكاء، ولم يقبل الطَّعام ولا أيَّ شيء. وكانت هذه المرأة قلقةً من أمره، ولم تجد حيلة. عندئذٍ اضطرَّت إلى الاتِّصال بي، هاتفيَّاً، لإخباري، وأنا في مكتبي بأنَّ الولد يرفض الطَّعام تماماً، وقنَّينة الإرضاع. وذهبتُ إلى بيتِها وأنا قلقٌ جدَّاً. ولمَّا وصلتُ، وجدتُ الطِّفلَ مُستمراً في بكائِه الشَّديد، فأخذتُه وذهبتُ بهِ إلى الجامعة حيث تدرس أُمُّه. دخلنا عليها أثناء الدَّرسِ في الكُلِّيَّة، فأخبرتُها بكلِّ ما حدث للطِّفل. عندَئذٍ أخذَتهُ وبدأت في إرضاعه، وفي الحال سكتَ وكفَّ عن البُكاء، فقلتُ لها: "أظنُّ أنَّه يتعيَّن علينا أن تعودي إلى البيت"،في هذا اليوم أخذَت زوجتي القرارَ الَّذي كنتُ أُشير إليه، وقالت لي: "مِن اليوم، سأهتمُّ بابني".

كان موقفها عظيماً جدَّاً، وخاصَّةً إذا علمنَا أنَّها فضَّلَت تركَ دراستها من أجل ولدِها، في الوقت الَّذي كانَت على وشكِ التَّخرُّج من الجامعة مُهندسةً مثلي تماماً. ولا شكَّ أنَّها كانت ستجدُ عملاً تتألَّق فيه كثيراً.

مريم امرأةٌ عظيمة تلتزم دائماً بدعمي في المجال السِّياسيِّ.

وقعَ القِرَانُ بيننا في سنة 1993، عشنا معاً سبعَ سنواتٍ كشبابٍ من الاطر مع أعباء وتكاليف كثيرة جدَّاً تتعلَّق بالأصدقاء والزُّملاء. وكُنَّا نقضي أمسيات جميلة جدَّاً في استقبال بعضنا بعضاً. مريم كانت دائماً تقوم بمساعي إصلاح ذات البين. فهي تتصرَّف كعالِمة كبيرة لطبيعة النَّفس البشريَّة، وتعرفُ كيف تُزيل الفجوات بين النَّاس، وكيف تتوقَّى إثارة الحساسيَّات وتساهم في حلِّ مشاكل كثيرة جدَّاً. هي تُنسِّقُ كلَّ شيء، لأنَّني لا يتوفَّرُ لديَّ الوقتُ الكافي.

من دونها، ما كنتُ لأنجحَ في القيام بمهمَّتي إلى المستوى الَّذي وصلتُ إليه. مريم عندها الابتسامة وروح الدُّعابة المُشعرتان بتواصلٍ إنسانيٍّ حميميٍّ.

صارم جدًا وأحب "المناكفات الاجتماعية"

أمَّا أنا، فصارمٌ إلى حدٍّ ما. أنا أُحبُّ كثيراً ممارسة ما يُسمَّى عندنا"المناكفات الاجتماعيَّة" مع الَّذين تربطني بهم، تقليديَّاً، هذه المناكفات. إنَّها من تقاليدنا الَّتي تنهي كثيراً من المشاكل في إطار تراشُق وابل من الممازحات الاجتماعيَّة بين بعض الأجناس أو الألقاب أو الأقارب مع بعض آخَر. النَّاس يتمازحون، بصفة ودِّيَّة، وهذا له تأثيرٌ إيجابيٌّ جدَّاً في العلاقات الاجتماعيَّة في السرّاء والضَّرَّاء.

أنا صارمٌ، لكنِّي أسمح لنفسي، في بعض الأحيان، أن أستجمَّ بشيء مِن مثل هذه الدُّعابات، رغم ضغوط الأمور والأعمال العاجلة المتراكمة عليَّ.

الخلاصة هي أنَّني أريد أن أُكرِّرَ إرادتي في تغيير الأمور في بلدي، بصفة عميقة، وأن أُغادر السُّلطةَ في يومٍ ما معَ قناعةٍ مؤكَّدة بأنَّني حقَّقتُ قفزةً في الأمورِ نحو الأمام، وأنجزتُ عدداً من المشاريع الَّتي يراها النَّاسُ جميعاً مُجسَّدة في على أرضِ الواقع، معَ وضعِ المعالم الجيِّدة لِمَن سيأتون بعدي.

أريد أن أؤكِّدَ للجميع بأنَّني ليبيراليٌّ، ولكنِّي أرفض توريط السِّنِغال في ليبيراليَّة مُتطرِّفة. أن إرجاع كلِّ شيء إلى قوانين السُّوق البحتة، لا يُسبِّبُ إلَّا المشاكل. هذا أمرٌ معروف. وتنتج هذه المشاكل من السُّلوك الجشعِ للمحتكرين الرَّأسماليِّين، الأمر الَّذي يُسبِّبُ اختلالاتٍ كثيرة من الَّذين لا يسعون إلَّا لمصالحهم وسياساتهم الجَشِعَة، ولو أدَّى ذلك إلى انفجارِ المجتمع بكامله. إنَّهم نادراً ما يهتمُّون بالعمل لإيجاد مُجتمعٍ أكثرَ قابليَّة لتحقيق العدالة والاستقرار.

ثعلب ودجاجة في قفص واحد

إنَّ إنتاج الثَّروة أمرٌ مُهمٌّ للغاية، لأنَّه بدونه لا يكون هناك أيُّ شيءٍ يُعاد توزيعُه، ومعَ كلِّ هذا، فإنَّه مِن المهمِّ أن تبقى الدَّولة تتدخَّل في بعض القطاعات، لأنَّ الدَّولة لا يمكنها أن تتركَ قوانين السُّوق تتدخَّل وحدَها في كلِّ شيء، وإلَّا سيكون مثل قصَّة الثَّعلب مع الدَّجاجة في قفصٍ واحد.مثل هذا الوضع لن يؤدِّي إلَّا إلى افتراس الدَّجاجة بكلِّ ضراوة.

في المجتمعات النَّامية، كلُّ شيءٍ في طور البناء، وهذا يجعل تدخُّلَ الدَّولة ضروريَّاً في بداية ونهاية كلِّ مسار.

وأوروبَّا لم تشذَّ عن هذه القاعدة، فَبعد خروجِها من الحرب، كان كلُّ شيءٍ بحاجة إلى إعادة البناء. فَلْنتذكَّر الضَّرورة القصوى الدَّاعية إلى إيجاد الخُطط والأعمال الإنشائيَّة الضَّخمة والدُّخول من جديد في عصر الصِّناعة.
من دون القطاع الحُرِّ، فإنَّ التَّدخُّل الكُلِّيَّ للدَّولة في كلِّ شيء سيؤدِّي إلى السِّيادة المهيمنة للنَّزعة البيروقراطيَّة وروح المحافظة، ثمَّ الفشل.

إنَّ تجارب الأنظمة الشُّموليَّة الدِّكتاتوريَّة، دلَّت على أن مآلَها دائماً هو الوقوع في طريق مسدود وخطير.

هذا المفهوم حولَ التَّوازن، كان يُرشدني دائماً في جميع خطواتي. وهو مفهومٌ في علاقة تلازميَّة ومُستمرَّة مع سلوكي الشَّخصيِّ،ومع التَّربية الَّتي تلقَّيتُها من أُسرتي. أن القِيَم الَّتي اكتسبناها منذُ الصِّغر ونشأنا عليها، لا يمكننا أن نتخلَّى عنها فجأةً.

بإمكاننا التَّعرُّض للضُّغوط وحالات الإكراه، ولكن يجب أن نظلَّ مؤمنين بأنفسنا، ومُتعلِّقين بالقِيَم الَّتي صاغَت شخصيَّتَنا في المرحلة الأولى.

إنَّ روحَ النِّضال من أجل التَّقدُّم إلى الأمام، على الرَّغم من الصُّعوبات المادِّيَّة الشَّديدة والكثيرة، ووجود عقبات لا تنتهي، كلُّ ذلك كان يُحفِّزني على الاجتهاد في الدِّراسة والنَّجاح في المدرسة، إلى أن أصبحتُ مُهندساً.

قمتُ بكافَّة التَّكاليف والوسائل اللَّازمة للنَّجاح في مجال تخصُّصي.وأمارس السِّياسةَ بفعل طموحٍ شخصيٍّ، ولكنِّي دخلتُ هذا العالَم حرصاً على القيام بواجبي.

فكرة أن أُصبحَ رئيساً للجمهوريَّة لم تخطر يوماً في بالي. إنني بدأت أُفكِّرُ في أن أصبحَ رئيساً للجمهوريَّة، لمَّا تعرَّضتُ لجهود ومحاولات عنيفة كانت تهدف إلى محوِ وجودي، حين كنتُ رئيساً للجمعيَّة الوطنيَّة العموميَّة. في هذه اللَّحظة، اقتنعتُ أنَّه لا بُدَّ لي أن أُناضلَ، وأنَّ وسيلتي الوحيدة في حياتي هي أن أواصلَ النِّضالَ إلى أقصى الحدود، بالوصول إلى رئاسة الجمهوريَّة.

الرئيس السنغالي ماكي صال وزوجته مريم

ذكريات الماضي وبناء شخصية الانسان

بدأ رجلٌ يستعيدُ ذكريات ماضيه. وكان ذلك عشيَّة انتخابات مهمَّة جدَّاً في السِّنِغال. عند استعادةَ ذكريات هذا الماضي، تراءَت له صورةَ شابٍّ نحيف من جماعة طُلَّابيَّة كانت تُعرَف بـ "عصابة سندرين". ثمَّ تراءت له أيضاً صورة طفل كان يذهب إلى المدرسة مشياً على الأقدام، ثمَّ بعد ذلك، ملامح رجلٍ بصورة رسميَّة، وكذلك صورة رجل سعيد في يوم زواجه.

إنَّ مراحل الحياة كلها تُساهم في بناء شخصيَّة الإنسان.

إن هذا الرَّجل تطوَّرَ في سَيره حتَّى وصلَ إلى منصب كبير، ما كان يحلمُ بالوصولِ إليه. ومع كلِّ هذا، فإنَّه قرَّر أن يبقى مؤمناً ومُلتزماً بما يراه حقَّاً وعدلاً، وأنَّه لن يتنكَّرَ لمبادئه، وأنَّ القِيَم الَّتي عاشَ عليها شابَّاً ولا يزال يعيش عليها، لن تقبل ذلك ولن تسمحَ به!.

خاتِمة

في الصَّفحات الأخيرة مِن هذا الكتاب الَّذي أبديتُ فيه للجمهور قناعاتي وأهدافي المتعلِّقة بالسِّنِغال الَّذي أكنُّ له كلَّ محبَّةٍ في قلبي، مع نيَّةٍ كاملةٍ لخدمته، أريد أن أتوجَّه إلى أعزَّائي المواطنين لأقولَ لهم ما يلي:

إنَّكم انتخبتموني في يناير 2012 على أساس إيمانِكم بالالتزامات الَّتي ذكرتُها وأكدُّتها أمامَكم، وأنا مِن جهتي، بذلتُ قصارى جهدي خلال فترتي الرِّئاسيَّة الَّتي أوشكَت على النِّهاية، لتحقيق وإنجازِ أهمِّ الوعود الَّتي ذكرتُها في خطَّة"يونو يوكوتي", والَّتي بيَّنْتُها أيضاً في خطَّة السِّنِغال النَّاهض. إن هذه الأمور قمتُ بها بكلِّ قناعةٍ ذاتيَّة.

وها أنا اليوم أمامَكم مِن جديد، لأطلُبَ انتخابَكم لي لفترةِ ولايةٍ ثانية وأخيرة.

كونوا على ثقةٍ تامَّةٍ بأنَّني أُقدِّرُ ثقلَ التَّاريخ وثقلَ مُهمَّتي حقَّ قدرِهما، كونُوا أيضاً على ثقةٍ بأنَّني أُدرك ضخامةَ واجباتي تجاهَكم وتجاهَ الأجيال المقبلة. هذه الأشياء أُدركها اليوم أكثر مِمَّا كنتُ أدركُها بالأمس. اسمحوا لي أن أقولَ لكم بأنَّ الطَّريق الَّذي قطعناه معاً منذ 2012، لم يكن طريقاً سهلاً، إذا أخذنا بعينِ الاعتبارِ الميراثَ الثَّقيل الَّذي وجدنا الأمورَ عليه في الواقع. وعلى الرَّغم من كلِّ هذه الصُّعوبات الَّتي وجدناها، فإنَّ الطَّريق قد تكلَّلَ بنجاحاتٍ جميلة ومُهمَّة.

لا تظنُّوا أبداً أنَّني أُعلن، هنا، أنَّني راضٍ عن نفسي، أو أنَّني جئتُ إليكم مع بسمةٍ عريضةٍ مُرتسمة على شفتي، إنَّكم تعرفونَني جيِّداً، وإنَّكم لن تتفاجؤوا إذا قلتُ لكم بأنَّني أريد عملَ المزيد للسِّنِغاليِّين. وأنا أؤكِّدُ لكم وأطمئنكُم على أن تحقيق هذا المزيد مُمكِنٌ جدَّاً، وقدَّمنا لكم البراهينَ الَّتي تدلُّ على أن مثل هذا الأمر في حيِّز الإمكان. خلال هذه السَّنوات السَّبع الَّتي وضعتموني على سُدَّة الحُكم باسمِكُم،تعلَّمتُ كثيراً حولَ كيفيَّة مُمارسة السُّلطة وأسلوب الحُكم.

الأمرُ الَّذي يهمُّني الآن هو لفتُ انتباهِكم لكي تُحوِّلُوا أنظارَكم من جديد إليَّ، رجالاً ونساءً وشباباً وشِيبة، كما تعوَّدتُ ذلك منكم. إنَّني كنتُ أجدُ لديكم آذاناً صاغيةً وعيوناً ناظرةً تعكسُ آمالَكم وثقتَكم فيَّ، وطيب قلوبِكم تجاهي. إنَّكم تُشكِّلونَ جميعُكم قوَّةَ بلدنا. خلال ولايتي الثَّانية، سنهتمُّ كثيراً, وبكلِّ إخلاص، بإكمالِ ما سبق أن بدأناه. ويأتي في الدَّرجة الأولى مِن ضمن ما بدأناه: بناءُ وحدات سكنيَّة لائقة لأكبر عددٍ مُمكن من السِّنِغاليِّين.

في الدَّرجة الثَّانية، نسعى لتحقيقِ مزيدٍ مِن الجودة فيما يتعلَّق بزراعتنا من أجل تحقيق اكتفاءٍ ذاتيٍّ في المجالِ الغذائيِّ. وفي الدَّرجة الثَّالثة، سنسعى لتوسيعِ تغطية الصِّحَّة الشَّاملة، وتوفيرِ وسائل العلاج في أبعد القُرَى السِّنِغاليَّة، وفي الدَّرجة الرّابعة، سنقوم بدفعِ عجلةِ التَّربية إلى الأمام،وتكوين أكبرِ عددٍ مُمكن من الأطبَّاء والمهندسين والمُختصِّين في مجال الأجهزة الذَّكيَّة الاصطناعيَّة الَّتي من شأنها أن تدخلَ بلدَنا في طور الاقتصادِ الرَّقميِّ.

كما ترون أيُّها المواطنون الأعزَّاء، فإنَّ ما أعرضُه عليكم، يدخل في إطار مُتابعة جهودِنا للوصول إلى شراكة لتحقيق الأهداف الَّتي حدَّدناها معاً، والمُتمثِّلة في:

  1. السَّكن، الَّذي بدونه لا تكون حياة الإنسان طبيعيَّة.
  2. الزِّراعة، الَّتي تُمكِّن الجميع من الحصول على تغذية جيِّدة.
  3. الصِّحّة، الَّتي بدونها لن يتمتَّع أحد بالسَّعادة.
  4. التَّربية والتَّوظيف، لِئلَّا يكون أحدٌ عبداً لأحد.

أَوَلم أقلْ لكم بأنَّ النَّجاح في السِّياسة يكمنُ، في الدَّرجة الأولى، بوجود رجالٍ ونساء مِن أمثالكم.

بعد أن قمتُ بزيارةٍ في مختلف مناطق كاسمانس الجميلة والمضيافة في نهاية شهر أكتوبر 2018، توفَّرَت لديَّ أسبابٌ إضافيَّة تدعم أملي ورجائي لرجوع الأمنِ إلى هذه المنطقة. إن هذا الرُّجوع يتمُّ بصفة مُتدرِّجة ومؤكَّدة بفضلِ جهود مشتركة لجميع العاملين. وإنَّ هذا الأمر سمحَ لنا أن نبدأ الآنَ أعمال بناء إنشائيَّة من أجل فكِّ العزلة ودعمِ التَّنمية في هذه المنطقة الغالية على قلوب السِّنِغاليِّين. أن اسمَ "كاسمانس"، هو الَّذي أطلقناه على إحدى طائرات إيرباص320 نيو، التابعة شركة طيراننا الجديدة" إيرسنغال".

إنَّ التَّنمية هي الاسم الآخَر للسَّلام كما عبَّر عن ذلك صاحب القداسة البابا يوحنَّا السَّادس.

أريد أن أختتمَ بعبارات رجلٍ حكيمٍ جدَّاً سمعتها عام 2011 خلال إحدى زياراتي في أعماق السِّنِغال.إن هذا الرَّجل بعد أن وضع يديه الحانيتين على منكبي ونظر إليَّ نظرةً عميقة، رفعَ صوتَه و قال لي"اسمعني جيِّداً يا ابني، إنَّك تريدُ أن تصبحَ رئيساً للسِّنِغال. هذا شيءٌ مهمٌّ،ولكن اِعلَمْ جيِّداً بأنَّ السِّياسة لا تقتصر على كلامٍ جميل ومُزوَّق يُلقَى في دكَّار أو في بعض المدن الكبيرة في البلد. إنَّكم إذا كنتم تريدون أن تُعطوا لكلمةِ السِّياسة معانيها اللَّائقة بها، لا بُدَّ أن تكون لكم نظرة مُنتبهة إلى عالَم الرِّيف، وإلى المناطق النَّائية في البلد".

إنَّ السِّياسة الحقيقيَّة والصَّحيحة تكمنُ في أن نعملَ كلَّ يومٍ، حتَّى يشعرَ الجميع، رجالاً ونساءً، بأنَّهم موضعُ اهتمامنا الكبير ونظرتنا المنتبهة إليهم وإلى أُسرِهم, وإلى تطلُّعاتهم نحوَ حياةٍ أفضل.

بعد تلك الكلمات، ودَّعَني الشَّيخُ الحكيم، ودعا لي وللسِّنِغال.

وبعدَ سبع سنوات في سُدَّةِ الحُكم، لا أزال أتذكَّر هذا الرَّجل وأُفكِّرُ في كلماته الَّتي عبَّر بها نيابةً عن ملايين السِّنِغاليِّين.

كلَّما فكَّرتُ في كلماتِ هذا الرَّجل، أضعُ نُصبَ عيني بعضَ المشاريع الاجتماعيَّة الَّتي قمتُ بها مثل البرنامج العاجل لتنميةِ المجتمعات المحلِّيَّة، وكذلك البرنامج العاجل لتحديث الطُّرق المحوريَّة والمناطق في الحدود، وكذلك المنح الأُسريَّة، بالإضافة إلى تغطية الصِّحَّة الشَّاملة.

لن أنسى أبداً هذه الكلمات، وتلك النَّظرةَ الوقور المليئة بالأمل، الَّتي نظرَ بها إليَّ هذا الشَّيخ الحكيم.