بينما أصبحت احتفالات عيد الميلاد ذكريات بالنسبة للكثيرين، أقام الأرمن احتفالاتهم السنوية بهذه المناسبة في القدس في 19 يناير/ كانون الثاني الجاري.
كانت أجواء الحرب في غزة والتهديد الوجودي الذي تواجهه هذه الجالية في إسرائيل – بسبب صفقة عقارية أثارت الكثير من الجدل في الفترة الأخيرة – لتلقي بظلال ثقيلة على المنطقة لتتوارى خلفها فرحة هذه الاحتفالات.
أمضى عدد كبير من أرمن القدس احتفالات عيد الميلاد في اعتصام داخل خيمة في موقف سيارات كنيستهم، الذي يُعد جزءاً من قطعة أرض كبيرة معرضة للخطر في الحي الأرمني في القدس داخل أسوار المدينة القديمة.
وقال سيتراغ باليان، وهو صانع خزف تحول إلى ناشط: "إن صفقة الأرض الغادرة غير القانونية هذه هي التي جمعتنا هنا في الواقع".
ويرجع تاريخ الوجود الأرمني في المدينة المقدسة إلى القرن الرابع الميلادي. ويعيش العديد من أفراد هذه الجالية - البالغ عددهم 2000 فرداَ – داخل المجمع الكبير المرصوف بالحصى في دير سان جيمس.
وكان أرمن القدس يعانون الكثير من الانقسام بسبب الخلافات السياسية والنزاعات العائلية، كما كانت هناك أيضا انقسامات بين الأرمن المقدسيين وقادة كنيستهم الذين يمتلكون أعمالا وعقارات في ذلك الحي.
رغم ذلك، يقيم الأرمن وقساوسة كنيستهم منذ شهرين في خيمة كبيرة غير مجهزة طوال الوقت في محاولة لعرقلة عملية التطوير في المنطقة. فهم يأكلون هنا ويعملون في نوبات حراسة خلف حاجز مؤقت مزين بالأعلام الأرمنية.
وقال المعتصمون هنا إنهم تمكنوا معًا من صد هجمات شنها مقاولون بالجرافات ومستوطنون مسلحون و"بلطجية" ملثمون عليهم.
يقول باليان: "كل شيء أصبح عرضة للخطر في هذه الصفقة"، محذرا: "من يريد أن يسلب حقوقنا ويعرض وجودنا وحياتنا هنا للخطر سنقف في وجهه وندافع عن حقوقنا حتى النهاية".
وفي أبريل/ نيسان الماضي، بدأت تظهر على السطح حقائق حول عقد أُبرم في 2021 موقّع سرا بين البطريرك الأرمني ومطور يهودي أسترالي إسرائيلي، وهي الصفقة التي حصلت بموجبها شركة "زانا غاردنز" – التي أُسست منذ فترة وجيزة – على حق إيجار لمدة 98 سنة لبناء وتشغيل فندق فخم في المنطقة المعروفة باسم "كاوز غاردن".
وتشمل هذه الصفقة قطعة أرض مساحتها 11500 متراً مربعاً متاخمة لأسوار الركن الجنوبي الغربي من المدينة القديمة مع إمكانية الاستيلاء على مساحة أكبر من الأراضي .
كما تتضمن أيضا موقف السيارات، وبعض المباني التابعة للكنيسة ومنازل خمس أسر أرمنية، وهو ما يُقدر بحوالي 25 في المئة من الحي الأرمني في القدس.
وتقع الأراضي التي تشملها الصفقة على جبل صهيون، وتتمتع بأهمية دينية كبيرة علاوة على قيمة مالية مذهلة كعقارات، لكن المطور سوف يدفع 300 ألف دولار سنويا فقط نظير إيجارها.
علق أحد الأرمن طلب عدم ذكر اسمه، على هذه الصفقة، قائلا: "بهذا المبلغ، بالكاد يمكنك استئجار محلين لبيع الفلافل في البلدة القديمة".
ووسط احتجاجات متصاعدة من قبل السكان المحليين وقرار الأردن والسلطة الفلسطينية بسحب اعترافهما بالبطريرك بسبب دوره في الصفقة، تتزايد الضغوط التي تواجهها الكنيسة لإلغاء العقد.
في غضون ذلك، قَدِمَ فريق دولي من المحامين الأرمن للتحقيق في الأمر وتقديم الاستشارات القانونية اللازمة.
وقال البطريرك إنه "تعرض للخداع" من قبل قس موثوق تم عزله فيما بعد. وأعلن أخيراً عن تحرك رسمي لإلغاء الصفقة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وشهدت تلك المرحلة تحول التوترات بين الأرمن وممثلي الشركة المطورة - التي استولى عمالها على موقف السيارات بالقوة – إلى مواجهات مباشرة.
وعندما وصلت الجرافات الإسرائيلية إلى الموقع المتنازع عليه لمحاولة بدء الهدم، سارع الأرمن إلى منعها. وفي الشهر التالي، كانت هناك مزاعم عن تعرض المطور للترهيب عندما وصل المطور ومعه عدد من المسلحين إلى الموقع.
كما شهدت المنطقة محاولات أخرى للاقتحام بعد نصب خيمة الاحتجاج. كما تصاعدت أعمال العنف إلى ذروتها الشهر الماضي عندما اقتحم ملثمون موقف السيارات وضربوا الموجودين بالهراوات علاوة على إطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع. وبث القس ديران هاغوبيان تلك الأحداث مباشرة عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.
وقال هاغوبيان لبي بي سي في وقت لاحق: "كانوا يصرخون: عليك أن تخرج من هذه الأرض"، مضيفا: "كان أحد قادتهم يصرخ: "اكسروا أرجلهم، أو حتى اقتلوهم، لكن يجب عليهم المغادرة".
وأدى التورط الواضح لمستوطنين يهود معروفين في الهجمات إلى جانب أدلة أخرى إلى زيادة الشكوك القائمة منذ فترة طويلة حول تورط منظمة استيطانية قوية في محاولة الاستيلاء على هذه الأراضي.
ومنذ أن استولت إسرائيل على البلدة القديمة وأماكنها المقدسة من الأردن في حرب عام 1967، يسعى مستثمرون يهود داخل إسرائيل وخارجها إلى شراء العقارات في محاولة لتعزيز السيطرة الإسرائيلية على القدس الشرقية المحتلة.
ويريد الفلسطينيون أن يكون هذا الجزء من المدينة عاصمة لدولتهم المستقبلية، بينما يرى اليهود الإسرائيليون أن المدينة بأكملها هي عاصمتهم الأبدية التي لا يشاركهم فيها أحد.
ويشعر الباحثون في منظمة "عير عميم" الإسرائيلية غير الربحية، التي تركز على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وتدعم التنوع في القدس، بالقلق إزاء التطورات في الحي الأرمني.
وقال الباحث في المنظمة أفيف تاتارسكي: "هذا قريب من الأماكن الحساسة. وإنشاء مستوطنة في هذه المنطقة يأتي في إطار أهداف أوسع تتبناها المنظمات الاستيطانية التي تستهدف تهويد البلدة القديمة بالكامل وتضع أعينها على جبل الهيكل أو المسجد الأقصى".
وتعتبر المستوطنات المبنية في الأراضي المحتلة غير قانونية بموجب القانون الدولي رغم عدم اعتراف إسرائيل بذلك.
وحاولت بي بي سي التواصل مع شركة التطوير العقاري "زانا غاردنز" عدة مرات، لكنها لم تتلق ردا على اتصالاتها.
وكان القس الأمريكي الذي نسق لهذه الصفقة باريت يرتسيان، الذي عُزل إثر هذا الدور، محاطًا بحشد من الشباب الأرمن الغاضبين الذين كانوا يهتفون "خائن" أثناء خروجه من دير سان جيمس العام الماضي بمساعدة الشرطة الإسرائيلية قبل أن ينتقل إلى جنوب كاليفورنيا.
ونفى يرتسيان، أثناء تصريحات أدلى بها لوسائل إعلام في ذلك الوقت، أن يكون لدى المطور أي أجندة سياسية أو أيديولوجية، واصفا تلك الاتهامات بأنها "دعاية" تستند إلى الهوية اليهودية للشركة.
وبدأت الكنيسة الأرمنية إجراءات التقاضي أمام المحاكم الإسرائيلية للطعن في قانونية صفقة "كاوز غاردن".
وبينما تجمع السكان المحليون حول شجرة عيد الميلاد التي تضيء المكان في خيمتهم المؤقتة الأسبوع الماضي، ظهرت عليهم علامات الصمود رغم أنهم يدركون أن المعركة القانونية قد تستغرق سنوات طويلة.
التعليقات