رجل يرتدي حلة بيضاء يرمي مرجل الأولمبياد بسهم ملتهب، بينما يرتفع صوت موسيقى ملحمية.
لا وجود للهواتف الذكية البراقة وسط الجمهور. الطريقة الوحيدة التي يمكنك أن تشاهد بها هذه اللحظات هي على شاشة التلفزيون أو أن تحضر بنفسك إلى هنا.
امتلأ الملعب بأكثر من 60 ألفا من الجماهير، التي حضرت لمشاهدة حفل افتتاح الألعاب الأولمبية في برشلونة عام 1992. وساد الصمت التام في المكان.
يروي أنطونيو ريبولو عن اللحظة، التي أشعل فيها المرجل الأولمبي قبل 32 عاما، فيقول: "أتذكر عندما رفعت السهم الملتهب، والرمية، ثم الفرحة العارمة التي انفجرت في الملعب".
ويقول الرامي الإسباني في حديث لبي بي سي، إنه كان واحدا من اثنين وقع عليهما الاختيار لأداء تلك العملية التاريخية، وإن الاختيار وقع عليه قبل ساعة واحدة من انطلاق الحفل.
وأعيد نشر الصور التي يظهر فيها وهو يشعل المرجل الأولمبي على مواقع التواصل الاجتماعي، عقب حفل افتتاح أولمبياد باريس 2024، وشاهدها الملايين عبر العالم.
ويقول الحائز على الميدالية في الفضية في الألعاب البارالمبية إنه "لم يشعر بأي خوف من الإخفاق أمام المشجعين وملايين المشاهدين الذين كانوا يتابعون الحدث على شاشة التلفزيون في العالم.
ويبلغ أنطونيو من العمر اليوم 69 عاما. ومثل المنتخب الإسباني في الألعاب الأولمبية والبارالمبية في منافسة الرماية بالقوس. ويعيش حاليا في مدريد، ويعمل نجارا في القوات الجوية الإسبانية.
التغلب على الصعاب
أصيب ريبولو بشلل الأطفال عندما كان عمره 8 أشهر. وكان عليه أن جهازا حديديا في أحد ساقيه ليتمكن من المشي.
ولكن هذا لم يمنعه من ممارسة الرياضة.
وعندما بلغ من العمر 8 أعوام، اشترى أول كتاب في الجمباز.
وتعلم التمرينات التي تساعد على تقوية الساقين، وبمرور الوقت بدأ يخطو خطوات صغيرة دون حاجة إلى اللوحات المعدنية.
"عدندما حققت ذلك، بدأت أمارس السباحة، ثم الملاكمة والجودو. وتسلق الجبال، وتدربت على رفع الأثقال أيضا".
وقال إن شغفه بالرماية بدأ بعدما صنع قوسا لنفسه، مستعملا عصا وحبلا. وشرع في الرماية دون أن يعلم بوجود هذه الرياضة.
ولكنه تعرف على رياضة الرماية عن طريق صديق له عندما كان عمره 20 عاما.
وذهب ريبولو بعدها إلى الاتحاد الإسباني للرماية يطلب المساعدة. وتعرف هناك على فنيات الرماية والتجهيزات المطلوبة ليصبح الرياضي محترفا.
أولمبياد برشلونة
وعندما طلب منظمو الحفل من ريبولو ورماة آخرين دخول مسابقة للمشاركة في الافتتاح، لم يصدق نفسه.
"في كل مراسين الافتتاح، تعود الناس على مشاهدة رياضيين يتميزون بالقوة والوسامة والطول، وغيرها من السمات الجسمية".
"لم أصدق أنهم سيطلبون من رجل من ذوي الاحتياجات الخاصة مثلي أن يشارك في المسابقة".
وبعدها ذهب إلى برشلونة لإجراء الاختبارات.
ويذكر ريبولو أن "مئات الرماة كانوا هناك. يرمون هدفا على مسافة 100 متر وعلى ارتفاع 50 مترا".
وبعدما جرب الجميع حظوظهم، جاء دور ريبولو.
"تقدمت إلى السهم، وأصبت الهدف في المرة الأولى".
"وطلبوا مني رمي هدف آخر، فأصبته أيضا".
التحضيرات
ويقول ريبولو إنه أجرى تحضيرات تسمح له بتحمل الضغط، لأنه سيكون في مركز حفل الافتتاح. وتعرف على ما ينتظره في الحفل، وهناك استعراضات أخرى إلى جانب الرمي بالسهم، سيكون معه مغنون وعارضون وراقصون ومصورون.
ويقول الرامي إنه حاول ألا ينشغل بكل هذه الأمور، ويركز على الرماية وإصابة الهدف. وأضاف أنه لم يحدث أن تابعه جمهور بهذه الحجم من قبل.
"لم أكن أعرف إذا كنت سأتحمل الضغط، أو أتعرض للإغماء، أو أنني سأسدد السهم باتجاه الجمهور".
اللحظة الحاسمة
يخرج أسطوة كرة السلة الإسباني، خوان أنطونيو سان أبيفانيو، آخر حملة الشعلة الأولمبية، من بين مجموعة من الرياضيين في الملعب ليصل إلى المنصة حيث كان الرامي البارالمبي في انتظاهره.
يشعل ريبولو سهمه، ويسدد. والبقية يعرفها الجميع.
ولم يوقظه من الشرود إلا هدير الجماهير في الملعب.
"لقد تأثرت بذلك فعلا، وفدقت تركيزي". وتوجه إلى أبيفانيو بالقول: "لقد أنجزنا المهمة، وثم عمت المكان فرحة عارمة".
وعندما نشاهد الصور، يعتقد البعض أن ريبولو أصاب المرجل. ولكن الواقع أنه أصاب المنطقة الدقيقة التي في أعلاه، من أجل إضرام الغازات التي تشعل النار.
وفي تلك الفترة كان التلفزيون الأرضي، وبدل أن يطلب الجمهور أخذ صور سيلفي معه، أو يكتب عن تجربته على إنستاغرام، كان ريبولو يتنقل من محطة تلفزيونية إلى أخرى لإجراء حوارات مع الصحفيين.
الرد
وبعد أيام قليلة بدأ ريبولو يستمتع بإنجازه، عندما كان الناس يحيونه في شوارع برشلونة.
عن ذلك يقول: "كان الأمر صادما بالنسبة لي، لأنني تخصصي النجارة".
ولكن ريبولو لم يكن يبحث عن الشهرة. ففي منتصف التسعينات توقف نهائيا عن التدريب على الرماية الاحترافية.
يقول: "بعد الأولمبياد هناك من كسبوا أموالا كثيرة وتغيروا، وبالنسبة لحسن أو سوء الحظ هذا لم يحدث. كان علي أن أواصل العمل في مهنتي لكسب قوتي".
ولا يزال يعمل رببولو مثلما بدأ عندما كان عمره 14 عاما. يقول أنه لا يرى التقاعد قريبا.
ويرى أن "التغيرات التي حدثت في مدينتي مدريد والظروف في العالم لا تسمح بأن يتقاعد الإنسان فعلا ويستريح".
ولكن افتتاح أولمبياد برشلونة 1992، لا يزال، من أهم اللحظات في تاريخ الألعاب الأولمبية.
"لم أعد أعطيها أهمية كبيرة، ولكنني أعرف أنها لحظة باقية في تاريخ إسبانيا وتاريخ الألعاب الأولمبية".
نصيحة
ريبولو مقبل على سن السبعين.
وعنده نصيحة يقدمها للأجيال التي ستشاهد صوره مستقبلا. ويقول إن الشباب عليهم أن يتعلموا التضحية، والعمل الدؤوب، وأن يكافحوا من أجل صحتهم وصحة من حولهم، الجسدية والنفسية.
"ومثلما نقول في إسبانيا، لا ينبغي أن تستلم أبدا. عليك أن تكافح إلى آخر قطرة دم".
التعليقات