بات صوت الخلافات أعلى من صوت الحوار في ليبيا خلال الأسبوعين الأخيرين مما ينذر بعودة الأوضاع السياسية إلى المربع صفر، خاصة مع نشوب معارك بين جماعات مسلحة في غرب البلاد تزامنت مع تحركات عسكرية غير مفهومة لقوات شرق ليبيا.
لكن محللَين تحدثا لبي بي سي استبعدا أن تعود الحرب بشكلها المعروف في ليبيا كقتال بين الغرب والشرق كما حدث منذ ثلاث سنوات قبل اتفاق جنيف، لأنه في رأيهما الظروف تغيرت على مستوى وعي المواطنين الليبيين، وأيضا شكل العلاقات بين القوى التي تتشارك المصالح في هذا البلد الذي أنهكته الصراعات خلال أكثر من عقد من الزمن.
ما سبب تصاعد الخلافات السياسية مرة أخرى؟
كانت ليبيا قد شهدت في الفترة من أبريل نيسان 2019 حتى يونيو حزيران 2020، محاولات مستميتة من جانب قوات شرق ليبيا التي يقودها خليفة حفتر للسيطرة على طرابلس، لكنه فشل بعد معارك عنيفة. وبعد وقف إطلاق النار، وقع اتفاق عام 2021 في جنيف برعاية الأمم المتحدة، تأسست على إثره هيئات موقتة لإدارة شؤون البلاد.
وتضمن اتفاق جنيف تولي سلطة تنفيذية وهي حكومة الوحدة الوطنية والمجلس الرئاسي التحضير لانتخابات رئاسية وتشريعية في ديسمبر كانون الأول 2021، لكنها تأجلت لأجل غير مسمى بسبب تجدد الخلاف السياسي وتوترات أمنية.
ورغم اجتماعات متعددة بين برلمانيين وممثلين للمجلس الرئاسي وعسكريين للاتفاق على خارطة طريق لإجراء الانتخابات فإنها تصطدم بواقع عدم وجود إرادة على الأرض لتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، وتزداد رقعة الانقسامات.
يقول عبد العزيز غنية، الباحث الليبي في المركز الأفروأسيوي للدراسات الإستراتيجية بلندن، لبي بي سي إن المشهد في ليبيا منذ أكثر من 10 سنوات أصبح "ينقسم انقساما عموديا نتيجة الأنانية السياسية للكثير من الأطراف، والآن تعمق الانقسام وأصبح بين الحكومتين في الغرب والشرق ومجلس الدولة ومجلس النواب، وتعددت المجموعات التي تمتلك السلاح".
فيما قال حسين السويعدي منسق ملتقى الحوار العربي الليبي لبي بي سي إن "سبب تصاعد الموقف وازدياد الخلافات السياسية مؤخرا هو التغير في المشهد الذي حدث في رئاسة المجلس الأعلى للدولة بعد انتخاب خالد المشري رئيسا للمجلس مرة أخرى، وهو على خلاف مع عبد الحميد الدبيبة وبالفعل تحرك مجلس النواب نحو سحب الثقة من حكومة الدبيبة والشروع في اختيار حكومة أخرى.
ماذا حدث في انتخابات المجلس الأعلى للدولة وفاقم الصراع؟
شهدت ليبيا منذ بداية الشهر الجاري أزمة تتعلق برئاسة المجلس الأعلى للدولة حيث تم إعلان فوز خالد المشري بمقعد رئيس المجلس متفوقا على رئيس المجلس الحالي محمد تكالة في الانتخابات التي جرت يوم السادس من أغسطس آب الجاري، ولكن تكالة يرفض النتيجة وأعلن أنه سيلجأ للقضاء بسبب الخلاف على صحة أو بطلان ورقة تصويت مدون عليها اسم تكالة من الخلف وأبطلتها اللجنة القانونية للمجلس.
والمجلس الأعلى للدولة هيئة استشارية، ويشترك مع مجلس النواب في عدة صلاحيات، من بينها اختيار رئيس الحكومة وتقديم الملاحظات على الميزانية المقترحة واختيار المناصب السيادية.
وتجري انتخابات داخلية بين أعضاء المجلس الأعلى للدولة كل عام وفق اللائحة الداخلية لاختيار رئيس المجلس، فاز فيها تكالة على المشري العام الماضي لأول مرة منذ شغل المشري للمنصب عام 2018.
وعن ذلك يقول السويعدي إنه بمجرد فوز المشري مرة أخرى بدأت التنسيقات والتحركات مع مجلس النواب من أجل التخلص من حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس لصالح الحكومة التي يؤيدها البرلمان في الشرق وهو ما ألهب الأوضاع السياسية بشكل أكبر.
وفي ليبيا تتصارع حكومتان على السلطة، الأولى حكومة الوحدة التي تشكلت بموجب اتفاق جنيف والمعترف بها أمميا برئاسة الدبيبة ومقرها طرابلس وتدير منها غرب البلاد، والثانية حكومة أسامة حماد التي كلفها مجلس النواب ومقرها مدينة بنغازي وتدير شرق البلاد ومدنا بالجنوب الذي تسيطر عليه قوات المشير خليفة حفتر.
سحب الثقة أم إضفاء للشرعية؟
بمجرد التغير السياسي الذي حدث في رئاسة المجلس الأعلى للدولة، اجتمع مجلس النواب الليبي في طبرق شرقي البلاد وقرر سحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس وإعادة صلاحيات القائد الأعلى للجيش إلى رئيس المجلس عقيلة صالح.
جاء ذلك بعد يوم واحد من إصدار الخارجية بحكومة الوحدة الوطنية بيان الاثنين الماضي أعلنت فيه رفضها استقبال مصر لما وصفته بـ"أجسام موازية لا تحظى بأي اعتراف دولي"، في إشارة إلى اللقاء الذي جرى في مدينة العلمين الساحلية المصرية، الأحد، بين رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي وأسامة حماد رئيس حكومة الشرق الليبي، وضم اللقاء بلقاسم حفتر مدير عام صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا، وحاتم العريبي، رئيس لجنة الإعمار والاستقرار، بالحكومة الليبية شرق.
وقام مجلس النواب الليبي في طبرق بخطوة سحب الثقة على الرغم من أنه هذا المجلس ذاته لا يعترف بحكومة الدبيبة ويراها منتهية الولاية ولذلك كلف حكومة أسامة حماد بدلا منها.
ويرى الباحث غنية أن خطوة البرلمان الليبي "غير مفهومة" فإذا كان قد سحب الثقة من حكومة الدبيبة منذ ديسمبر كانون الأول عام 2021 وكلف حكومة حماد بدلا منها، فإن اجتماعه الأخير لسحب الثقة مرة أخرى لا يعني إلا أنه يعترف بشرعية ما اتخذته حكومة الدبيبة من قرارات خلال الفترة الماضية.
حكومة الدبيبة من جانبها ردت على خطوة البرلمان الأخيرة بأنها تستمد شرعيتها من الاتفاق السياسي الليبي، "وتلتزم بمخرجاته التي نصت على أن تُنهي الحكومة مهامها بإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وتنهي المرحلة الانتقالية"، في إشارة إلى اتفاق جنيف.
لكن عقيلة صالح رئيس مجلس النواب طالب بضرورة إعادة النظر في اتفاق جنيف للمرحلة التمهيدية، قائلا إنه "لم يُضَّمن في الإعلان الدستوري الذي يعدّ السند لكل السلطات"، وهو الأمر الذي اعتبره المراقبون تهديدا لاتفاق جنيف نفسه الذي كان يتحاور الليبيون بشأن تنفيذ ما تضمنه.
ماذا عن المشهد العسكري والجماعات المسلحة؟
بعد فترة من الهدوء الحذر دامت لقرابة ثلاث سنوات عادت الاشتباكات مرة أخرى في ليبيا وكان لافتا هذه المرة ما حدث من معارك مسلحة بين كتائب تتبع حكومة الوحدة الوطنية وذلك يوم التاسع من أغسطس/آب الجاري، بمنطقة تاجوراء شرقي العاصمة طرابلس، وأسفرت عن مقتل تسعة أشخاص.
ونقلت وسائل إعلام محلية عن مصادر أن تلك المعارك التي لم تتضح دوافعها انتهت بفضل تدخل فصيل عسكري ثالث قام بدور الوسائطة بين الفصيلين المتقاتلين، فيما التزمت حكومة الوحدة الوطنية الصمت حيال ذلك.
ويوم 11 من الشهر نفسه، طوق مسلحون مبنى تابعا لمصرف ليبيا المركزي في طرابلس لطرد محافظ البنك، حسب ما ذكرته وسائل إعلام محلية، قبل أن يتم تفريقهم.
ويتعرض محافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير لانتقادات من أنصار حكومة الدبيبة بسبب إدارته للميزانية والثروة النفطية في هذا البلد الغني بالنفط.
ومؤخرا اتفق المصرف المركزي مع البرلمان على اعتماد ميزانية قيمتها 160 مليار دينار ليبي نصفها لحكومة الدبيبة ونصفها لحكومة حماد وهو ما يعترض عليه الدبيبة ويرى أن حكومته هي الشرعية الوحيدة بالبلاد.
حصار المصرف المركزي دفع المبعوث الأمريكي الخاص إلى ليبيا السفير ريتشارد نورلاند، للإعلان في بيان أن "محاولة استبدال قيادة مصرف ليبيا المركزي بالقوة يمكن أن تؤدي إلى فقدان ليبيا القدرة على الوصول إلى الأسواق المالية الدولية".
وأضاف نورلاند أن "ظهور مجموعة أخرى من المواجهات بين الجماعات المسلحة في الأيام الأخيرة يسلط الضوء على المخاطر المستمرة التي يفرضها الجمود السياسي في ليبيا".
حسين السويعدي، منسق ملتقى الحوار العربي الليبي، قال إن "مسألة المناوشات والمعارك التي تحدث هي أمر مستمر طوال الوقت لأن الوضع في ليبيا وخاصة في الغرب عبارة عن مجموعة مليشيات ليس لها قيادة واحدة، وكل مجموعة تسيطر على منطقة بكل مؤسساتها وحينما تدخل مجموعة على منطقة مجموعة أخرى يحدث الاشتباك".
واتفق معه عبد العزيز غنية في أن "الانقسام وصل حتى بين أعضاء الطرف الواحد، فالسلطات في الغرب الليبي منقسمة فيما بينها حول من له السيطرة على مصرف ليبيا المركزي، وكذلك في الشرق هناك خلافات بين قوات الجيش أو المليشيات فيما يتعلق بحقول النفط".
وكل فترة تظهر على السطح أزمة أمنية في ليبيا التي تعاني من انقسام سياسي متواصل منذ عام 2022.
ما سر تحركات قوات حفتر نحو الغرب وهل يتطور الأمر إلى حرب؟
تزامن مع التوترات السياسية الأيام الماضية تحركات لقوات موالية لحفتر نحو جنوب غرب البلاد الخاضع لحكومة طرابلس، مما زاد من القلق الدولي نحو احتمالية تطور الأمر لحرب مرة أخرى.
هذا دفع سفارات فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة لإصدار بيان مشترك تضمن الدعوة إلى "أقصى درجات ضبط النفس" بعد تلك التحركات.
من جانبها ناشدت البعثة الأممية لليبيا "الأطراف الليبية كافة لتبني الحوار والتوصل إلى حلول وسط على نحو يصب في مصلحة جميع الليبيين".
وأصدرت بعثة الأمم المتحدة لليبيا بيانا تضمن أن "البعثة تتابع بقلق الاجراءات الأحادية الأخيرة من جانب أطراف ومؤسسات ليبية سياسية وفاعلة في شرق البلاد وغربها وجنوبها بشكل يؤدي لتصعيد التوتر وتقويض الثقة والإمعان في الانقسام المؤسسي والفرقة بين الليبيين".
هيئة الأركان العامة لقوات حكومة الوحدة الوطنية، المتمركزة في طرابلس (غرب)، من جانبها أعلنت أنها وضعت وحداتها "في حالة تأهب"، وأمرتها "بالاستعداد لصد أي هجوم محتمل".
وكان تبرير القوات البرية لحفتر بقيادة نجله الأصغر صدام حفتر، أن تحركاتها عبارة عن تنفيذ "عملية واسعة" بهدف ما وصفته بـ"تأمين الحدود الجنوبية للبلاد".
ولكن وفقا للمراقبين فإن قوات حفتر هدفها من وراء تلك التحركات السيطرة على مدينة غدامس الحدودية - تخضع المدينة حاليا لسيطرة حكومة طرابلس- التي يوجد بها مطار دولي ومنفذ بري يربطها بالجزائر، والواقعة على بعد 650 كيلومترا جنوب غرب طرابلس.
من جانبه قال عبد العزيز غنية الباحث في المركز الأفروأسيوي للدراسات الإستراتيجية بلندن، إنه رغم اتجاه المشهد إلى مزيد من الخلاف السياسي إلا أنه يرى أنه لن يصل إلى عودة الصدام العسكري، مشددا على أنه "مهما استعرض هؤلاء من قوة فلن يصلوا إلى القتال الذي يطحن العظم".
وشدد على أن "التقارب الدبلوماسي الذي حدث أخيرا بين مصر وتركيا والإمارات على وجه الخصوص ويمكن أن تضاف لهم إيطاليا التي لها مصالح بالمنطقة، كل ذلك ساهم في هدوء الأوضاع بمنطقة حوض البحر المتوسط وأهمها ليبيا التي تعتبر البيئة فيها رخوة ومعرضة للانفجار في أي وقت، ولكن هذا التقارب القائم على تبادل المصالح أدى لاستبعاد تكرار مشهد حرب 2019 في ليبيا".
ونوه إلى أن ليبيا لا تزال ساحة حرب ومعركة وتنافس بين الدول الغربية وروسيا وهو ما يعيد المشهد إلى الحرب العالمية الثانية حينما كانت ليبيا ساحة للصراع الغربي وليس لها دور فيه.
ونبه غنية إلى أنه إذا قامت حرب في ليبيا حاليا فستكون صراع بين روسيا وأمريكا وبقرار من واشنطن ولكن الدولتين منشغلتان حاليا بصراعهما على أرض أخرى وهي الأرض الأوكرانية.
وكرر غنية تأكيده على أن التحركات العسكرية من كل الأطراف الليبية مؤخرا "ليست إلا استعرض ومحاولة لتأكيد مناطق النفوذ"، لأن قرار الحرب في ليبيا لا تزال تتحكم فيه القوى الغربية وعلى رأسها أمريكا.
وأشار إلى أن الشيء الجيد الوحيد فيما يحدث هو وجود صراع بين الغرب والشرق يمكن تسميته بصراع إعادة الإعمار، حيث يحاول كل طرف تأكيد نفوذه بمشروعات إعادة إعمار وهو ما ربما يفيد المواطن الليبي في النهاية.
واتفق معه حسين السويعدي في أن "الوضع لن يتطور إلى حرب أو قتال بين الغرب والشرق مرة أخرى".
وشدد على أن القاعدة الشعبية أو الاستقطاب السياسي لم يعد موجودا كما كان من قبل، حيث أن "الناس فقدت الثقة في كل الوجوه الموجودة، وانكشفت اللعبة أمامهم ولم يعد المواطن الليبي حاليا يفكر سوى في قوت يومه خاصة مع ازدياد معدلات الفقر".
ولكنه في الوقت نفسه أوضح أن الكثير من المليشيات في الغرب لها تنسيقات وتحالفات مع قوات الشرق كما أن الكثير من القيادات العسكرية في الشرق هم في الأصل من الغرب وهذا أمر يجعل مسألة تفجر القتال بين الغرب والشرق مرة أخرى "مسألة مستبعدة".
التعليقات