حدّقت القاضية بنظارتها في شخص يجلس في قفص زجاجي بقاعة المحكمة الواسعة، بطابق تحت الأرض.
"عليك أن تتوقف عن أي سلوك سيء أو أي تهديد. هل فهمت؟". كانت تلك الكلمات الأولى التي توجهت بها أرابيل بو إلى المتهم. وهي قاضية تنظر في قضية تهريب البشر على المستوى الأوروبي. واستدعت ضخامة المحاكمة جمع 67 طنا من الوثائق.
ورد عليها مرخان رسول، البالغ من العمر 26 عاما، بهدوء: "نعم".
وسبق أن أدين رسول في قضية تهريب أخرى، ويقضى عقوبة سجن لمدة 8 سنوات، في قضية محاولة قتل أيضا. وقد قاطع إجراءات المحاكمة منذ أيام بعدما هدد اثنين من المترجمين العاملين في القاعة. وهو الآن محاط بشرطيين مسلحين.
ووقفت المدعية العامة، جولي كارو، قرب القاضية، وانحنت نحو الميكروفون، ونظرت في أوراقها، وبدأت في عرض التهم في قضية متشعبة شملت 33 من المشتبه فيهم ينتمون إلى عصابة كردية، متهمة بتهريب المهاجرين عبر بحر المانش في قوارب صغيرة بين 2020 و2022.
وبينما بقي رسول في القفص الزجاجي، كان 10 متهمين آخرين يجلسون في القاعة يحيط بهم 15 شرطيا مسلحا. ولم تنزع الأغلال من أيديهم إلا بعدما بدأت إجراءات المحاكمة.
وقالت كارو: "إنها قضية مثل أذرع الأخطبوط.. تشمل تجار الموت"، عندما كانت تشرح للمحكمة كيف كانت العصابة تكدس المهاجرين في القوارب الصغيرة، فتضع عليها أحيانا حمولة أكبر 15 مرة من الحمولة التي صممت من أجلها.
والنتيجة، على حد تعبيرها، أرباح "هائلة" للعصابات، تصل إلى 60 ألف يورو عن كل قارب. ولكن نصف هذه القوارب فقط يصل إلى المياه البريطانية. وتحقق العصابة بذلك إيرادات قيمتها 3.5 ملايين يورو سنويا.
وتتهم العصابة نفسها بالسيطرة على حصة الأسد من عمليات عبور المهاجرين لبحر المانش من السواحل الفرنسية، حتى أواخر 2021 و2022. واعتقل أعضاؤها في فرنسا وبريطانيا وهولندا وبلجيكا وألمانيا، في أكبر إطار عملية دولية من نوعها وقتها ضد المهربين بالقوارب.
ويخضع حاليا 17 رجلا وامرأة للمحاكمة، 12 منهم سبق أن أدينوا، وثلاثة سيحاكمون العامل المقبل.
وعرضت كارو التهم الموجهة لكل واحد من المتهمين. وسمعت تنهدات الأسف والحسرة من اثنين على الأقل من أقارب المتهمين، عندما طالب الادعاء بالسجن لمدد طويلة. ويتوقع أن تنتهي المحاكمة في مطلع نوفمبر تشرين الثاني.
وقالت كارو: "نطالب بالسجن لمدة 15 سنة، وبغرامة مالية قدرها 200 ألف يورو، وبمنع أبدي من دخول الأراضي الفرنسية"، بالنسبة لمرخان رسول المتهم باستمراره في التحكم في العصابة من سجنه في وسط فرنسا.
وقالت: "وجدنا ثلاث هواتف نقالة في زنزانته". وذكرت أن الشرطة سجلت مكالمة "يتبجح فيها بأن "السجن في تور مثل الفندق. فتشوا الزنزانة ولكنهم لم يعثروا على الهواتف. الشرطة طيبون جدا".
ولكن هل يمكن لهذه المحاكمة الضخمة، وعقوبات السجن الطويلة المحتملة أن تشكل رادعا قويا لتجارة تهريب البشر، التي ازهرت في السنوات التي تلت الاعتقالات، بالنظر إلى العدد المتزايد من القوارب التي تعبر إلى مبتغاها بنجاح.
ولم يشأ الادعاء العالم المكلف بالقضية مباشرة الحديث إلى بي بي سي، ولكن باسكال ماركونفيل المدعي العام في محكمة النقض لشمال فرنسا، يرى أن عقوبات السجن الطويلة تدخل ضمن استراتيجية واسعة تهدف إلى رفع تكلفة التهريب بالنسبة للمهربين وزبائنهم.
ويقول ماركونفيل إن:"الإجراءات التي اتخذتها الشرطة الفرنسية مدعومة بقضاة التحقيق، لا تهدف إلى إفشال عمليات التهريب فحسب بل إلى جعلها مكلفة أيضا".
وأشار إلى تطور عمل هذه العصابات في السنوات الأخيرة، من مجموعات غير منظمة يساعد أفرادها أهل بلدانهم إلى "شبكات منظمة مثل عصابات المخدرات".
وأوضح أن الشبكة الكبيرة تتفرع إلى شبكات أصغر مختصصة في "مجالات" معينة تركز عملها على جوانب محددة من تجارة تهريب البشر.
وقال: "إنها مثل لعبة الشطرنج. ولهم الأفضلية الميدانية علينا. فلا بد لنا أن نتأقلم ونتعلم كيف نتعامل هذه الشبكات. واجهنا صعوبات مع زعماء العصابات، لأنهم حتى وهم في السجن يتمكنون من مواصلة إدارة العصابة من داخل الزنزانة".
وعلى الرغم من الصعوبات التي تواجهها الأجهزة الأمنية التي تعمل عبر مختلف الدول، بسبب الاختلافات القانونية المتعلقة بالإفراج المؤقت، ومعايير الأدلة، فإن ماكرونفيل أشاد بالتعاون بين المسؤولين الفرنسيين والببريطلنيين.
وقال: إن بريطانيا "تريد فعلا أن تجد حلولا لتحسين التعاون".
ولكنه نبه إلى أن الألمان "الذين نعتقد دائما بأنهم فعالون جدا، لا يسهلون الأمور علينا".
ولكن أحد المحامين في هيئة الدفاع قلل من شأن تأثير هذه المحاكمات على أزمة القوارب الصغيرة.
وقال كمال عباس: "العقوبات أصبحت تشدد، هذا واضح تماما. وأعتقد أنهم سيشددونها أكثر. ولكنني للأسف متشائم. لأنني لا أعتقد أن التهريب سيتوقف، فالمهربون لا يفكرون إلا في المال".
ويدافع عباس عن رجل متهم باستعماله من قبل العصابة للتمويه على موكب سياراتهم. ويذكر أن ثلاثة من المتهمين في هذه المحاكمة، أفرج عنهم مؤقتا العام الماضي، بعد عامين من الاعتقال، ولكنهم اعتقلوا بعدها في بلجيكا بتهم تهريب جديدة.
وقال: "لا شيء يثنيهم. فهم يرون السجن مجرد عثرة في الطريق".
وبعد أكثر من 10 سنوات في محاكمات تهريب البشر، يذكر عباس سببا آخر يجلعه يشكك في تأثيرها.
"زعماء العصابة يفلتون دائما من القضاء. إذا كان الزعيم عراقيا فهو في العراق. وإذا كان إيرانيا فهو في إيران. ولكن الرابط موجود دائما في إنجلترا. أنا متأكد من ذلك. على السلطات البريطانية أن تحقق أكثر في بعض المناطق في لندن، إذا أرادت أن توقف هذه الظاهرة".
التعليقات