قاسم حسين

كنت في ساحة المرجة، الساعة الثانية من بعد ظهر السبت، الخامس عشر من يناير/ كانون الجاري، حين تسمّرت أمام أحد أكشاك بيع الصحف في العاصمة السورية دمشق، وتساءلت: هل حقاً هرب بن علي؟

كان آخر خبرٍ تابعته صباح اليوم السابق، قبل مغادرتي الفندق في بيروت، عن وعود الرئيس التونسي (السابق) زين العابدين بن علي بتقديم تنازلاتٍ يستحيل أن يتوقعها أحدٌ قبل أسابيع. كان يتكلّم وقد بان الانكسار في تعابيره، والتكسّر في مواقفه. سبحانه مغيّر الأحوال... أهكذا يصبح الطغاة بين ليلةٍ وضحاها؟

كنت قد انقطعت عن النت والفضائيات 28 ساعة، جرّاء سفري براً من بيروت إلى دمشق، ولم يكن يخطر ببالي أن يحدث الانهيار الكبير في طرفة عين. وحين قرأت مانشيتات صحف السبت، أصابتني رعدة، ولا أدري كيف تخيّلت في تلك اللحظة النفسية العاصفة الشاعر السوري عمر الفرّا يلقي أهزوجة الشاعر دريد بن الصمة: laquo;ياليتني فيها جذع... أخبّ فيها وأضعraquo;، وتُنسب مثل هذه الكلمة إلى ورقة بن نوفل الذي تنبأ بقرب إطلالة عهد النبوة بعدما بلغت الجاهلية العمياء مداها، فتمنى لو يعود شاباً.

لم تكن الصحف السورية لتغطي مثل هذا الحدث كغيرها من الصحف الرسمية بالبلاد العربية، لذلك كنت أبحث عن الصحف اللبنانية، ولدهشتي أن laquo;الشرق الأوسطraquo; سبقتها بمانشيت laquo;ثوريraquo; غير متوقع: laquo;انفجرت تونس وهرب الرئيسraquo;، بينما اكتفت laquo;الأخبارraquo; بصورة بن علي ونصف شطر من بيت الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي: laquo;إذا الشعب يوماً...raquo;، وسكتت!

الصحيفة الأولى غطّت الحدث في ثلاث صفحات، فيما تضمنت الأولى عناوين على درجةٍ كبيرةٍ من الاثارة: laquo;انتفاضة الشبان العاطلين نجحت وبن علي غادر، وأنباء عن اعتقال بعض أقارب الرئيسraquo;. وأخبارٌ أخرى تكشف نفاق الغرب الديمقراطي المتحضر: laquo;ساركوزي يرفض استقبال بن علي وأوباما يشيد بشجاعة الشعب التونسيraquo;، وسبحانه عزّ من قائل: laquo;والله يشهد إن المنافقين لكاذبونraquo;.

الصحيفة الثانية خصّصت أربع صفحاتٍ بالداخل، بعنوان laquo;هدية تونس للعرب: نهاية ديكتاتورraquo;، مع عناوين فرعية ذات مسحة أدبية: laquo;بن علي، التاريخ يعيد نفسهraquo;، وraquo;نجاحات الليبرالية التونسية هي نجاحات أقارب الرئيس في خصخصة الموارد وتوزيعها على زبائنهمraquo;! وكم لهم من أقران ونظائر في طول بلادنا العربية وعرضها، حيث نشهد ليبرالية آخر الزمان. ليبرالية لئيمة، تأتي بطعم الخيانة ورائحة شواء أشلاء البشر.

اختطفت الجريدتين، ولم أصدّق متى سأصل الفندق حتى اختلي بهما، فعليّ واجب قراءة تسع صفحات، لألم بكل تفاصيل هذا اليوم المشهود.

المقالات في الصحيفة السعودية المحافظة، أقرب للمقالات الثورية: laquo;تونس... وهرب الرئيسraquo; للحميد، والراشد يتساءل: laquo;لماذا لم تطرب الحكومة التوانسة؟raquo;، أشار فيه إلى ان حكومة بن علي كانت تفخر بأنها أول من تعاملت مع الانترنت، ولكن إرسالاً لا استقبالاً. فتحت مواقع للرئيس والحكومة، الأدوات تغيّرت ولكن ظلت تفكّر وتعمل بالأسلوب القديم، وتعاملت مع الفضاء الالكتروني كما تعامل إذاعتها وصحفها والتابعين.

حين وقع الزلزال، قدّم كل ما يتوقع أن يقدّمه حاكمٌ تهتز الأرض تحت قدميه من تنازلات اللحظة الأخيرة، قال للشعب: لقد وصلت الرسالة، وتعهّد بتوفير الوظائف، وألقى ببعض وزرائه ومستشاريه كقرابين ليبقى. وما كان بحاجةٍ لكل ذلك لو فتح عينيه لما يقال عن حكمه على المواقع الاجتماعية، ولم يلاحقها زبانيته موقعاً موقعاً ليغلقوها ويصادروا حق الناس في التعبير.