إيلاف : ليس من شيء يمكن التنبؤ به في العراق بثقة كاملة، ولكن ما يمكن التنبؤ به: على مدى المستقبل المنظور سيصبح دولة تعمها الفوضى وتحكمها حكومة مركزية ضعيفة، إضافة إلى مجتمع منقسم وعنف مستمر. وفي أسوأ الأحوال سيصبح العراق، كما حذر تقرير مجموعة البحث في أوضاع العراق، دولة متهالكة أنهكتها الحرب الأهلية التي من الممكن أن تنتشر إلى عددٍ من دول الجوار وتلتهمها.

وبأيٍ من الطرق سترتفع التكلفة البشرية والاقتصادية والسياسية والعسكرية للحرب في العراق. إن مشاهد الفوضى والمأساة الإنسانية في العراق من شأنها أن تثير عاصفة من العنف ضد الولايات المتحدة، لأنها أعدت العدة وبادرت بالحرب في المقام الأول، ولتخليها عن العراقيين في مواجهة مصيرهم المريع ثانياً.

يضيف الكاتب رتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية في مقاله في صحيفة التايم أن مدى إدراك وفهم الأحداث الحاصلة حالياً في العراق هو بقدر أهمية حدوثها الفعلي على الأرض. إحدى الرؤى الممكنة هي أن تتوصل شعوب المنطقة والعالم إلى الحكم على الفشل العراقي باعتباره نتيجة للسياسة الأميركية إلى حدٍ بعيد، ونتاج حربٍ أسيئت النصيحة بالدعوة إليها. وإن كانت القضية كذلك، فستسوق العراق الغيوم إلى سمعة الولايات المتحدة فيما يتعلق بقدرتها والوثوق بها، وستستمر لسنوات. وسيعمل هذا السيناريو على زرع الشكوك في أذهان أصدقاء أميركا، وزيادة تأكيد خصومها على مواقفهم كذلك.

الرؤية الأخرى هي أن نصيب الأسد من مسؤولية ما يجري في العراق في السنوات القليلة الماضية يعود إلى العراقيين أنفسهم. وحسب هذه الرؤية فإنه سيُنظر إلى الولايات المتحدة على أنها أخفقت هناك دون أن ينقصها أي مجهود أو سعيٍ لإيجاد الحلول، ولكن ما افتقدت إليه هو وجود شريك وطني فاعل. يُحتمل أن يتم تبني هذه الرؤية في حال أوضحت الولايات المتحدة بجلاء دلائل ما يجب على العراقيين تحقيقه فيما يتعلق بالإصلاح السياسي والأداء الأمني وما عليهم أن يتوقعوه إذا توصلوا لذلك باختصار.

وفي حال سادت هذه النظرية أو تلك فإن شدة المعاداة للأميركيين المنتشرة اليوم ستزول ما إن تتراجع العراق عن مركز الأحداث. ومع ذلك، فقد تستمر ردة الفعل الأميركية المحلية ثابتة على موقفها وقتاً أطول فيما بعد. هناك احتمال وجود المتلازمة العراقية، وتقترب من ردة الفعل التي تلت تورط الولايات المتحدة في فيتنام منذ جيلٍ مضى. أدت تلك الهزيمة إلى اتخاذ الأميركيين وممثليهم جانب الحيطة والحذر من مهماتٍ خارجية جديدة.

كما أشار هاس إلى أنه من الهام ألا نبالغ في النتائج المحتملة للمرحلة النهائية في العراق، إذ إن أميركا ستبقى الدولة الأقوى في العالم بغض النظر عما سيؤول إليه حال العراق ومدى اللوم الملقى على عاتق السياسة الخارجية الأميركية. وستستمر الولايات المتحدة في الاستفادة من بيئة دولية سليمة لا تواجه فيها منافساً ذا قوة عظمى، كما كانت خلال الحرب الباردة، وكما اعتادت القوى العظمى أن تفعل عبر التاريخ. وما يثير السخرية هو أن التخفيف من تورط الولايات المتحدة في العراق سيكون له الأثر الإيجابي، أي أنه سيعمل على إبطاء استخدام المصادر الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية الأميركية التي تحتاج جميعها إلى التجديد.

ستتحرر الدبلوماسية الأميركية بطريقة ما، في الحقيقة، إذا ما انحسر التورط الأميركي في العراق؛ إذ يمكن للولايات المتحدة أن تكون عنصراً فاعلاً في قضية السلام بين العرب والإسرائيليين. وإذا أثبتت كل من الولايات المتحدة وإيران إرادتها التعاون من أجل العراق، فقد تجريان محادثاتٍ أكثر شمولاً حول المواضيع التي تسبب الفرقة بينهما، ومن بينها برنامج إيران النووي. كما أن هناك الكثير مما ينبغي فعله خارج المنطقة، ومنه تقليل احتمالات سير أفغانستان على طريق العراق. ويمكن لإدارة بوش، كذلك، تقديم تقارير شاملة عن المتطلبات والضمانات فيما يختص بكوريا الشمالية وتتفاوض مع قادتها بصورة مباشرة. ويمكن تمهيد الطريق أمام الأفكار الجديدة حول الطريقة المثلى لإحياء محادثات التجارة الدولية ومعالجة تغير المناخ في العالم ووقف الإبادة الجماعية التي تحدث في دارفور والتقليل من الاعتماد الأميركي على النفط المستورد.

وهنا يمكن أن تكون مشابهة الوضع الحالي بالوضع في فيتنام مناسبة، فالهزيمة في فيتنام لم تمنع الولايات المتحدة من الاحتفاظ بعلاقات تعاون وثيقة مع الدول الأخرى في المنطقة، ومن بينها اليابان وكوريا الجنوبية والفلبين، كما أنها لم توقف الولايات المتحدة من إقامة علاقاتٍ بناءة مع مساندي فيتنام (ومن بينهم الصين والاتحاد السوفيتي آنذاك) أو مع فيتنام نفسها، بمرور الوقت. تمثل آسيا اليوم الجزء الأكثر ديناميكية في العالم، وتعتبر الولايات المتحدة مشاركاً أساسياً في هذه الديناميكية.

تشكل العراق هزيمة إستراتيجية كبرى أكثر مما شكلته فيتنام منذ 30 عاماً. وإن من الضروري الآن أن تخفض الولايات المتحدة من حجم خسائرها هناك، وأن تحتوي النتائج، وتتطلع نحو فرص جديدة لتطور مصالحها حول العالم. وكلما اقترب موعد انتهاء السياسة الخارجية الأميركية في فترة ما بعد الحرب في العراق كان أفضل.