جنيف: رغم مرور 5 أشهر ونيف على وقوعها، لازالت أزمة اعتقال هنيبال نجل الزعيم الليبي معمر القذافي في جنيف تعكر صفو العلاقات السويسرية الليبية رغم محاولات عديدة بوساطة خارجية أو بدونها. وتحوم آخر التعقيدات حول صيغة الاعتذار المطلوب والجهة التي عليها أن تقوم به.
من القضايا التي ميزت أحداث العام 2008 في سويسرا، تأزم العلاقات السويسرية الليبية بسبب اعتقال نجل الزعيم الليبي هنيبال وزوجته آلين في 15 يوليو في أحد فنادق جنيف قبل الإفراج عنهما بكفالة مالية. وهو الإجراء الذي ردت عليه ليبيا بجملة من الإجراءات الانتقامية من بينها وقف مواطنين سويسريين بتهمة انتهاك قوانين الهجرة وعدم السماح لهما بمغادرة التراب الليبي إلى حد إعداد هذا التقرير.
ولا زالت هذه الأزمة تُسمّم العلاقات بين برن وطرابلس التي اتسمت بالودية لفترة طويلة رغم تواصل مفاوضات لم يتسرب عنها الكثير بين الطرفين.
نجدة مظلوم...أم مكيدة؟
تعود أحداث القضية لاستنجاد اثنين من الخدم الخاص اللذين اصطحبهما هنيبال القذافي وزوجته الحامل آنذاك في شهرها التاسع إلى جنيف، بالشرطة السويسرية في 15 يوليو، بعد تعرض الخادمة التونسية للضرب وسوء المعاملة. وهو ما أدى بشرطة جنيف لاقتحام مكان الإقامة وإلقاء القبض على هنيبال ووضعه رهن الاعتقال ليومين قبل تقديمه لقاضي التحقيق برفقة زوجته والإفراج عنهما في 17 يوليو مقابل كفالة مالية تقدر بـ 500 ألف فرنك سويسري.
رواية محامي الدفاع عن الخادمين الأستاذ فرانسوا مومبرز أشارت إلى أن quot;موكليه تعرضا للاحتجاز والاستغلال والضرب والسبquot;، وأفادت بأن الخادمة التونسية quot;تحمل آثار أضرار تحت العين... وآثار لكمة من هنيبالquot;.
أما الدكتورة عائشة القذافي، شقيقة هنيبال التي طارت على الفور إلى جنيف للوقوف الى جانب شقيقها، فقد صرحت للصحافة بأن quot;هذه القضية ما هي إلا مكيدة من قبل الخدم للحصول على حق اللجوء في سويسراquot;، وهاجمت شرطة جنيف متهمة إياها بـ quot;القيام بإجراء غير قانوني... وبشكل لا يتناسب مع الشكوىquot;، ولم تتردد في وصف تصرف الشرطة السويسرية بأنه quot;إجراء كراهية وعنصرية ومعادي للسامية العربيةquot;، على حد قولها.
تطبيق مقنع لتهديد quot;السن بالسنquot;
تهديد ابنة الزعيم الليبي الذي أصدرته في جنيف في 15 يوليو بقولها quot;العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلمquot;، سرعان ما تحول الى التطبيق تارة بشكل مباشر، وتارة أخرى بشكل مقنع؛ إذ صرحت وزارة الخارجية السويسرية بأن السلطات الليبية شرعت منذ 17 يوليو في quot;اتخاذ جملة من الإجراءات الانتقاميةquot; ضد المصالح والرعايا السويسريين.
فقد تم اعتقال اثنين من الرعايا السويسريين بتهمة quot;انتهاك قوانين الهجرة في ليبياquot;، قبل الإفراج عنهما بكفالة مالية في 29 يوليو دون السماح لهما إلى حد اليوم بمغادرة التراب الليبي. كما توصلت شركات سويسرية بأمر إغلاق لمكاتبها في ليبيا، على حد تعبير وزارة الخارجية السويسرية.
وصرح الناطق باسم شركة الطيران السويسرية quot;سويسquot; بأن سلطات الطيران المدني الليبية أشعرت يوم السبت 19 يوليو بأنه تقرر quot;الاحتفاظ برحلة واحدة بدل ثلاثةquot; التي كانت تنظم أسبوعيا بين جنيف وطرابلس. ونفس الشيء انطبق على شركة الطيران الليبية quot;الإفريقيةquot;.
وآخر تطور مفاجئ في هذا المجال، جدّ في منتصف شهر ديسمبر الجاري عندما توصلت شركة quot;سويسquot; للطيران بخطاب من السلطات الليبية ينص على إلغاء الرحلة الوحيدة التي تم الإبقاء عليها بين جنيف وطرابلس، وإغلاق مكاتب الشركة السويسرية في العاصمة الليبية.
وإذا كانت الأنظار قد توجهت منذ اللحظات الأولى إلى إمكانية لجوء ليبيا الى استخدام عقوبة النفط نظرا لأنها تزود سويسرا بحوالي 48% من استهلاكها النفطي، فإن هذا الاحتمال سرعان ما تردد في 22 يوليو في بيان مشترك للشركة الوطنية الليبية للنقل البحري وشركة الموانئ الليبية quot; بمنع شحن السفن المتوجهة الى سويسراquot;، وأعيد تأكيده في أخبار صحفية في 10 أكتوبر. ولكن السلطات الرسمية السويسرية والسلطات النفطية السويسرية لم تتوصل بأي إشعار رسمي بذلك. وحتى ولو قلل المسؤولون النفطيون والسياسيون السويسريون من أهمية وقف ضخ النفط الليبي الى سويسرا، إلا أن رئيس الكنفدرالية باسكال كوشبان عبـّر عن الأمل في أن quot;تبقى التهديدات الليبية في مستوى الخطاب فقطquot;.
ونفس الشيء تردد بخصوص سحب الإيداعات الليبية المتواجدة في البنوك السويسرية والمقدرة بحوالي 6،6 مليار فرنك. وهذا ما أكده السفير السويسري في طرابلس يوم 12 أكتوبر بتصريحه لوسائل إعلام سويسرية بأن quot;وزارة الخارجية الليبية قدمت في 10 أكتوبر مذكرة توضح فيها بأن طرابلس سوف لن توقف شحنات النفط الخام وسوف لن تسحب أرصدتها من بنوك الكنفدراليةquot;.
هفوات دبلوماسية
سويسرا التي سارعت الى إرسال وفد عن وزارة الخارجية لطرابلس للتوضيح رسميا للسلطات الليبية طبيعة تقاسم الصلاحيات بين السلطات في كانتون جنيف والسلطات الفدرالية، وللتشديد على استقلالية القضاء عن بقية السلطات في سويسرا، تكون - حسب بعض المراقبين - قد ارتكبت بعض الهفوات الدبلوماسية التي تمثلت في quot;نقاش ساخنquot; دار بين وزيرة الخارجية السويسرية ميشلين كالمي ري ونظيرها الليبي عبد الرحمن شلغم يوم 22 يوليو، وفي إرسال وفد من موظفي وزارة الخارجية في 23 يوليو للتفاوض مع السلطات الليبية بدل تولي الوزيرة أو رئيس الدولة السويسرية هذه المهمة نظرا لأن مفاتيح الحل من جانب طرابلس توجد بين يدي الزعيم الليبي معمر القذافي شخصيا.
الشرط الليبي: سحب الشكوى والاعتذار
سويسرا وليبيا اللتان فضلتا الحوار المباشر بدل تدخل أطراف خارجية لحل الأزمة حافظتا على حوار مستمر سواء في طرابلس في بداية الأزمة أو في جنيف فيما بعد ولحد اليوم لمحاولة التهدئة.
وإذا كان الجانب الليبي قد أوصل بشكل من الأشكال للسلطات السويسرية شروطه المتمثلة في الحصول على سحب للشكوى المرفوعة ضد هنيبال القذافي وزوجته في جنيف، وعن اعتذار رسمي، فإن السلطات السويسرية لم توضح ذلك إلا في 5 أغسطس وبعد انتهاء الجولة الثانية من مفاوضات الوفد السويسري في ليبيا.
وإذا كان الجانب الليبي قد حصل اليوم على تحقيق المطلب الأول، فإنه ومازال ينتظر تحقيق الطلب الثاني. فقد ظهرت بوادر هذا الانفراج بعد تصريحات رئيس الكنفدرالية السويسرية باسكال كوشبان في 29 يوليو عندما قال في حديث صحفي بأن quot;القضية تكمن فيما إذا كانت عملية اعتقال هنيبال في جنيف مبررة أم لا. وإذا اتضح أنها ليست مبررة، فعلى القضاء تصحيح الخطأ بنفسهquot;.
ولاشك في أن إرسال طرابلس لوفد ليبي للتفاوض في جنيف ما بين 13 و16 أغسطس، بقيادة الأمين العام لوزارة الخارجية الليبية السيد خالد . م. قائم، قد ساعد في انفراج الأوضاع وإبقاء الحوار مستمرا بين الطرفيين رغم التصعيد الليبي في المطالب ورغم إصرار سويسرا على احترام استقلالية القضاء وعدم تدخل الدبلوماسية في عمله.
وبدون الخوض علانية فيما إذا كانت عملية الاعتقال مبررة أم لا، توصل القضاء في جنيف إلى حل بتعليق الإجراءات المتخذة ضد هنيبال وزوجته بعد سحب الخادمين لشكواهما رغم تعقد وضعية الخادم المغربي الذي تعرضت والدته في ليبيا للاعتقال وسوء المعاملة قبل الإفراج عنها، وبعد اختفاء شقيقه بعد توقيفه من قبل الأمن الليبي.
تبرير محامي الخادمين لسحب الشكوى في 2 سبتمبر يتمثل في أن quot;موكليه قررا طواعية، وبعد تفكير وإمعان، سحب الشكوى القضائيةquot;. وقد اكتفت الخارجية السويسرية بالتوضيح بأنها quot;اطلعت على قرار سحب الشكوىquot; وأن quot;القضية الآن بين أيدي القضاء في جنيفquot;.
وبعد ذلك، أعلن النائب العام بدويلة جنيف دانيال زابيلي في 3 سبتمبر حفظ القضية المرفوعة ضد نجل الزعيم الليبي بعد سحب الخادمين لشكواهما.
ما هي صيغة الاعتذار ومن يُقدمها؟
وحسب آخر المعلومات المتوفرة عن هذه القضية، تجري حاليا، وبشكل دوري، مفاوضات في جنيف، وفي قصر الأمم المتحدة بالتحديد، بين الوفدين الليبي والسويسري للتوصل إلى صيغة مقبولة للطرفيين. وإذا كان الأمر يدور حول كيفية الاعتذار، فإن المشكلة القائمة هي من عليه تقديم هذا الاعتذار، إذ أن الليبيين يطالبون بأن يكون اعتذارا رسميا في الوقت الذي رددت فيه السلطات الفدرالية بأن الأمر بين أيدي سلطات جنيف، وبالأخص بين أيدي القضاء فيها.
وقد نشرت وسائل إعلام سويسرية يوم 23 ديسمبر عينات مما دار في جولات التفاوض السبعة التي تمت بين ممثلي الطرفيين في جنيف يمكن تلخيصها فيما يلي: quot;مطالبة الزعيم الليبي سويسرا بتقديم تعويض يقدر بـ 300 ألف فرنك يُمنح لصندوق الأمم المتحدة لرعاية الطفولة quot;يونيسفquot;، وضرورة معاقبة رجال الشرطة الذين قاموا بالتحقيق، وبما يعتبره الجانب الليبي quot;اعتقالا غير مبررquot;، ومطالبة السلطات في جنيف ومجلس القضاء بالتحقيق في هذه القضية وإشعار الجانب الليبي بالنتائجquot;.
و إذا كانت عدة جهات رسمية سويسرية قد قدمت شبه اعتراف بأن تدخل الشرطة كان أقوى مما كان مطلوبا في هذه الحالة، بل أنها قدمت اعتذارا بهذا الشأن للسلطات الليبية كما جاء في محضر المفاوضات بين الطرفيين الذي نشرته وسائل الإعلام السويسرية، فإن الجانب الليبي يبدو غير مقتنع بتلك الاعتذارات ويرغب في أن تصدر عن جهات رسمية أعلى من ذلك.
وكما قال أحد المراقبين، فقد quot;ضيعت سويسرا فرصة غلق الملف نهائيا لو ربطت ذلك بإقدام قضاء جنيف على حفظ القضية المرفوعة ضد هنيبال وآلين القذافي بعد سحب الخادمين لشكواهماquot;.
التعليقات