واشنطن: شهدت الساحة اللبنانية على مدار الأسبوع الماضى أسوأ المصادمات منذ إنتهاء الحرب الأهلية اللبنانية فى مطلع تسعينيات القرن الماضى. وقد إهتمت وسائل الإعلام الأميركية بهذه الأحداث خصوصا فى ظل صراع النفوذ الذى تشهده المنطقة بين الولايات المتحدة من جانب والقوى الإقليمية المناوئة لها من جهة أخرى وعلى رأسها إيران وسوريا ، وحاولت رسم صورة لمستقبل المنطقة بعد هذه الأحداث وتأثيرها على ميزان القوى فى هناك ، وصورة الولايات وموقعها كقوى عظمى فى النظام الدولى فى منطقة الشرق الأوسط.

ماذا يحدث في لبنان؟

فمن جانبها نشرت صحيفة لوس انجلوس تايمز تقريرا أعده الكاتب الصحفي بورزو دراجاهى أشار فيه إلى أن الأطراف الموالية للغرب داخل الساحة اللبنانية قد طالبت القوى الغربية الداعمة لها من التدخل لوقف أحداث العنف التى قادها حزب الله فى العاصمة بيروت ، وشنت هذه الأطراف حملة سياسية ودبلوماسية كبيرة على الساحة الدولية تطالب فيها هذه القوى الكبرى خصوصا واشنطن والدول الأوروبية بالتدخل السياسى والدبلوماسى أو حتى العسكرى من اجل وقف ممارسات حزب الله المسلحة ، ولكن الغرب على حد وصف الكاتب ما زال متردد فى الاستجابة لهذه المطالبات.

ويؤكد دراجاهى أن هذه المواجهات وأحداث العنف التى اندلعت بين مقاتلى حزب الله وأنصار الأكثرية فى الائتلاف الحكومى كان بسبب قيام الحكومة بإقالة مدير امن مطار بيروت الدولى ، والذى يعتبر من المحسوبين على حزب الله ، فضلا عن إثارة أمر شبكة الاتصالات التى يمتلكها الحزب ، الأمر الذى دفع مقاتلى الحزب ndash; بدعم من سوريا وإيران كما يشير الكاتب ndash; إلى النزول إلى الشوارع خصوصا الجزء الغربى من العاصمة بيروت ومهاجمة مقار مكاتب زعيم التيار السني (زعيم كتلة المستقبل) هناك سعد الحريرى ومكاتب النائب وليد جنبلاط ، مما شكل عامل ضغط على الحكومة ودفعها نحو التراجع عن هذا القرار ، ودفع مقاتلى الحزب إلى التراجع وتسليم المبانى التى استولوا عليها إلى الجيش اللبنانى. ولكن الأمر لم ينتهى عند ذلك فقد أكد الكاتب أن انه بعد أن انتهى الحزب من عملية تسليم المبانى التى دخلها الجيش اللبنانى اندلعت العديد من المصادمات بين أنصار المعارضة وأنصار الحكومة اللبنانية برئاسة فؤاد السنيورة ، وقد وقف الجيش اللبنانى على الحياد ولم يتدخل حتى لا تزداد خطورة الأمر ويتحول إلى مصادمات طائفية.

الشرق الأوسط مسرحا لحرب باردة جديدة

أما توماس فريدمان فقد كتب لصحيفة النيويورك تايمز مؤكدا على أن ما يحدث الآن فى منطقة الشرق الأوسط هو احد التحديات الكبرى التى ستواجه السياسة الخارجية للرئيس الأمريكى القادم ، على اعتبار أن ما يحدث الآن فى المنطقة مقدمة لحرباً باردة جديدة سوف تشتعل مرة أخرى فى هذه المنطقة الملتهبة من العالم ، فالرئيس القادم للولايات المتحدة ndash; بحسب وصف فريدمان ndash; سيكون رئيسا لفترة حرب باردة ستواجهها أميركا فى المستقبل القريب.

وفى هذا السياق فان فريدمان يلفت النظر إلى أن ما تشهده منطقة الشرق الأوسط فى الوقت الحالى من حوادث عنف وتمرد ndash; من وجهة النظر الأميركية - هو عبارة عن صراع من اجل مناطق النفوذ والسيطرة بين الولايات المتحدة وحلفائها المقربين من الدول العربية السنية وإسرائيل من جهة ، فى مواجهة التحالف الإيرانى - السورى ومن معهم من منظمات وعلى رأسها حزب الله اللبنانى من جهة أخرى ، ولذلك أشار إلى ما ساقته احد الصحف اليومية الإيرانية الكبرى التى أكدت أن صراع النفوذ فى المنطقة الآن ينحصر بين طرفين فقط الولايات المتحدة وإيران.

ولفت فريدمان الانتباه إلى أن الولايات المتحدة فى الوقت الحالى تخسر على جميع الجبهات ولكن كيف ذلك؟ فيقول فريدمان أن إيران وقادتها يتسموا بالذكاء الشديد بينما يتسم سلوك الولايات المتحدة يوصم بالغباء والضعف الشديد ، أما حال حلفائها من الدول العربية السنية فليس أفضل بكثير فهى دول عاجزة ومنقسمة على نفسها.

لبنان ساحة صراع مرة أخرى

وابرز المظاهر التى ساقها فريدمان فى إطار التدليل على حديثه عن الحرب الباردة القادمة فى المنطقة كانت ما شهدته العاصمة اللبنانية بيروت من أحداث عنف ومظاهر مسلحة على أيدى مقاتلى حزب الله ومن ورائه التحالف الإيرانى السورى والدعم الكبير اللذين يقدماه للحزب، وانه إذا كان مليشيا حزب الله قد ظهرت إلى الوجود من اجل الدفاع عن لبنان فى مواجهة إسرائيل إلا أن الحزب حاليا قد باع لبنان إلى سوريا وإيران.

إيران رقم صعب فى معادلة الشرق الأوسط

وفى نفس الوقت أشار فريدمان إلى ما نقله احد الكتاب الإسرائيليين والذى يدعى إيهود ياررى احد المراقبين والخبراء فى شئون الشرق الأوسط فى إسرائيل حيث وصف ما يحدث الآن فى المنطقة بالسلام الإيرانى على غرار ما يسمى فى أدبيات علم السياسية والعلاقات الدولية بفترة السلام الأميركى، ويبنى فريدمان هذا الاستنتاج على أن إيران استطاعت خلال الفترة الماضية من بناء شبكة نفوذ مؤثرة وقوية فى بقاع مختلفة داخل منطقة الشرق الأوسط ، بداية من السيطرة على رئيس الوزراء العراقى نورى المالكى ، إلى التحكم فى تحركات الميليشيات الشيعية فى العراق ، فضلا عن مساعدة ودعم حزب الله اللبنانى وتزويده بالأسلحة خصوصا الصواريخ ، ودعمها الكبير لانقلاب حركة حماس فى قطاع غزة وسيطرتها عليه ، وإجهاض أية جهود تدعمها الولايات المتحدة من اجل إقرار السلام فى منطقة الشرق الأوسط بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وبالتالى استطاعت إيران تثبيت نفسها فى موضع يجعل من يفكر فى مهاجمتها أو مهاجمة منشآتها النووية فى موقف لا يحسد عليه ويفكر كثيرا قبل شن أى هجوم عليها ، لأن مثل هذا الهجوم سوف يدفع المنطقة إلى فوضى كبيرة تنتشر فى أماكن مختلفة فى الإقليم فى لبنان وفى فلسطين وفى العراق وفى دول الخليج هى الأخرى.

إدارة بوش أخطاء كثيرة

ويشير فريدمان إلى أن الرئيس الأميركى جورج بوش وأعضاء إدارته طوال الثمانى سنوات التى قضوها فى البيت الأبيض قد وضعت الولايات المتحدة فى موقف لا تحسد عليه فى المنطقة ، موقف لا يحمل أى احترام أو خوف منها ومن قوتها ، وفقدان الكثير من هيبتها وهيمنتها. فرغم أن الرئيس الأمريكى جورج بوش ذهب إلى منطقة الشرق الأوسط فى يناير الماضى ، وتلت هذه الزيارة زيارات أخرى قامت بها وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس ، ونائب الرئيس ديك تشيني هو الآخر قام بزيارة إلى المنطقة ، كما عاد الرئيس الأمريكى هذا الأسبوع إلى المنطقة مرة أخرى ، إلا أنه بعد كل ذلك ماذا حدث؟ ارتفعت أسعار البترول بصورة غير مسبوقة ، مستقبل عملية السلام غير مبشر على الإطلاق ، وبالتالى فان أمريكا الآن فى وضع لا يمكّنها من هزيمة أو ردع أو احتواء أيا من الفاعلين الرئيسين فى المنطقة.

إيران تسيطر على الانتخابات الأميركية

ومن ناحية أخرى يلفت فريدمان الانتباه إلى أن احد الموضوعات الذى تعتبر ساحة من ساحات المنافسة بين المرشحين المتنافسين على ترشيح الحزب الديمقراطى لانتخابات الرئاسة هيلارى كلينتون وباراك أوباما هو ماهية الأسلوب الأفضل للتعامل مع إيران؟ هل يكون الحوار أو الدخول فى صراع محموم معها؟ فأوباما يؤيد فكرة الحوار مع إيران بينما تعارض هيلارى أى نوع من أنواع الحوار معها ، بل أنها هددت إيران بمحوها من الوجود إذا هى هاجمت إسرائيل. ويؤكد فريدمان أن فكرة الحوار ليست سيئة إذا كانت الولايات المتحدة تمتلك قوة وفاعلية ونفوذ يفوق ما تمتلكه إيران ، أما إذا كانت لا تمتلك هذا التفوق فان فكرة الحوار ستأتى بنتائج عكسية.

وفى ختام تحليه يشير فريدمان إلى أن الطرف الضعيف فى هذه المعادلة المعقدة الأطراف هو العالم العربى خصوصا الدول السنية والتى تعتمد إما على البترول من اجل مواجهة الضغوط والتحديات الإيرانية أو أنها منقسمة على نفسها بحيث أنها وصلت إلى الحد الذى لا يمكّنها من الدفاع حتى عن مصالحها القومية.

لبنان فى انتظار مستقبل غامض

وفى نفس السياق أشارت صحيفة الواشنطن تايمز فى افتتاحيتها إلى أن ما حدث فى لبنان على مدار الأيام الماضية من الظهور المسلح لمقاتلي حزب الله فى العاصمة اللبنانية يعتبر مؤشر سيئ بالنسبة لمستقبل لبنان ومستقبل منطقة الشرق الأوسط ككل ، وهو مستقبل وصفته الافتتاحية انه مُسَيطر عليه من قبل إيران وسوريا ، اللذين فقدا جزءاً كبيراً من خوفهم من الولايات المتحدة وإسرائيل. واعتبرت الواشنطن تايمز أن هذا الظهور المسلح لحزب الله يعتبر رسالة من دمشق وطهران إلى الرئيس الأميركى بوش - الذى وصل إلى إسرائيل الأسبوع الماضى لإحياء الذكرى الستين لإعلان دولة إسرائيل ndash; أنهم يستطيعوا توظيف القوة والتأثير الذى يمتلكانه فى أى وقت يشاءوا وفى أماكن كثيرة مثل لبنان ، والأكثر من ذلك أن الولايات المتحدة ذاتها لا تستطيع أن تفعل أى شئ حيال هذا الأمر.

واعتبرت الصحيفة الأحداث التى شهدتها لبنان أنها الأسوأ منذ الحرب الأهلية التى شهدتها لبنان فى الفترة من عام 1975 حتى عام 1990 ، ولفتت الانتباه إلى أن هناك عوامل داخلية لعبت دورا كبيرا فى اشتعال هذه الأحداث الأخيرة ، إلا أن هذه العوامل لا يمكن فصلها عن عدد من الموضوعات والعوامل الجيوبولوتيكية فى هذه المنطقة ، خصوصا منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبنانى رفيق الحريرى فى عام 2005 ، الأمر الذى كان عامل الضغط على سوريا لإنهاء احتلالها ndash; على حد وصف الصحيفة ndash; للبنان ، وحاولت سوريا متمثلة فى الرئيس بشار الأسد تمهيد الساحة اللبنانية من اجل استمرار التأثير والنفوذ السورى فيها.

وأكدت الصحيفة أن ما حدث من قبل حزب الله ومن خلفه دمشق وطهران يشير إلى أن الحزب وليست الحكومة اللبنانية الذى يملك زمام السيطرة على لبنان ، ولذلك فلا عجب أن رأينا فى القريب تَجَرؤُ مقاتلى حزب الله على قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة والموجودة فى جنوب البلاد الأمر الذى سيكون مقدمة لجولة جديدة من المعارك بين إسرائيل والحزب.