يواجه مسعى الرئيس الاميركي باراك اوباما لتحقيق السلام في الشرق الاوسط صعوبات اقليمية ودولية.

واشنطن: اصطدمت أطروحات وتعهدات أوباما بإنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة بحكومة يمينية متشددة في إسرائيل تبنت برنامجًا سياسيًّا يقوم على توسيع نطاق التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس المحتلة، واعتبار قيام الدولة الفلسطينية تهديد لأمن إسرائيل فضلاً عن رفض تقديم أي تنازلات في إطار العملية التفاوضية لاسيما الانسحاب من المناطق التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، وهو ما قد يعزى في تركيبة الحكومة الائتلافية الإسرائيلية التي تسيطر عليها أحزاب اليمين الديني ذات التوجهات الداعمة للاستيطان، حيث لا تتجاوز مشاركة أحزاب اليسار أو يمين الوسط الداعمة للتفاوض خمس مناصب وزارية حظي بها حزب العمل الإسرائيلي من إجمالي 30 منصب وزاري، فيما سيطرت أحزاب اليمين (حزب الليكود وحزب إسرائيل بيتنا ) واليمين الديني ( حزب شاس وحزب يهود هاتوراه وحزب البيت اليهودي) على بقية المناصب الوزارية والتي كان من أهمها وزارة الخارجية التي تولاها أفيجدور ليبرمان زعيم حزب إسرائيل بيتنا الذي يستند إلى تأييد اليهود الروس والمستوطنين المتدينين .

بيد أن السياسات الحدية المتطرفة تجاه عملية التسوية لا تعد سوى جانب من نتاج تفاعلات مجتمعية معقدة في إسرائيل أسفرت عن تصاعد نفوذ تيار اليمين الديني المتشدد الرافض لعملية التسوية ولحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة، ناهيك عن دعم المنتمين لذلك التيار للنشاط الاستيطاني باعتباره أحد الوظائف المحورية للمجتمع الإسرائيلي استنادًا لتفسيرات حاخامات الحريديم لنصوص التوراة. ومن هذا المنطلق جاءت دراسة نيكولاس بيلهام الباحث بمجموعة الأزمات الدولية بعنوان quot; يمين إسرائيل الديني وعملية السلام quot; والتي نشرها تقرير الشرق الأوسط الصادر عن quot;مشروع الشرق الأوسط للأبحاث والمعلومات quot; The Middle East Research amp; Information Project في 12 من أكتوبر الجاري لتفسير تصاعد نفوذ أنصار اليمين الديني في إسرائيل على المستوى السياسي والمجتمعي وأثر توجهاتهم على مستقبل عملية التسوية بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي .

اليمين الديني واقع ديمغرافي جديد

شهدت الأوضاع السياسية والمجتمعية في إسرائيل تغيرات هيكلية منذ طرح رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون خطة فك الارتباط أحادي الجانب عام 2003 والتي تم بمقتضاها الانسحاب من مستوطنات قطاع غزة. فعلى الرغم من انتماء حزب الليكود الذي تزعمه شارون لليمين السياسي في إسرائيل إلا أن نفوذ المتدينين داخل الحزب أو في المجتمع الإسرائيلي لم يكن قد تصاعد بشكل ملحوظ بما جعل الانسحاب من مستوطنات غزة ممكنًا ولم يكلف شارون سوى إنشاء حزب جديد يضم مؤيدي رؤيته لعملية التسوية ويكون أقرب في برنامجه السياسي إلى يمين الوسط العلماني منه إلى اليمين ( حزب كاديما).

ولكن على أثر تداعيات الحرب الإسرائيلية على لبنان وتراجع ثقة الرأي العام الإسرائيلي في مؤسسات الدولة والساسة لاسيما مع الكشف عن قضايا فساد سياسي كان أبرزها قضية خصخصة بنك ليؤمي التي تورط فيها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أيهود أولمرت، بدا من الملاحظ تصاعد نفوذ تيارات اليمين الديني المتشدد في إسرائيل وهو ما يمكن الاستدلال عليه من تصاعد وتيرة التظاهرات الاحتجاجية لناشطي الاستيطان المتدينين في الضفة الغربية وزيادة أعضاء الكنيست من المنتمين لأحزاب اليمين الديني وتغلغل ذلك التيار المتشدد في الجيش الإسرائيلي والمؤسسات البيروقراطية على السواء. ناهيك عن تبني قطاعات واسعة من الرأي العام الإسرائيلي لأطروحات قياداته حول عملية التسوية وأمن إسرائيل بعدما كان ينظر إليها على أنها أطروحات حدية متطرفة لا تحقق سوى مصالح المستوطنين .

وفي هذا الصدد يمكن القول إن الوزن الديموغرافي للمستوطنين المتشددين وأنصار اليمين الديني قد أضحى من غير الممكن تجاهله على المستوى السياسي ،حيث تجاوز عدد المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية 145 مستوطنة يقطنها حوالي 300 ألف نسمة، يمثلون حوالي 4 % من مواطني إسرائيل بعدما كان عددهم لا يتجاوز 105 ألف نسمة عندما تم توقيع اتفاق أوسلو عام 1992، وخلال تلك الفترة نجح المستوطنون في تعزيز عزلتهم عن المجتمع الإسرائيلي بتدشين مدارس وجامعات تقوم على المزج ما بين التعاليم الدينية والتدريب العسكري. كما قام المستوطنون بإنشاء قوات أمن خاصة لحماية مستوطناتهم تم تدريبها في وحدات الجيش الإسرائيلي وخضعت لإشراف حاخامات وثيقة الصلة بالمنظمات الناشطة في مجال الاستيطان مثل جمعية quot;ألعادquot; الاستيطانية .

تغيرات الخريطة السياسية والمؤسسية في إسرائيل

لم يقتصر المد الديني على قاطني المستوطنات وإنما تجاوز ذلك ليجتذب تأييد قطاعات مختلفة من يهود إسرائيل، ووفقًا لبيانات معهد إسرائيل للديمقراطيةIsrael Democracy Institute فإن 8 % من يهود إسرائيل فوق 50 عامًا و32 % ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و30 عامًا ينتمون إما للتيار الديني القومي أو للتيار الديني المتشدد في حين تراجعت نسبة اليهود العلمانيين من 23 % عام 1997إلى 17 % عام 2007، وإجمالاً يتجاوز عدد اليهود المتدنين في إسرائيل حوالي 1.5 مليون نسمة بما يمثل حوالي 20 % من العدد الإجمالي لسكان إسرائيل.

وارتبط تصاعد الوزن الديمغرافي لمؤيدي اليمين الديني في إسرائيل بتصاعد تمثيلهم في قطاعات الجيش الإسرائيلي، حيث يحرص المتدينون لاسيما من الحريديم لأداء مدة خدمتهم في الجيش بالمناطق الاستيطانية داخل الخط الأخضر في الضفة الغربية وعادة ما تقوم القيادات العسكرية الإسرائيلية بنشر وحدات المتدينين وفق انتمائهم الجغرافي، بحيث يؤدي كل منهم خدمته العسكرية في المستوطنة التي يقطنها. ويقدر الباحث الإسرائيلي ياجال ليفي نسبة المتدينين في صفوف الجيش الإسرائيلي بحوالي 40%.

وفي السياق ذاته يمكن الاستدلال على نفوذ التيار الديني المتشدد في الجيش الإسرائيلي بالدور المتعاظم للحاخامات أثناء عملية الرصاص المسكوب في قطاع غزة في يناير الماضي، حيث تم تشكيل وحدة دينية تحت مسمى وحدة quot;الوعي اليهوديquot; صاحبت الجيش لتحفيز الجنود على القتال ومن ثم بدأ الجيش الإسرائيلي يعاني من ازدواجية في نظم التوجيه وبات على عدد كبير من الجنود المتدينين الاختيار بين الانصياع لأوامر قادتهم أو لتوجيهات الحاخامات التابعين للجيش .

وعلى المستوى السياسي لم يتمتع تيار اليمين الديني في أي فترة في التطور التاريخي لإسرائيل بأغلبية برلمانية تماثل التي تمتع بها بعد انتخابات الكنيست الثامنة عشرة عام 2009، ومن بين 120 مقعد هي إجمالي عدد مقاعد الكنيست شغلت أحزاب اليمين حوالي 65 مقعدًا من بينها حوالي 27 مقعدًا لأحزاب اليمين الديني بما يمكنهم من عرقلة تمرير أي قرار داخل الكتلة البرلمانية للائتلاف الحاكم المكون من 75 عضوًا بالكنيست ينتمون لأحزاب اليمين واليمين الديني وحزب العمل كممثل لتيار يسار الوسط. وبدا أن حزب الليكود الذي يتزعمه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بدأ يعتمد بشكل أكبر على دعم المستوطنين وهو ما تجلى في تصاعد تأييد المستوطنين المتدينين له في انتخابات الكنيست الأخيرة، ليصل إلى حوالي 23 % في مقابل 12 % في انتخابات عام 2006 .

بيد أن ذلك التغير في خريطة مؤيدي حزب الليكود يفرض عليه قيودًا متعددة ومن المرجح أن يواجه مشروع نتنياهو للتجميد المؤقت للاستيطان في الضفة الغربية في حال تنفيذه بموجة من التظاهرات الاحتجاجية وتراجع في تأييد المستوطنين للحزب فضلاً عن تفكك الائتلاف الحكومي والدعوة لانتخابات مبكرة لن تأتي نتيجتها بأي حال لصالح حزب الليكود على غرار ما حدث بعد تخلي اللوبي الاستيطاني في الكنيست عن نتنياهو بعد توقيعه لاتفاقية واي ريفر عام 1999 وإصداره لأمر إخلاء مستوطنة عبرون في الضفة الغربية .

وفي السياق ذاته نجح التيار الاستيطاني الديني في استقطاب عدد من قيادات الإدارة المدنية والمحلية لتيسير استصدار تراخيص بناء المستوطنات، وتخصيص الأراضي التي تخضع لملكية الدولة للأغراض الاستيطانية. وفي هذا الإطار يطرح القانون المقدس الذي يروج له الحاخامات في مواجهة القانون الوضعي للدولة الذي يعوق في بعض الأحيان النشاط الاستيطاني الإسرائيلي وبالنظرإلى تبني قطاعات واسعة من موظفي الإدارة المدنية لتوجهات التيار الديني المتشدد فإن القانون المقدس عادة ما يطبق مقابل تجاهل ما ينص عليه القانون الوضعي .

الاستيطان وضغوط الداخل الإسرائيلي

تكمن إشكالية العلاقة بين تصاعد نفوذ اليمين الديني ومستقبل عملية السلام في توجهات المنتمين لهذا التيار التي تعتبر إنشاء دولة فلسطينية مستقلة تهديدًا لأمن إسرائيل ولا تقبل تجميد النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس وتعتبر تفكيك أي من المستوطنات القائمة والانسحاب منها خيانة quot; لأمانة آلهية quot; وفق نصوص التوراة ،وفي هذا الإطار كشف استطلاع للرأي في أبريل 2008 أن حوالي 64 % من اليهود المتدينين لا يقبلون إنشاء دولة فلسطينية مستقلة ويرفض حوالي 72 % منهم استئناف المفاوضات مع الطرف الفلسطيني وبطبيعة الحال لا يقبل غالبية الإسرائيليين الانسحاب من مستوطنات الضفة الغربية .

وتقدم الدراسة التي أعدها نيكولاس بيلهام والتي تم عرضها سلفًا إطارًا تفسيريًّا لنهج حكومة نتنياهو الرافض لتجميد الاستيطان ويمكن الإضافة إلى ما ورد بها والقول بأن الحكومة الإسرائيلية تتعرض لضغوط من ثلاث جهات رئيسة تدفعها لمزيدٍ من التشدد في سياستها تجاه عملية التسوية بحيث تأتي أحزاب اليمين الدينية المنضمة للائتلاف الحاكم على رأس تلك الجهات، حيث طالب حزب quot;الاتحاد الوطنيquot; الذي يمثل بشكل خاص المستوطنين بإعادة المستوطنين إلى مستوطنات قطاع غزة وشمال الضفة الغربية التي أخليت ضمن خطة quot;فك الارتباطquot; مع السلطة الفلسطينية قبل نحو عشرة أعوام بزعم أن quot;فك الارتباطquot; أسفر عن نتائج عكسية. وأصدر الحزب الذي يتزعمه يعكوف كاتس بيانا في 28 من فبراير جاء فيه: quot;إن الفلسطينيين فهموا عملية فك الارتباط بشكل خاطئ، وفسروها على أنها تأتي للتعبير عن ضعف دولة إسرائيل، ويجب إعادة الردع من خلال العودة إلى المناطق التي أخليناهاquot;.

كما يتبنى حاخامات طائفة الحريديم المتشددة مواقف أكثر تطرفًا من وزراء الحكومة الإسرائيلية مثل رفضهم لعقد صفقة مع حركة حماس لتحرير الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط مقابل إطلاق سراح مئات الأسرى الفلسطينيين ودعوتهم لتحرير شاليط بالقوة وقيامهم بإطلاق مبادرة في 27 من يونيو يدعون فيها أنصارهم من العائلات الدينية واليمينية اليهودية للاستيطان في هضبة الجولان السورية المحتلة بشكل يعزز من التواجد اليهودي بالهضبة، وهو ما وصفته صحيفة معاريف الإسرائيلية بـquot;الاستيطان الديني وتزعم هذا التوجه عوفير كوهين رئيس quot;الحركة من أجل القيم اليهوديةquot;،و ذلك للتغلب على ارتفاع أسعار العقارات في إسرائيل .

ويمارس المجلس الاستيطاني الإسرائيلي ضغوط قوية لردع أي تنازل ضئيل الأحزاب اليمينية المتحالفة معهم في الحكومة الإسرائيلية، فقبيل زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي أيهود باراك للولايات المتحدة للتباحث حول تجميد الاستيطان في الضفة الغربية في 29 من يونيو نقلت صحيفة يديعوت أحرنوت عن داني دايان رئيس المجلس الاستيطاني الإسرائيلي رفضه لتقديم أي تنازل فيما يتعلق بالاستيطان أو حتى القبول بقيام دولة فلسطينية، واعتبر دايان أنه quot;آن الأوان لهذه الحكومة أن تقول الحقيقة ndash; بأنها انتخبت لأنها تؤمن بأن الدولة الفلسطينية هي خطر وجودي على إسرائيل، ولليهود حق في الاستيطان في أي مكان في أرض إسرائيل، وفي البناء - ليس فقط لسد احتياجات النمو الطبيعي- وإذا لم نقم بذلك سننزلق من السيئ إلى الأسوأquot;، منتقدًا ما أسماه تنازلات نتنياهو بقولهquot; quot;نتنياهو استسلم مرة أخرى، وبشكل مهين للرئيس الأمريكي، فبعد قبوله الدولة الفلسطينية والخروج العسكري من مدن الضفة، يقبل الآن تجميد الاستيطانquot;؟.

ومن ثم يمكن تفسير تشدد حكومة نتنياهو حيال تجميد الاستيطان في أحد أبعاده بخضوعها للضغوط سالفة الذكر ناهيك عن توجهاتها اليمنية وتشكيل الائتلاف الحاكم الذي يضع النشاط الاستيطاني على قائمة أولوياته لاجتذاب تأييد اليهود المتدينين من قاطني المستوطنات، بما يعني أن حكومة نتنياهو لا يمكنها تقديم أي تنازلات في المفاوضات مع الطرف الفلسطيني ولا يمكن اعتبارها بأي حال شريكًا يمكن الاعتماد عليه مستقبلاً في عملية التسوية.