لو قدر للزمن أن يعود الى ما قبل 2005 فالأرجح للندن أن تتجنب السعي لاستضافة ألعاب أولمبياد 2012 كما يتجنب المرء الطاعون. فقد غيّرت الأزمة المالية العالمية والفقر الذي تبعها الظروف كافة. وبالإضافة إلى هذا، فهي تواجه الآن ما وُصف بأنه laquo;مهزلةraquo; تتعلق بالإجراءات الأمنية.


صار دأب المنافسات الرياضية الدولية أن تجد نفسها محاطة بجدل يلقي بظلال سلبية عليها حتى قبل أن تبدأ. فما إن اقترب موعد المنافسات على كأس الأمم الأوروبية لكرة القدم 2012 laquo;يورو 12raquo; في بولندا وأوكرانيا حتى انصرفت وسائل الإعلام الدولية بالكامل تقريبا الى التهديدات والمخاطر العنصرية التي يواجهها اللاعبون السود في كل من الدولتين الشرق أوروبيتين.

وفي السنوات الأخيرة، صار موعد سباق laquo;لا تور دو فرانسraquo; (طواف فرنسا) لا يحين حتى يتهيأ الجميع لفضائح المنشطات العضلية المحظورة التي صاحبت أشهر سباق للدراجات في العالم منذ بدئه في 1903. وبلغ الأمر حرمان عدد من الفائزين بها حتى بعد تمتعهم بالمجد، ولا يُنسى في هذا الصدد بالطبع - على سبيل المثال وليس الحصر - الاسطورة الأميركي لانس آرمسترونغ وظلال الشك التي تظل تطارده حتى اليوم.

فرحة وئيدة

...والآن يأتي دور اولمبياد لندن 2012 الذي يبدأ في 27 من الشهر الحالي ويستمر حتى 12 المقبل. والواقع أن احتفالات فوز العاصمة البريطانية بهذا الشرف وئدت في مهدها. فقد تصادف أنه بعد يوم واحد من إعلان ذلك الفوز في 6 يوليو / تموز 2005، شهدت المدينة أكبر هجمات إرهابية على شبكة مواصلاتها، فأدت الى مقتل 52 شخصا وجرح المئات في ما صار يعرف بـlaquo;7/7raquo; على غرار laquo;9/11raquo; وهو يوم الهجوم الإرهابي على الولايات المتحدة.

وما إن بدأ غبار هذه الحادثة التاريخية يهدأ قليلا حتى وجد العالم نفسه غارقا في أسوأ كارثة مالية منذ الكساد الكبير في الثلاثينات. ولأن الحكومة البريطانية خصصت ميزانية للاولمبياد قدرها 9 مليارات جنيه (حوالي 14.5 مليار دولار)، فقد بدا هذا المبلغ laquo;خارجا بالكامل عن حدود المعقولraquo; في وقت كهذا.

ويصح القول إن لندن صارت نادمة على فوزها باستضافة الأولمبياد، خاصة مع تصاعد ميزانيته الحقيقية من 9 مليارات جنيه مبدئية الى 11.5 مليار في وقت ما العام الماضي الى مبلغ غير معروف على وجه الدقة الآن، وإن كان البعض يتحدثون عما بين 13 و15 مليار جنيه مع عودة الحياة العادية الى البلاد حوالى نهاية الشهر المقبل.

وحتى شعار الأولمبياد نفسه صار محل جدل إذ وصف بالقبح وبأنه لا يعبّر عن روح لندن بأي شكل كان إلى آخره من جدل طويل. والآن تنشأ مشكلة أخرى هي تخصيص أقسام واسعة من شبكة الطرق اللندنية (التي تضيق بالسيارات أصلا) لتنقلات مسؤولي المناسبة والمتنافسين المشاركين فيها. وبلغ الضيق بسائقي التاكسيات laquo;بلاك كابraquo; حد أنهم سدّوا بسياراتهم المنافذ الى مبنى البرلمان وأوقفوا حركة المرور في قلب لندن يوم الثلاثاء احتجاجا على هذا الأمر.

تشييد القرية الأولمبية وحده كلّف نحو 1.1 مليار جنيه

مهزلة أمنية

وكأن هذا كله غير كاف، صار الحديث عن اولمبياد لندن في أوساط الإعلام البريطاني منصبّا كله تقريبا على ما وصف بأنه laquo;أكبر مهزلة أمنية في تاريخ البلاد الحديثraquo;. فقد اتضح في الأيام الأخيرة أن G4S (laquo;جي فور إسraquo; المعروفة سابقا باسم Securicor laquo;سيكيوريكورraquo;)، وهي المؤسسة التي فازت بعقد تأمين الألعاب استنادا الى سمعتها كأكبر مؤسسة أمنية خاصة في بريطانيا، laquo;عاجزة تماما عن أداء مهمتها وهي حفظ الأمنraquo;.

ويعود السبب في هذا التطور الصادم الى اعتراف المؤسسة بأنها أخفقت في تجنيد العدد الكافي من الحراس اللازمين لضمان أمن الألعاب. وعندما استدعى البرلمان رئيس إدارتها التنفيذي نِك باكيلز (الذي يحصل على 1.2 مليون جنيه راتباً في السنة) لمساءلته عن الموقف، أقرّ صراحة بأن المؤسسة laquo;أساءت تقدير حجم المهمة الملقاة على عاتقهاraquo;، وقال إنها laquo;عاجزة بالتالي عن أداء هذه المهمةraquo;.

وكان هذا رغم أن هذه المؤسسة توظف لديها قرابة 660 ألف شخص في مختلف أنحاء الدنيا (ولاحظ أن هذا العدد أكبر من تعداد دولة لكميسرغ البالغ 510 آلاف شخص). لكن السواد الأعظم من اولئك الموظفين إداريون ولا شأن لهم بالعمل الأمني الميداني أنفسهم.

واتضح ايضا أن المؤسسة - في يأسها إزاء تأمين العدد اللازم للحراسة - حاولت تجنيد عدد غير معروف من صغار المراهقين غير الملمين بأبسط قواعد حفظ الأمن، وتجنيد غيرهم من أناس لا يتحدثون الانكليزية حتى بما يقارب مستوى التخاطب.

نجدة من الجيش والشرطة

أمام هذا الوضع لم تجد الحكومة البريطانية مخرجاً أمامها غير اللجوء الى الشرطة والجيش لحماية الأولمبياد. وتقول تقارير إنها تعمد الآن الى تجنيد 10 آلاف شرطي و13 ألفا و500 فرد من القوات المسلحة. وإضافة الى هذا، فهي تتهيأ لتوظيف عتادها الحربي الجوي والبحري .

ويشمل هذا نصب قاذفات الصواريخ أرض - جو، وفرطاقات حربية على نهر التيمز، ومقاتلات laquo;يوروفايترraquo;، إضافة الى منع الطيران فوق الأجواء الأولمبية.
وهكذا ارتفعت تكلفة الإجراءات الأمنية الإضافية خلال الألعاب نفسها من 282 مليون جنيه الى مبلغ يقدر بما بين نصف المليار ومليار جنيه. وبذلك تصبح هذه أكبر عملية أمنية تشهدها بريطانيا على مدى عقود طويلة. ولتقريب الصورة فإن عدد الجنود الذين سيوظفون لهذه المهمة (13500 جندي) يزيد عن عدد المقاتلين البريطانيين في أفغانستان.

وساطة بين العصابات

التصدي للإرهاب ليس الهاجس الوحيد الذي يستدعي إجراءات أمنية على هذا المستوى. لكن حتى هذه نفسها لا تكفي للتصدي لمشاكل أخرى أقل تعقيدا مثل الجريمة العادية. ولأن الحفاظ على الأمن مسألة تتصل بالوعي العام ومشاركة الجمهور في التصدي لها، فثمة مبادرة تستحق الإشارة اليها.

ففي دائرة نيوهام شرق لندن، الواقعة على مشارف ملعب الاولمبياد وتعتبر laquo;مدخل السياحraquo; اليه، نجحت محاولات لإقناع 220 من صغار الشباب (بين 16 و21 سنة) في برنامج لمنع النزاعات المحتمة أن تنشأ بين العصابات في المناخ الجديد الذي تعيش فيه العاصمة، وبالتالي صرف جهود القوات الأمنية الى مكافحة أي عمل تخريبي - إرهابي. ويأتي كل هذا في إطار برنامج يسمى Truce 20/20 laquo;هدنة 20/20raquo; (20/20 ترمز الى سلامة العين والنظر).


ونقلت صحف عن مديرة البرنامج، كلوديا بريزنا، قولها: laquo;استقينا فكرة laquo;الهدنةraquo; (بين عصابات الجريمة المتناحرة) من تقليد الأولمبياد الإغريقي الذي يضمن وقف أي قتال منذ الأسبوع السابق للأولمبياد وحتى الاسبوع التالي له فيضمن الناس مجيئهم ورواحهم في أمانraquo;.

على غرار قوات حفظ السلام

بلغ من الاهتمام بهذا البرنامج حد الاستفادة من خبرات الأمم المتحدة في حفظ السلام في مناطق الحروب مثل سري لانكا بوروندي والكونغو وغيرها. فاستعين بخبراء شاركوا في الوساطات الدبلوماسية بين الأطراف المتحاربة في هذه الدول.

وطُلب الى هؤلاء تدريب المنخرطين في صفوف laquo;تروس 20/20raquo; لمدة 10 أسابيع على فض النزاعات التي ستنشأ حتما وسط عصابات الجريمة المنطقة حول فرض النفوذ والاستحواذ على أكبر رقعة ممكنة من الأرض لممارسة أنشطتها.

وقد بدأ هذا البرنامج منذ أكثر من سنتين فاستضاف في 2010، على سبيل المثال، البيرتو فوركيلها. وكان هذا من laquo;المحاربين الأطفالraquo; في موزامبيق، لكنه استفاد من تجربته المريرة لإدارة برنامج للسلام في موطنه بعد الحرب الأهلية.

وألقى هذا الرجل (في الأربعين من عمره الآن) محاضرات عدة على المنخرطين في البرنامج اللندني عن السبل الفضلى للتحاور مع قادة الفرق المتحاربة والتوسط بينهم حتى على أصغر رقعة من الأرضية المشتركة.

وكانت الفكرة وراء محاضراته - وآخرين مثله توسطوا في مختلف الحروب - هي إعداد كادر من شباب شرق لندن قادر على إحلال السلام بين مختلف عصابات المنطقة المعتبرة الأفقر في عموم العاصمة ويؤمل أن يصبح الأولمبياد أكبر منعطف لها نحو الازدهار.