ثبت الإسباني رافايل نادال مسلَّمة في عالم تكثر فيه التكهنات وتقل الوقائع: عندما يحين موعد بطولة رولان غاروس الفرنسية في كرة المضرب، وبغياب مفاجأة لم يتوقعها أشد المتشائمين، سيخرج هو منتصرا، كما فعل الأحد بإحرازه اللقب الثاني عشر.

أصبح نادال الذي أتم هذا الأسبوع عامه الثالث والثلاثين، أول لاعب بين الرجال والسيدات يحرز لقب إحدى بطولات الغراند سلام 12 مرة. ألقاب البطولة الفرنسية المقامة على ملاعب ترابية، تشكل ثلثي إجمالي عدد ألقابه في الغراند سلام (18 لقبا).

كرر نادال المصنف ثانيا الأحد فوزه على النمسوي دومينيك تييم الرابع، في تكرار لمواجهتهما النهائية العام الماضي. بنهاية بطولة 2019، رفع نادال رصيده على الملاعب الباريسية الى 93 فوزا مقابل خسارتين فقط.

بات من الواضح أن أحدا لن يتمكن من منافسة نادال على الأرضية الترابية المحببة لديه في البطولة الأقرب الى قلبه. منافسه في نصف النهائي، السويسري روجيه فيدرر، حامل الرقم القياسي في ألقاب البطولات الكبرى، تقبل بتواضع الهزيمة التي تلقاها بثلاث مجموعات نظيفة، وكانت الأسوأ له في بطولة كبرى منذ 11 عاما.

قال السويسري المصنف ثالثا "لا أحد يقدم أداء يقترب ولو بعض الشيء من رافا (...) لا أعرف مع من أتمرن ليكون في مستوى مشابه له حتى".

لا يرحم الإسباني على التراب الذي يجري في عروقه كالدم القاني. "الماتادور" الذي يبذل طاقة بدنية هائلة مع كل كرة، ويصدح صوته في الملعب مع كل ضربة، يُعرَف في أوساط اللاعبين بالتواضع الذي يُغفَر للاعب مثله، حقق ما حققه، بأن يتنازل عنه بعض الشيء.

لكن إبن مايوركا المولع بصيد السمك، الهادئ المبتسم خارج الملعب، والغاضب الهادر كالاعصار بين خطوطه، بقي كما هو، يرتمي على الأرض كلما فاز، وتغافل الدموع ابتسامته كلما رفع الكأس.

قال نادال في تصريحات سابقة "تساورني الشكوك (بأدائه) كل يوم، لكن هذا أمر جيد لأنه يدفعني الى بذل جهد أكبر".

اللاعب الذي عانى على مر الأعوام من إصابات في الركبة والرسغ، وجد دائما السبيل للعودة والتفوق. بالنسبة إليه "الحياة ليست واضحة أبدا. اذا لم يساورك الشك، تكون شديد التعجرف. أنا لست شخصا متعجرفا".

- مراهق، عشريني، مخضرم... -

هذا التواضع هو أحد الأسباب الرئيسية التي تدفع المشجعين الى الهتاف "رافا، رافا" مع كل محاولة أو قبل كل ضربة إرسال. هو أيضا ما يكسب الإسباني صاحب البنية الجسدية الصلبة، احترام الخصوم الذين لا يجد حرجا في التصفيق لهم كلما قدموا ضده لمحة فنية، وإن كانت قد كلفته النقطة أو الشوط.

حتى حركاته "المزعجة" على أرض الملعب، تحولت الى صفات محببة لديه. "تقاليده" المطولة التي تسبق كل ضربة إرسال (الإمساك بسرواله القصير من الخلف، تمرير يده على وجهه...)، هوسه بطريقة صف قوارير المياه في الزاوية المخصصة لاستراحته...

باتت هذه الحركات جزءا من "جينات" نادال الذي بات بلقب الأحد، أقرب من أي وقت الى من يحظى بشبه إجماع على أنه أفضل لاعب على مر التاريخ، أي فيدرر (37 عاما) حامل الرقم القياسي مع 20 لقبا كبيرا.

في مسيرته، توج نادال 12 مرة في رولان غاروس، مرة في بطولة أستراليا المفتوحة، ثلاث مرات في فلاشينغ ميدوز الأميركية، ومرتين في ويمبلدون الإنكليزية، البطولة المقامة على ملاعب عشبية تعد المفضلة للسويسري.

في المنافسة مع فيدرر، تفوق نادال في المواجهات المباشرة، مع 24 فوزا (آخرها نصف نهائي رولان غاروس) مقابل 15 خسارة. لكن الفوز الأجمل الذي حققه الإسباني أتى في البطولة المفضلة للسويسري: نهائي ويمبلدون 2008، المباراة التي اعتبرت من الأجمل - إن لم تكن الأجمل على الإطلاق - في تاريخ المواجهات النهائية في البطولات الكبرى.

لكن الملاعب الترابية لا تزال نقطة قوة نادال، وفيها حقق 59 لقبا من ألقابه الـ82، ومنها 34 لقبا قياسيا في دورات الماسترز ألف نقطة.

على مر الأعوام، تحول نادال الى ركن أساسي في "الثلاثي الكبير" لكرة المضرب، مع فيدرر والصربي نوفاك ديوكوفيتش المصنف أول حاليا. وهو، كحال السويسري والصربي، جمع أكثر من 100 مليون دولار كجوائز مالية في مسيرته.

حكايته مع الألقاب بدأت في الصغر، عندما توج وهو في الثامنة من عمره، بلقب دورة إقليمية للاعبين ما دون 12 عاما. بحلول سن الثانية عشرة، كان قد توج بطلا لإسبانيا وأوروبا في الفئات العمرية.

أصبح محترفا في سن الخامسة عشرة، وتمكن بعد عامين من الفوز على فيدرر في أول مباراة بينهما (دورة ميامي للماسترز 2004)، وحقق بعد عام أول ألقابه في رولان غاروس... في مشاركته الأولى فيها.

جمع خلال مسيرته الألقاب الأربعة الكبرى، وأضاف الذهبية الأولمبية في بكين 2008، ليصبح ثاني لاعب حقق الانجازين بعد الأميركي أندري أغاسي. كما قاد إسبانيا الى أربعة ألقاب في كأس ديفيس.

في 2015 و2016، فشل في بلوغ نصف النهائي في أي من البطولات الكبرى بعد المعاناة مع الإصابات، ما دفع الكثيرين الى الهمس بأن أفضل أيامه قد انتهت دون رجعة. لكن الإسباني عاد وبقوة، وبلغ نهائي أستراليا المفتوحة 2017 قبل أن يخسر أمام فيدرر، وأصبح في الموعد التالي (رولان غاروس 2017) أول محترف يتوج عشر مرات في بطولة كبرى، وأضاف لقب فلاشينغ ميدوز الأميركية في أيلول/سبتمبر من العام ذاته.

هو ثالث لاعب فقط بعد الأميركي بيت سامبراس والأسترالي كين روزوول، يحقق لقبا كبيرا في ثلاثة مراحل عمرية مختلفة: سنوات المراهقة (العقد الثاني)، والعشرينيات والثلاثينات.

بعد فوزه الأحد، قال الإسباني بتأثر "الفوز مجددا هنا هو حلم يتحقق، لحظة مذهلة. عندما لعبت للمرة الأولى هنا في 2005، لم أعتقد أنني سأكون ألعب هنا حتى 2019 (...) هذا أمر مميز جدا بالنسبة إلي".