تزامنا مع نشر مذكراته، ناقض الرئيس الاميركي السابق جورج بوش نفسه، عندما اعلن عدم اكتراثه برأي الآخرين في قراراته السياسية خلال ولايتيه السابقتين، فيما رأى محللون ان موقفه من الرأي العام يتنافى مع الواقع، وانه اذا كان لا يعبأ بتقييم شخصيته حالياً، فليس ثمة شك في انشغاله بنظرة التاريخ له بعد 20عاماً.
واشنطن: قال الرئيس الاميركي السابق جورج بوش في تصريحات صحافية متواترة منذ صدرت مذكراته يوم الثلاثاء، انه لا يكترث إن احبه الآخرون أم لا، ولا يهمه ان يُعد أقل الرؤساء شعبية في تاريخ الولايات المتحدة، كما انه لا يطالع بالأساس نتائج استطلاعات الرأي العام. واعلن بوش في مقابلة تلفزيونية هذا الاسبوع: quot;إنني خدمت وعملت ما بوسعي وأنا رجل مرتاحquot; الضميرquot;.
دهشة المراقبين
اثارت تصريحات بوش الابن التي اطلقها في مختلف المحافل دهشة المراقبين، إذ اعتبرها البعض مناقضة لطموح يتطلع اليه ربما قد يراه النور بعد عشرين عاماً، ورأى مراقبون انه من الغريب ان يطلق بوش هذه التصريحات في مستهل حملة لترويج مذكراته، وهي بالتأكيد تصريحات غير مسبوقة في تاريخ الرئاسة الاميركية. لكن بوش اطلق هذه التصريحات وسيطلقها في مقابلات تليها أخرى خلال الايام والاسابيع المقبلة. وتدليلاً على حالة التناقض التي تبدو من تصريحات بوش، قال المراقبون في واشنطن: quot; ان مَنْ يمنح نفسه لهذا العدد من المقابلات في غضون اسابيع قليلة، لا يُعد غير مكترثاً بنظرة الآخرين اليه أو بانطباعاتهم عن ولايتهquot;. وتكتب المعلقة آن ابلبوم في صحيفة الديلي تلغراف ان الرئيس السابق قد لا يكترث بتصورات الآخرين عنه quot;في هذا التوقيت بالذاتquot; ولكن حساباته تذهب ابعد من الوقت الحاضر.
تكشف مذكرات بوش انه قارئ نهم لكتب التاريخ من بين اشياء اخرى، وانه تسابق ذات مرة مع مستشاره كارل روف في عدد الكتب التي يقرؤها كل منهما في سنة. وفاز روف الذي قرأ 110 كتب و40347 صفحة مقابل 95 كتابا و37343 صفحة قرأها بوش الابن.
وتشير المعطيات الى ان بوش بوصفه قارئا للتاريخ يعرف ان عدة رؤساء اميركيين قبله غادروا البيت الأبيض وشعبيتهم في أدنى مستوياتها ولكن النظرة اليهم تغيرت في ضوء الأحداث اللاحقة. وبعض هذه الحالات معروفة في اميركا، لا سيما اعادة النظر في تقييم هاري ترومان. فعندما انتهت ولاية ترومان كانت شعبيته في ادنى مستوى بسبب الحرب الكورية. ومرت سنوات قبل ان يحظى بالتقدير على ادراكه الخطر السوفيتي في وقت مبكر وقراره اطلاق مشروع مارشال لاعادة اعمار اوروبا والمبادرة الى طرح فكرة تأسيس حلف شمالي الأطلسي. وهو يعتبر الآن من افضل رؤساء القرن العشرين.
ترومان ايضا كتب مذكرات شعبية. ومن الواضح ان عنوان احد اجزاء مذكراته، quot;1945: عام القراراتquot; أثر في اختيار بوش عنوان مذكراته quot;نقاط القرارquot;. ولا شك في ان رحلة رد الاعتبار الى ترومان أثرت في حملة بوش الدعائية لترويج مذكراته ايضا. ولعل بوش لا يكترث بنظرة الرأي العام اليه الآن ولكنه شديد الاهتمام بما سيكتبه المؤرخون عنه بعد عشرين عاما. وهو يرى ان حربه في العراق تُعادل حرب ترومان في كوريا وان كتابه عن quot;القراراتquot; يردد اصداء كتاب ترومان عن quot;القراراتquot;، وان الشعب سيتفهم في النهاية دوافعه مثلما توصل في نهاية المطاف الى تفهم دوافع ترومان.
موقع في التاريخ
بوش ليس فريدا في هذا الاعتقاد. فان غالبية الرؤساء اليوم، مثلهم مثل غالبية رؤساء الوزراء، يمضون السنوات الأولى من ولايتهم في تأليف كتاب ويتسابقون احيانا لنشر كتاب بأسرع وقت ممكن. بعضهم يكون مدفوعا بحسابات مالية والبعض الآخر يريد ان يسبق منافسيه في رواية القصة، وغالبيتهم يلاحقون ذلك quot;الموقع في التاريخquot; الذي يزوغ منهم كل مرة. وحتى عندما يحققون مكاسب مالية ويهزمون منافسيهم فان النجاح لا يكون من نصيبهم جميعا، سواء أكانت مذكراتهم اعمالا تاريخية أو أدبية.
بيل كلنتون كتب مذكرات هابطة تبدو وكأنه سهر الليل بطوله في كتابتها فجاءت محشوة بالكثير من التفاصيل المملة. وريغان كتب عدة مذكرات لم تكن أي منها ناجحة. وتوني بلير انتهى مؤخرا من كتابة مذكراته التي نشرها قبل مذكرات خلفه جورج براون وبعد مساعده لشؤون العلاقات العامة بيتر ماندلسون. وفيها حاول ان يكون صادقا وثاقب الرؤية لكنه لم يفلح. ولكن حتى الأسوأ بين هذه الكتب يمكن ان يكون له تأثير في المواقف. ويعود هذا الى مرور الزمن من بين اسباب أخرى. فحين تنتهي ولاية رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء لا بد ان تخف حدة العواطف المصوبة نحوه ويعود المسخ كائنا بشريا.
بالطبع لم يكن بوش غبيا مثلما كان يظن خصومه ولا ريغان كان مهرجا او نكسون شيطانا في شكل آدمي. ومع ذلك فان هواية المطالعة عند بوش ستكون مفاجأة للكثيرين وكذلك كونه صاحب نكتة وان تهمة العنصرية وجهت اليه طعنة في الصميم وانه مستعد - وهنا المفاجأة - للاعتراف ببعض الأخطاء.
ولكن من المستبعد ان تتمكن مذكرات بوش أو حملته الدعائية لترويجها من مساعدته في مبتغاه الحقيقي، ذلك الموقع الذي يطمح باحتلاله في التاريخ، سيما ان رد اعتبار ترومان لم يتحقق بفضل مذكراته، بل لأن الحرب العالمية الثانية اثبتت صواب احكامه بشأن ستالين والمشاريع السوفيتية من وجهة نظر غربية. وعلى الغرار نفسه فان الاحداث اللاحقة في العراق وافغانستان والولايات المتحدة نفسها ستحدد الحكم على رئاسة بوش.
التعليقات