عراقيات يعرضن صورا لابنائهن المفقودين

تشير تقديرات عراقية ودولية إلى أن أكثر من نصف مليون شخص فقدوا في العراق خلال السنوات الماضية، في وقت لا تزال فيه أمهات المفقودينيأملن بعودة أبنائهن ويرفضن الاستسلام لفكرة أن أولادهن لن يعودوا.


ينظر حاتم سيد حسين من بابل بعين الأمل لمعرفة مصير أخيه المفقود منذ خمس سنوات، وهو يتابع جلسات منظمة المدافعين عن حقوق الإنسان التي نظمت بالتعاون مع مركز بابل لحقوق الإنسان والتطوير المدني الأسبوع الماضي .
وفقد حاتم اخاه عام 2005 شمال مدينة الحلة حين كان في رحلة عمل الى بغداد . ومنذ ذلك الحين تعددت الإشاعات حول المصير، فثمة من يعتقد انه اختطف لأسباب طائفية ، ووجهات نظر أخرى تقول انه قُتل لغرض سرقة ما بحوزته من أموال .
وتختزن النفوس العراقية الكثير من العواطف الحزينة والآمال المرجوة حول مصائر الذين اختفوا عبر سنين من الحروب الداخلية والخارجية .

تجربة طويلة
ومنذ الخمسينات اعتاد العراقيون سماع ومعايشة حوادث اختطاف كانت فردية في تلك السنوات لكنها ازدادت عددا في الستينات والسبعينات حتى اذا بدأ عقد الثمانينات ، حين نشبت الحرب العراقية الإيرانية (1980 - 1988) ، حيث صارت أعداد المفقودين ظاهرة اجتماعية يعانيها المجتمع العراقي لاسيما الأمهات اللواتي لا يكبتن عواطفهن الحزينة تجاه فقدهن الابن والأخ والزوج ، ويبقين مخلصات للذكرى ويحاولن تجديدها كلما مضى الزمن.

وخلّفت الحرب الإيرانية - العراقية إرثاً صعباً لعشرات الآلاف من العائلات ، التي الى الآن تنتظر الحصول على أخبار عن المفقودين ، ذلك ان البعض ما زال يعتقد ان هناك أسرى محتجزين لدى إيران .

إخلاص الأم العراقية
ومثال إخلاص الأم العراقية لأحبتها المفقودين ما تفعله ام حسين إلى الآن ، فرغم انها فقدت ابنها في الحرب العراقية الإيرانية إلا أنها مازالت تحرص على تأثيث غرفته التي تركها ومضى ، حيث تجدد الفراش، وتمسح الأدراج والصور على أمل ان يعود ابنها مجهول المصير ذات يوم .

لكن الابن الأكبر أبو علي يقول ان أمه التي أوهنها الزمن مازالت تنتظر بأمل ولعل هذا يمدها بالقوة والصحة ، فرغم مضي السنين الا انها بقيت مخلصة لذكراه .
ورغم ان أبا علي يدرك جيدا ان أخاه كان ضحية الحرب ومن المؤكد انه دفن في الصحراء بين العراق وإيران كما روى له رفاق الحرب وقتها ، الا ان هناك بصيص أمل في ان يكون الى الآن أسير حرب لدى السلطات الإيرانية .

أمل في العودة
ورغم تعاقب السنين على الحرب بين العراق وايران الا ان الكثير من الأمهات العراقيات يرفضن التسليم بان أولادهن قتلوا في الحرب ، فمازالت ام عصام تجزم ان ابنها ما زال أسير حرب وتدعو السلطات الإيرانية الى الإفراج عنه .
وشهدت الحرب العراقية الإيرانية فقدان الآلاف من شباب العراق بين قتيل وأسير .

تبادل الرفات البشرية
وفي عام 2003 شهدت الحاجة أم تيسير(70 سنة ) مراسم تبادلالرفات البشرية بين العراق و إيران وقد حملت صورة ابنها المفقود ، لكن ذلك لم يسفر عن شيء .
ورغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على انتهاء الحرب العراقية الإيرانية ، فان أم رؤوف تأمل في عودة ابنها المفقود عام 1985.
و بحزن بالغ تقول أم تيسير: غادر ابني المنـزل منذ أكثر من ثلاثين سنة ، سأستمر في الانتظار ، ولا اعتقد انه كبر الآن فما زال في ذاكرتي شابا في العشرين .

مفقودون في حرب الخليج الثانية
وما ان انتهت الحرب حتى عايش العراقيون موجة ثانية من مفقودي حرب الخليج الثانية ( 1990 ndash; 1991 ) ، واغلب هؤلاء المفقودين هم قتلى دفنوا في الصحراء على تخوم الكويت .
وتروي أحلام العبيدي كيف ان زوجها المشارك في حربالخليج الثانية ، اختفى من دون سابق إنذار ، ولم تستطع إلى الآن ان تعرف حقيقة ما حدث ، والإشارة الوحيدة التي التقطتها كانت من احد رفاق السلاح الذي اخبرها ان زوجها عصام كان يستقل سيارة عسكرية حين تعرض لقصف الطائرات بالقرب من الحدود العراقية الكويتية .

وترك عصام أطفالا صغارا حينما فقد عام 1991 ، صاروا الآن فتيانا ، يعلقون صورة ابيهم في غرفة استقبال الضيوف .
ويقول عصام الجنابي الذي كان جنديا مشاركا في حرب الخليج انه دفن ورفاقه العشرات من الجثث وفقاً للشعائر الإسلامية ، كما دفنت القوات العراقية والكويتية والسعودية وقوات التحالف الآلاف من الجثث التي بقيت في الصحراء .

وبحسب الجنابي فان اغلب الجنود المدفونين يمكن التعرف إليهم عبر هوياتهم التي دفنت معهم ، او عبر الفحوصات الطبية ، لكن ذلك يتطلب عملا جبارا مكلفا ومنظمات دولية متخصصة ، حيث سيساعد ذلك مئات العائلات التي فقدت أقاربها إبان حرب الخليج على معرفة مصير ذويها.
ووفق القانون الدولي الإنساني، فان للعائلات الحق في معرفة مصير أقاربها، وتقع على عاتق أطراف النزاع مسؤولية الكشف عن المفقودين.


مفقودون في الحروب الداخلية
وبعد الانسحاب العراقي من الكويت ، وبعد ان فقد العراقيون المئات من الشباب المشاركين في الحرب ، حتى اذا انتهت ، كان مصير الكثير التغييب والفقدان خلال فترة الفوضى الأمنية والانتفاضة المسلحة ضد السلطات بعد خروج الجيش العراقي من الكويت ، حيث فقد جراء الحرب الداخلية التي نشبت في مختلف المدن المئات من الشباب ، وبينما قتل الكثير منهم ، فرّ آخرون الى السعودية كما هرب آخرون الى إيران.

و أملت الحاجة ام علي ان يكون ابنها ضمن معتقلي رفحاء الصحراوي ، طيلة سنين ، لكن الأيام كشفت عدم صحة ظنونها بعدما عاد الجميع تقريبا ،لكن ابنها لم يعد.

وما زالت ام علي متشبثة بأمل بدا ضعيفا جدا : اخبروني ان هناك بعض الشباب في معسكر رفحاء وأملي ان يكون ابني معهم .
لكن ابنها حكيم لا يؤيد ما تذهب اليه والدته ويقول بلغة واضحة ان أخاه دفن في الصحراء . ويتابع : نحرص ان لا نبوح بذلك أمام أمنا التي أتعبتها السنون ، والانتظار وحكايات الابن المفقود .


الأم العراقية ترفض اليأس
وتتشابه قصة ام علي مع حكايات اغلب الأمهات العراقيات اللواتي يرفضن الاستسلام لفكرة فقدان الابن او الأخ.
وتقول الشابة احلام عن أمها التي فقدت ابنها الأكبر في الحرب الطائفية عام 2005 ، ان تعاقب السنين لم يغير في فكرة quot; عودة الابن quot; التي تؤمن بها . وتتابع : الام العراقية مخلصة بعواطفها وهي صادقة لا تتصنع الموقف ، وتظل وفية ، مهما طالت السنين .

وتشير إحصاءات المنظمات المحلية والدولية العاملة في العراق إلى ان اعداد المفقودين بعد عام 2003 تجاوزت النصف مليون شخص تم اختطافهم بدوافع طائفية من قبل ميليشيات فرق الموت وتصفيات سياسية من قبل ميليشيات وأحزاب ، وأثناء تصفيات واسعة استهدفت النخب العلمية والعسكرية والثقافية والسياسية .

امهات في مقبرة السلام
وما زالت الحاجة ام رحمن تزور قبر ابنها في مقبرة السلام في النجف رغم مضي عشرين سنة على مقتله في الحرب العراقية الايرانية .
وفي كل شهر تحمل ام رحمن أمتعتها تزور القبر وتسقيه بالماء وتقرأ عنده القرآن حيث تقضي ساعات هناك .
وتقول ام رحمن انها لم تنقطع طوال هذه الفترة عن زيارة قبر ابنها . وتتابع : اذا لم أزره يراودني خياله في المنام ، ويعاتبني على تقصيري في زيارته .

قلب منكسر
ويقول حميد الذي فقد أخا له في الحرب العراقية الإيرانية كما فقد اثنين آخرين في الحرب الطائفية بعد عام 2003 ، ان مشاعره المتألمة لا تقارن بالعاطفة الحزينة والقلب المنكسر الذي تحمله الأم العراقية التي فقدت أبناءها في الحروب .
ويتابع : رغم حرصي على استذكار إخوتي المفقودين إلا ان ذلك لا يبلغ حجم الألم الذي تحمله الأم . ويضيف : كان الحرص الشديد لدى العائلة ان لا تعرف الأم بحقيقة ما جرى وقد فعلنا ما بوسعنا لتجنب ذلك ، لكن حدس الام بأبنائها كان كبيرا ، وقادتها عاطفتها إلى ان أمرا جللا قد حدث ، فاضطررنا الى البوح لها بحقيقة ما حدث .