كسرت أحداث العالم العربي الأخيرة قوالب ظلت سائدة على مدى أكثر من 20 عاما، وأربكت الغرب وحكام المنطقة إذ وضعتهم إزاء وضع غير مسبوق تغيّر فيه ترتيب القطع على نحو فجائي. لكن البذور غُرست منذ زمن وها هو الغرس يطل برأسه.


تبعا لوجهة النظر الغربية فقد كان الشرق الأوسط مقسّما الى ثلاث كتل واضحة في تركيبته السياسية: الأولى، اتفاقية السلام الراسخة بين مصر والأردن وإسرائيل. والثانية، الأنظمة الملكية والأميرية الموالية للولايات المتحدة في الخليج. والثالثة، الأنظمة الاستبدادية، التي بدا أنها لا تتزحزح، بعرض شمال أفريقيا وغيره.

لكن ثورتي تونس ومصر والاحتجاجات الجماهيرية الشجاعة التي أحدثتها في المنطقة خلال الأسابيع القليلة الماضية أتت بتغيير هائل الى ذلك الوضع الذي ساد خلال الأعوام العشرين الماضية. وهكذا وجد صنّاع القرار الغربيون وقادة المنطقة أنفسهم إزاء حقائق مربكة كامنة تحت سطح الحسابات الجيو- استراتيجية الممكنة.

فالمشاكل الاقتصادية المتعطنة ألقت بدثارها تغطي به كامل المنطقة، وخرج الشباب يطالب بسماع صوته وحقه في رسم ملامح المستقبل. وفي عالم الفضائيات والإنترنت والمواقع الاجتماعية أصبح التصدي لأشياء كهذه في غاية الصعوبة. وفوق هذا وذاك، أزاحت مصر - اللاعب الرئيس في المنطقة - نفسها بعيدا عن المؤثرات الخارجية، على الأقل في المستقبل المنظور.

القالب المكسور

باختصار فإن الشرق الأوسط يكسر الآن القالب الذي اعتاد عليه حكام المنطقة وصنّاع القرار في الشرق والغرب على حد سواء. وراحت الدول الرئيسة تجرّ نفسها بعيدا عن بعضها بعضا. وهذا يعني أن الصيغ القديمة التي كانت تضمها جميعا تحت جناح واحد وتصلح لها باعتبارها كينونة متماسكة ما عادت صالحة الآن. وفي هذا الصدد تنقل laquo;وول ستريت جورنالraquo; عن اميل هوكايم محلل شؤون الشرق الأوسط في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية البحريني قوله: laquo;كل هذه الدول تمر بمرحلة انتقالية حساسة. فهل تستطيع الولايات المتحدة فرض صيغة تصلح للكل؟ سيكون هذا أمرا في غاية الصعوبةraquo;.

وتستعرض الصحيفة الأسباب الكامنة وراء الوضع الراهن في الشرق الأوسط كالآتي:

* البحرين

أتى سعي الحكومة البحرينية إلى توسيع رقعة الحريات والسماح للشباب بالمشاركة في العملية السياسية بنتائج عكس ما كانت ترجوه. وراح النظام، منذ زمن، يضرب بيد من حديد ويُقابل بالمقاطعة وأحيانا بالتظاهرات العنيفة التي تبلغ ذروتها الآن. وهذا أمر لا يبشّر أنظمة الجيران في عموم الخليج بالخير.

* الأردن

النظام الأردني يجاهد لإحلال شيء من توازن المكونات اللازمة لبقاء الوضع السياسي على المدى الطويل، لكن هذا صار بعيد المنال. وهذا لأن الإصلاح الاقتصادي - مثل تقليص حجم الحكومة ووضع جزء كبير من القطاع العام في يد الخاص - حمل معه خطر أنه يأتي لصالح فئات معينة دون الأخرى.

وقد حاول الملك عبد الله تدارك الموقف بالنكوص عن تلك الإصلاحات، فزاد عدد الوظائف الحكومية ورفع الأجور في القطاع العام ايضا. على أن من المؤكد أن يضع هذان الإجراءان مزيدا من القيود على الاقتصاد ومزيدا من الضغوط المالية على حكومة تعاني أصلا ديونا تبلغ 20 مليار دولار.

* اليمن

النمو السكاني هنا أحد العوامل الرئيسة المسؤولة عن النقلة النوعية في أشكال الاحتجاج الشعبي الى شيء آخر هو التمرد العنيف من جانب الشباب. فقد تجاهل الآلاف منهم دعوة الأحزاب المعارضة للهدوء بعدما عرض الرئيس علي عبد الله صالح طائفة من التنازلات.

* ليبيا

أفرزت أربعة عقود من القمع السياسي العنيف غضبا شعبيا جديدا في أقاليم البلاد الشرقية. وأتى هذا على الرغم من لجوء معمر القذافي للتحرير الاقتصادي وعلى الرغم من الانفراج الدبلوماسي مع الغرب مؤخرا، وارتفاع أسعار النفط بما سمح بسلسلة هائلة من مشاريع البنية التحتية والمشاريع العمرانية في العاصمة طرابلس.

ابتداع بريطاني - فرنسي

الفسيفساء التي تؤلف الشرق الأوسط اليوم هي ابتداع بريطانيا وفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها. وجاءت بعد صفقات سرية بين القوتين الاستعماريتين وتبادل بينهما للأراضي وهما يتقاسمان بقايا مخلفات الامبراطورية العثمانية البائدة.

وأضيفت طبقات جديدة لهيكل الشرق الأوسط الأمني في السبعينات عندما أكملت بريطانيا انسحابها البطيء المطوّل من المنطقة تاركة الخليج كمحمية أميركية. وانتهى ذلك العقد باتفاقيات كامب ديفيد التي سار الأردن على خطاها حتى أقام السلام مع إسرائيل. وقد أُنجزت تلك الاتفاقيات بفضل مليارات الدولار من المساعدات من واشنطن وصارت حجر الزاوية في النفوذ الأميركي في المنطقة.

توازن صعب

ظل الوضع الأمني الاستراتيجي الأساسي في مكانه (المطلوب غربيا) لأكثر من 20 عاما. ونشأت أنظمة استبدادية خلقها العسكر بعد إطاحتهم الملكيات و/أو بقايا الفترة الاستعمارية القديمة في مصر والعراق وسوريا وتونس والجزائر وليبيا، وبقيت الأنظمة الملكية والأميرية في الخليج والأردن والمغرب. وكان بقاء الأنظمة رهنا بتأييدها او معارضتها السياسة الأميركية، وكان التوازن نفسه يتأتى من أن سوريا والعراق - حتى 2003 - كانا معارضيْن لها، ومصر والأردن والمملكة العربية السعودية مؤيدة.

وكانت أولى قطع الفسيفساء التي تنفصل عن البقية هي العراق. فقد أطاحت الولايات المتحدة دكتاتوره صدام حسين لتساعد على تشكيل أول حكومة عربية حديثة يهيمن عليها الشيعة. وفتح رحيل صدام الباب أيضا أمام النفوذ الإيراني الى العالم العربي. ولم يغب على شباب الشرق الأوسط أن هذه الحقيقة الجديدة، على الأقل في جزء صغير منها، نشأت من انتخابات عامة لا تفتقر الى المصداقية.

نتيجة طبيعية

مع كل هذا فلم يتغير الكثير في عموم المنطقة. فالطغاة، من أمثال حسني مبارك، صاروا أكثر استبدادا. وفي الخليج استندت الأنظمة الى مكوناتها التقليدية وخاصة المؤسسة الدينية. وفي سوريا تراجع وريث الحكم بشار الأسد عن وعوده بالإصلاح وبدأ يتصرف تماما مثل أبيه الذي حكم البلاد بقبضة من حديد حتى وفاته في 2000. وفي غضون هذا ضاقت ساحة العمل عبر المنطقة ووجد الشباب المتقاطرون اليها بالملايين كل سنة الطريق مسدودا أمامهم. وكان طبيعيا أن يؤدي كل ذلك الجمود السياسي والاقتصادي إلى ما نشهده من أحداث هذه الأيام.