تحوّل معمر القذافي خلال 42 عاما من حكم ليبيا من شاب ثوري إلى عقل مدبر للإرهاب الدولي، من حاكم طموح إلى تحقيق نهضة القومية العربية إلى شخص منبوذ دوليا، ومن مشروع quot;فيلسوفquot; كما كان يتصور نفسه إلى شخصية مهرجة يسخر منها الصديق قبل العدو.


الدائرة المقرّبة من القذافي ينتظرها مصير محفوف بالمخاطر

لندن: هناك صورتان قابلتان لأن تكونا مسندتين لمرحلة امتدت أربعة عقود حكم خلالها العقيد معمر القذافي ليبيا.

الأولى هي صورة أخذت له بعد أيام قليلة من وقوع انقلاب 1 سبتمبر(أيلول) 1969 الذي جلبه إلى السلطة. في الصورة الأولى، يظهر شاب ثوري ووسيم وشديد النحافة، يركع على رمل الصحراء مصليا.

وفي الصورة الثانية التي التقطت له قبل يومين تظهره مرتديا ملابس بدوية مع اندلاع الانتفاضة الشعبية في بنغازي على اثر اعتقال محام معني بحقوق الانسان في بنغازي واستمرارها في السيطرة على البلد. وفي هذه الصورة يظهر القذافي وهو يدافع عن quot;ثورتهquot; مقسما أنه سيستمر في النضال حتى الموت.

بين هاتين الصورتين هناك 42 سنة حكم خلالها القذافي بالحديد والنار، وخلالها التقطت آلاف الصور له وهو يتحول من شاب ناري ثوري إلى عقل مدبر للإرهاب الدولي، من حاكم جديد طموح إلى تحقيق نهضة القومية العربية بعد موت بطله ومثله الأعلى الرئيس المصري جمال عبد الناصر إلى شخص منبوذ دوليا؛ من مشروع quot;فيلسوفquot; كما كان يتصور نفسه إلى شخصية مهرّجة يسخر منها الصديق قبل العدو.

وأخيرا، وبعد سنوات من فرض العقوبات الدولية ضد ليبيا بدا وكأنه قد تم تأهيل العقيد القذافي على يد الغرب وتمت إعادته إلى المجتمع الدولي على الرغم من بقائه متمتعا بروح مقاتلة.

يكتب مؤلف كتاب quot;ليبيا الحديثةquot;، البروفسور الأميركي ديرك فاندويل من جامعة كولومبيا لصحيفة النيويورك تايمز، كيف أن الزعماء الغربيين ظنوا في البدء بعد ثورة 1969 أن النظام الجديد سيتبع الطريق نفسها التي سارت عليها المملكة الليبية والتي كانت سياساتها قريبة من الغرب، لكنهم أدركوا بعد قليل خطأ تصوّراتهم إذ اتضح أن العقيد القذافي ليس زعيما عربيا عاديا يتصرف وفق القواعد وآداب اللياقة الدولية.

حال تسلم العقيد القذافي السلطة أصبحت رسالته واضحة: إنه يرى نفسه وليبيا باعتبارهما قلعة ضد ما كان يراه ضراوة الغرب واستغلاليته.

وستصبح المرحلة الدموية للاستعمار الايطالي لليبيا - والتي امتدت ما بين عام 1911 و1943 وقتل خلال نصف سكان المنطقة الشرقية من ليبيا- نوعا من الهوس الملازم للعقيد القذافي.

قام الإيطاليون بتدمير أي كيان بيروقراطي أو إداري كان موجودا قبل غزوهم لليبيا لذلك كان لهذا البلد عدد قليل من الإداريين العصريين عند مغادرتهم له.

من جانب آخر ترك الملك إدريس الأول (الذي أظهر عزوفا على حكم ليبيا ككيان موحد) الأمور كما هي عليه مثلما تركها الإيطاليون خلال سنوات حكمه التي استمرت حوالى عشرين سنة.

في أوائل السبعينات من القرن الماضي، تمكن القذافي من كسب قدر كبير من المشروعية داخل بلده من خلال تأميم شركات النفط، لكن مع شكوك متزايدة به من قبل الغرب.

وفي منتصف السبعينات أظهر فقدانه الرؤية السليمة للأمور حين نشر بيانه الذي حمل اسم quot;الكتاب الأخضرquot; وهو كرّاس يضمّ مجموعة نصوص غير مترابطة قدمها باعتبارها الدليل الآيديولوجي لما رآه بثورة ليبيا quot;الدائمةquot;.

وبعد فترة قصيرة أصبحت محتويات هذا الكراس شعارات وطنية. يقول أحدها: quot;البيت لمن يسكن فيهquot;، مجبرا بذلك أصحاب البيوت الذين يملكون أكثر من بيت الى التخلي عن عقاراتهم أو التسرع بعقد زواج ما لضمان بقائها لعوائلهم.

كذلك يقول شعار آخر إن quot;الديمقراطية هي إجهاض لحقوق الفردquot;. وبفضل هذا الكراس أصبح العقيد القذافي يشار إليه باعتباره quot;القائدquot; أو quot;المرشدquot;، العراف الذي يقود ثورة متقلبة.

لكن أفكار القذافي الفلسفية المسلية أصبحت أكثر فأكثر في صدام مع المجتمع الجديد ما حولها إلى الجزء الأكثر عتمة في النظام.

وبفضلها وجد الليبيون أنفسهم يعيشون في كابوس من القمع يجعل اي نوع بسيط من الاحتجاج سببا كافيا لاختفاء المحتجين، مع فترات حجز طويلة من دون محاكمات مع تعذيبهم. وأصبح العقاب يطال العائلة بأكملها إن كان أحد أبنائها معارضا للنظام.

بل وحتى المقيمون في المنفى لم ينجوا من رعب القذافي الذي أمر بقتل من سمّاهم بـ quot;الكلاب الضالةquot;. ولهذا الغرض شكل فرقا للاغتيال في الخارج.

كذلك كانت رغبة العقيد القذافي في السخرية من التقاليد الدولية وتورط حكومته بأنشطة إرهابية موثقة قد أديا إلى مواجهة قوية مع الغرب ما جعل القذافي شخصا منبوذا على الصعيد الدولي.

وقد أطلق عليه الرئيس الأميركي رونالد ريغان اسم quot;كلب الشرق الأوسط المسعورquot;، كذلك تكرست صورته باعتباره زعيما حريصا على تدمير المصالح الغربية بأي ثمن وبأي الوسائل.

وجاء تفجير طائرة quot;بانامquot; فوق لوكربي في اسكتلندا عام 1988 ومقتل ركابها البالغ عددهم 270 تتويجا لجنونه وروحه الشريرة.

بعد لوكربي دخلت ليبيا فترة عزلة طويلة عن العالم استمرت أكثر من عقد وخلالها أصبح العقيد القذافي يتحدث بطريقة أكثر صخبا واستعراضا مسرحيا، وأصبحت خطاباته أكثر غموضا وتطيرا. إذ راح يتهم الولايات المتحدة وإسرائيل والطابور الخامس في ليبيا بالعمل معا ضد ليبيا معتبرا هذا الثلاثي وراء أي انتكاسة يعانيها بلده.

في ديسمبر 2003 وافقت ليبيا أخيرا على التخلي عن مشروعها الهادف إلى إنتاج أسلحة كيميائية وبيولوجية ونووية.

وجاء هذا الوعد بعد مفاوضات طويلة جرت وراء الكواليس مع بريطانيا والولايات المتحدة وكان أحد شروط القذافي هو إنهاء العقوبات الدولية ضد بلده. وكانت بداية لإعادة تأهيله للعودة إلى المجتمع الدولي.

من جانبها، دفعت الحكومة الليبية أتعابا لمؤسسة دولية استشارية لمساعدتها على جلب وجوه بارزة إلى ليبيا لمناقشة quot;قائد الثورةquot; حول طبيعة الديمقراطية.

وكان ظهور عدد من الشخصيات والمثقفين الغربيين في ليبيا مقابل حفنة دولارات قد أقنع القذافي بأن quot;الكتاب الأخضرquot; ما زال صالحا للاستعمال وأن مكانته كزعيم عالمي مهمة للبشرية.

وهكذا، أصبح الرجل الذي كان يجسد في فترة الإرهاب حليفا مهما في الحرب ضد الإرهاب، حسبما يرى البروفسور فاندويل، اذ أصبح ممكنا للغرب التعايش مع جعجعة القذافي ونقاط ضعفه مقابل أن يتعاون معه.

لذلك فإنه قام بتقديم معلومات استخباراتية عن الجماعات الإسلامية في بلده وفي مناسبة واحدة على الأقل وافق على إجراء تحقيق مع إرهابي محتجز على أرض ليبيا، كذلك عادت شركات النفط الأميركية وغيرها إلى ليبيا. وبذلك يكون القذافي قد حقق كل أهدافه أو هكذا ظن الكثيرون.

لكن النظام الليبي (حاله حال أنظمة أخرى في المنطقة)، يعاني حاليا حصارا فرضته عليه انتفاضة شعبية كاسحة وهذا ما سمح بظهور صورة العقيد القذافي الحقيقية فهو لن يدّخر أي جهد إجرامي مروع للحفاظ على حكمه.

لقد قتل المئات من المدنيين على يد قوات الأمن والمرتزقة المستأجرين بل وحتى القوى المناصرة له كان عليها أن تتخلى عن بنغازي والجزء الأكبر من المنطقة الشرقية من ليبيا.
حين ظهر الزعيم الليبي في التلفزيون الاثنين الماضي حاملا بيمينه quot;الكتاب الأخضرquot; كانت خطبته الحادة خالية من التماسك لكنها غير غريبة على أسلوبه السابق.

وفيها قال إن معارضيه ليسوا سوى كلاب وصراصير وإنه سوف يسحقهم ويقتلهم.

يختتم بروفسور العلوم السياسية فاندوال مقالته قائلا إن صورة القذافي الأخيرة قد أزاحت معها كل ما تحمله نظريته عن الديمقراطية من ديباجات منمقة.

مع ذلك فإن أحداث الأسبوع الماضي قد أعادت سطرا من الكتاب الأخضر الذي كتبه العقيد معمر القذافي بدم بارد: quot;هذه ديمقراطية حقيقية، لكن القوي على أرض الواقع هو الذي يحكمquot;.