استطلعت quot;إيلافquot; وجهات نظر بعض المطلعين على الشؤون الليبية لاستقراء مستقبل ليبيا السياسي في ظل ثورة شعبها على قرابة 42 عاما من حكم العقيد القذافي، وتكمل في هذه الحلقة عرض آرائهم.


لندن: أحالت أربعة عقود ونيف من حكم العقيد معمّر القذافي ليبيا الى شيء أقرب إلى ألبانيا الدكتاتور أنور خوجا في quot;عزلتها المجيدةquot;. فصارت دولة مغلقة أمام رياح التغيير التي ظلت تهب على العالم طوال تلك السنوات.

وكانت الحصيلة أن السواد الأعظم من الليبيين صاروا - مقارنة مع بقية دول افريقيا الشمالية على الأقل- فقراء برغم ثرائها بالنفط والغاز، وأيضًا برغم عدد سكانها الضئيل نسبيًا. وصار طبيعيًا أن تفتقر البلاد إلى طبقة وسطى غنيّة مستنيرة، وقادرة بالتالي على بناء مؤسسات الدوبة والمجتمع الحديثين.

لا غرو، إذن، أن يظل المجتمع الليبي الداخلي، مشلولاً مثلما أراد له القذافي. لكن الناس انقسموا، في ظل نظام وعدهم بالازدهار، الى طبقتين، إحداهما هي الحاكمة الثرية المتناهية الصغرى، والأخرى بقية الشعب الفقيرة المحكومة بأمر الطبقة الأولى.

وقد حال كل هذا الوضع الغريب - الكاتم للاحتجاج مثل كاتم صوت المسدس - دون الرؤية الواضحة لمن يمكنه قيادة ليبيا بعد العقيد (خارج إطار توريث سيف الإسلام). فقد غابت، داخليًا، أنماط التغيّر والتطور التي تسمح للمراقب باستنتاج ما سيأتي بناء على ما سبقه.

quot;إيلافquot; طرحت على بعض المطلعين السؤال: quot;من سيجكم ليبيا بعد القذافيquot;؟ وهو سؤال نعترف بصعوبة الإجابة عليه في خضم الضبابية التي ظلت ولاتزال تكتنف البلاد. لكن هؤلاء تفضلوا بمحاولة الإجابة، وفي هذه الحلقة الثانية والأخيرة رأيان آخران:

أحرق الكتب في سعيه إلى القبلية

فاطمة محمود

الكاتبة والصحافية والشاعرة والقاصة الليبية المعارضة فاطمة محمود تتناول مسألة البديل للقذافي من زاوية ما تعتبره ذنبه الأكبر، وهو تمديد حكمه عبر إغراق ليبيا في القبلية وحرمانها من مجتمع مدني يحل محل القبيلة وأحكامها العرفية وينتمي تاليًا إلى القرن العشرين أولاً ثم الحادي والعشرين.

وتقول من مقر إقامتها في ألمانيا إن العقيد ألغي، بعد انقلابه، القوانين والدستور وأصرّ على أن العُرف (القبلي) وحده quot;هو الذي يجب أن يحكمناquot;. وصار يتحالف مع قبيلة، ويعادي أخرى، ويستعدي هذه ضد تلك على طريقة quot;فرِّق تسدquot;. وإذا ظهر له معادٍ واحد من قبيلة معينة، عاقبها بكاملها حتى ترتدع بقية أبنائها.

وتمضي الكاتبة الليبية لتشدد على هذا الذنب الأكبر، فتقول إن القذافي - في سعيه إلى حرمان ليبيا من الحداثة - قضى على بنية التعليم الأساسية. ووصل به الأمر حد إحراقه الكتب وتحطيم الآلات الموسيقية وحظر الأناشيد وكل ما من شأنه المساهمة في وصول محكوميه الى العصر الحديث. حتى في الشعر أفتى بأن القصيدة الحديثة مدانة quot;لأنها تحوي رموزها التي لا تحتاجها ثورة الفاتح من سبتمبر.. وهكذا فلا بد للقصيدة أن تكون مقفأة إن أرادت أن تُعتبر قصيدةquot;.

إضافة الى ذلك، فقد أمعن القذافي في عزل الشعب عبر تشويشه على الإذاعات العربية quot;لكيما يتطهر من تيّارات المنطقة التحررية مثل القومية العربية والاشتراكية، دعك من الماركسية، وهلم جرا. ووصل الأمر إلى وضعه مختلف العراقيل أمام من أراد السفر الى الخارج quot;فلا يعود وقد أضاع عذريته الثورية، والأسوأ، أن يعود بالوسخ الحضاري الحديثquot;.

هذا كله، مضافا الى أعماله الإرهابية داخليًا وخارجيًا، وتخلصه من المعارضين والمعارضين المحتملين، وتخريبه سائر بنيات المجتمع الحديث، وقمعه الحريات العامة والشخصية وحكمه بخليط من التخويف والرشوة وإغداق الامتيازات. والمفارقة، تبعًا لفاطمة محمود، هي أن كل هذا يُفترض أن يكون جريرة الشعب الليبي. ذلك أن القذافي يظل حتى اليوم مصرّا على أن لا سلطات له، وأن الليبيين يحكمون أنفسهم بأنفسهم، وبالتالي فإن حالهم من صنع ايديهم.

وتقول الكاتبة إنه بالنظر الى هذا الوضع كله فلا يهم الآن من سيحكم ليبيا بعد القذافي، باعتيار أنه من شبه المستحيل للبديل أن يكون أسوأ. لكنها لا تمانع في ان يكون هذا الموقع من نصيب أحد ثلاثة:

مصطفى عبد الجليل (وزير العدل السابق المنشق على النظام، وحاليًا رئيس المجلس الوطنى الانتقالى). فهو، على حد قولها شريف ونزيه وجريء، يحترمه الليبيون. ويشهد له هؤلاء بانحيازه لهم ضد النظام عندما كان قاضيًا ثم رئيسًا لمحكمة البيضاء في عدد من القضايا المهمة. ومن هذه تصديه للضرائب العديدة مثل quot;ضريبة البندقيةquot; ثم انشقاقه احتجاجًا على ما سمّاه quot;الأوضاع الدامية واستعمال العنف المفرطquot;.

وتبعًا لها فهناك ايضًا عبد السلام جلود (رئيس الوزراء 1972 - 1977) في حال إعلانه انضمامه إلى صفوف الثوار. فقد غسل يديه من نظام القذافي منذ بداية التسعينات، وتعرض هو ايضًا لغضب القذافي. ويؤهله للمنصب أنه رجل دولة عارض العقيد علنًا، وله خبرة واسعة في شؤون الحكم والعالم، ويتمتع بمكانة مرموقة على الساحة الدولية.

أما الشخصية الثالثة فيمكن أن تكون من أعضاء المجلس الوطني الانتقالي أو من غيرهم من المثقفين القادرين على الحكم. وأيًا كان حاكم ليبيا المقبل على حد قولها، فيتعيّن أن يكون من أصحاب الخبرة الشرفاء وذوي الصفحات الناصعة إزاء الشعب الليبي.

وتقرّ فاطمة محمود أخيرًا بأن الوصول الى الشخصية الصحيحة لمستقبل ليبيا سيتطلب وقتًا قد يطول. لكن المطمئن بالنسبة إليها هو الاقتناع التام في سائر الشرائح الليبية بأن القيادة الجديدة أيًا كانت ستضع مصلحة الوطن فوق كل شيء آخر.

القاضي العادل

تشارلز غيردون

بالنسبة إلى الدكتور البريطاني تشارلز غيردون، المدير الإداري لمؤسسة quot;ميناس أسوشييتسquot; الاستشارية في لندن وخبير الشؤون الشمال افريقية والسودانية، فإن الشخصية المؤهلة أكثر كثيرًا من غيرها للقيادة الآن هي وزير العدل السابق مصطفى عبد الجليل.

ويقول غيردون إنه يستند في ترشيحه هذا الى أشياء عدة، منها أن عبد الجليل ليبرالي ومدافع غيور عن الدستور وسيادة القانون، واشتهر بأنه كان قاضيًا نزيهًا وعادلاً ونصيرًا للضعفاء. وهو الذي يتولى الآن التنسيق بين مختلف فصائل المعارضة الليبية، وأن هذه الفصائل نفسها تعتبر أن دوره هذا طبيعي، لأنه يظل المفضل لديها. ولذا فهو المؤهل للقيادة الآن حتى، وإن لم يفز بمنصب الحاكم في مرحلة ما بعد القذافي.

ويضيف غيردون أنه إذا كان هناك من يرمي هذا الرجل بسمعة سيئة لأنه كان وزير العدل في نظام القذافي فقد فعل ذلك لأنه كان مُجبرًا على هذا. ذلك أنك إذا كنت ليبيًا وقررت البقاء في بلادك quot;فعلت ما أُمرت به من قبل النظامquot; على حد قوله.

مع هذا فلم يقف عبد الجليل مكتوف الأيدي أمام تجاوزات القذافي، بل تصدى له في مناسبات عدة،وحاول الاستقالة من قبل، لكنه لم يتمكن. ومن ضمن سباحته ضد تيّار النظام اعتراضه القانوني على الحكم بإعدام خمس ممرضات بلغاريات وطبيب فلسطيني، اتهمتهم السلطات بحقن مئات الأطفال الليبيين بفيروس الايدز في مستشفى الفاتح في بنغازي في 1999، ومن ذلك الوقت وهو يواجه عداء المتشددين داخل النظام.

هل يرى خبير شؤون شمال افريقيا دورا بعد الآن لسيف الإسلام القذافي حتى في حال بقاء النظام الحالي؟ يجيب بـquot;لا قاطعةquot; ويستند الى ثلاثة أمور في هذا:

خطابه quot;الغبيquot;، كما يقول، الذي حذّر فيه أهل البلاد من quot;أنهار من الدم والقتل بالآلافquot; في حال لم يوقفوا ثورتهم على أبيه ونظامه.

الثاني هو أنه فقد بخطابه هذا مصداقيته في الغرب كشاب يسعى ببلاده الى الإصلاح والتحرر الاقتصادي، وأن الشركات الغربية لن تسعى الى أي نوع من quot;البيزنيسquot; معه.

والثالث هو أن المتشددين لن يقفوا الى جانبه لأنهم يفضلون عليه أخاه معتصم. وهكذا فإن سيف الإسلام لن يحكم ليبيا أبدا، كما يقول.

هل يصمد القذافي في وجه العاصفة التي تهدد باجتثاث نظامه إذا تخلى عنه quot;أهل الخيمةquot; (دائرة أقرب المقربين اليه)؟ يقول غيردون إن بوسع هؤلاء إطاحته إذا قرروا هذا أو في حال نجاح الضغوط الغربية عليهم وتهديدهم بأن مصيرهم هو مصير القذافي إذا أصرّوا على بقائه. ويشير الى انشقاق شخصية مهمة عن النظام هي أحمد قذاف الدم، ابن عم القذافي، ومن أهل الخيمة بالتالي، ويقول إن في هذا بحد ذاته مدعاة للتفاؤل.