جوبا: سيصبح جنوب السودان بلدا مستقلا هذا الاسبوع بعد خمسة عقود من الصراع مع الشمال، حيث ينفصل اكبر بلد افريقي من حيث المساحة الى بلدين مازال التوتر والصراع مخيما على العلاقات بينهما.

ففي السبت الموافق التاسع من تموز/يوليو يشهد ثلاثون زعيما افريقيا فضلا عن مسؤولين كبار من مختلف انحاء العالم ميلاد احدث بلدان العالم والدولة المستقلة الرابعة والخمسين للقارة الافريقية.

ويقول مانغر غوردن ماريال، المتحدث بلسان رئاسة حكومة جنوب السودان، لفرانس برس quot;انه اليوم الذي انتظرناه سنينا طويلة، انها لحظة سنحتفل بها بفرح بالغquot;.

وتابع quot;الناس يعمهم فرح بالغ لهذا اليوم، اذ هو يوم التحررquot;.

فبين عامي 1955 - قبل عام من حصول السودان على استقلاله من الحكم الثنائي البريطاني المصري- و2005 خاض المتمردون الجنوبيون حربين بمواجهة حكومات متعاقبة في الخرطوم سعيا للحصول على حكم ذاتي اوسع واعتراف بحقوقهم. وخلفت الحروب المنطقة في حالة من الدمار وتركت الملايين قتلى مع انعدام الثقة بين الجانبين.

غير ان اتفاق السلام الموقع بين الزعيم المتمرد الراحل جون قرنق ونائب الرئيس السوداني علي عثمان طه قبل ست سنوات في بلدة نيفاشا الكينية، اذن بحقبة جديدة في تاريخ البلاد ممهدا السبيل للاستفتاء حول تقرير المصير في كانون الثاني/يناير والذي صوت فيه الجنوبيون باغلبية كاسحة لصالح الانفصال عن الخرطوم.

لقد جاء تصويت الجنوبيين الاجماعي بنسبة 98,83 في المائة لصالح الانفصال ليتجاوز التوقعات اذ جرى في وقته ودون احداث تذكر ومع تعهد حكومة الخرطوم احترامه.

وستشمل المراسم الاحتفالية السبت عند النصب التذكاري لقرنق في العاصمة الجنوبية جوبا عروضا عسكرية، ورفع علم جمهورية السودان الجنوبي وتوقيع اول رئيس للبلاد، سالفا كيير، الدستور الانتقالي للدولة الجديدة.

وتقول وزيرة الاعلام الجنوبية، باربرا ماريال بنجامين quot;ستكون مناسبة تاريخية لكافة ابناء وبنات شعبنا الذين خاضوا سبيلا طويلا وشاقا وصولا الى ميلاد امتناquot;.

وتابعت quot;نعلم جميعا اننا نواجه الكثير من التحديات -- ولكننا سنواجهها بيد واحدة بالسلام والاستقلال وسنبني بلدا مزدهرا ومستقراquot;.

وليس ادل على تلك التحديات من الاشتباكات المسلحة التي تجري في جنوب السودان والتي اسفرت عن مقتل اكثر من 1800 شخص هذا العام، في بلد مازال بين الاقل نموا في العالم، فضلا عن الخلافات المريرة مع الخرطوم حول ترتيبات ما بعد الانفصال.

وتقول مصادر مقربة من سير المفاوضات الشمالية-الجنوبية في اديس ابابا انه يبدو من غير المرجح التوصل الى اتفاق حول اعادة هيكلة القطاع النفطي الحيوي للسودان قبل التاسع من تموز/يوليو، فضلا عن عن الوضع الذي لم يحدد بعد لمنطقة ابيي وهي بين نقاط النزاع الرئيسية.

وكانت التوترات بين الشمال والجنوب قد تصاعدت بشكل حاد منذ احتلال القوات الشمالية منطقة ابيي الحدودية المتنازع عليها في 21 ايار/مايو، ما ادى لنزوح 117 الفا من ابناء الجنوب من ابيي هربا من القتال.

وبعد اسبوعين اندلع قتال كثيف في ولاية جنوب كردفان المقسمة قوميا والتي باتت ضمن حدود الشمال، ودار القتال بين القوات الشمالية والميليشيات المتحالفة مع الجيش الشعبي الجنوبي لتحرير السودان، وهو الجناح العسكري لحزب الحركة الشعبية لتحرير السودان الحاكمة في الجنوب.

وحذر المبعوث الاميركي الى السودان، برينستون ليمان، بعيد ذلك من عودة الجانبين الى quot;حافة الصراع الشاملquot;.

وتم التوصل في 20 حزيران/يونيو الى اتفاق لنزع السلاح في ابيي ونشر 4200 من القوات الاثيوبية لحفظ السلام، وان مازال لم يتم التوصل الى اتفاق حول الوضع النهائي للمنطقة.

ومن جانبه امر الرئيس عمر البشير جيشه بquot;تنظيفquot; جنوب كردفان من المتمردين ما وجه ضربة لامال التوصل الى وقف لاطلاق النار في الولاية التي كانت ساحة حرب اهلية في السابق والتي يتواجد بها اعداد ضخمة من انصار الحركة الشعبية بين السكان الاصليين من ابناء النوبة.

وبعد التكهنات الكثيرة حول ما اذا كان البشير سيحضر احتفالات استقلال الجنوب، اكد الرئيس الشمالي في مقابلة مع صحيفة الرأي العام الموالية للحكومة الاحد انه سيسافر الى جوبا حيث من المفترض ان يكون بين المتحدثين الرئيسيين.

ويقول المسؤولون الجنوبين ان البشير سيكون quot;ضيف الشرف الرئيسيquot;.

وبالتأكيد ثمة من لن يفرح لاستقلال الجنوب، خاصة بين المتشددين الاسلاميين في الخرطوم، ناهيك عن جنوبيين بقوا في الشمال متأسفين على عدم امكان تحقق رؤية قرنق لسودان جديد فدرالي وديمقراطي.

غير ان الجميع يدركون ان ما كان يوما حلما بعيد المنال غدا الان حقيقة وواقعا ملموسا بقت خمسة ايام فحسب على كشف الستار عنه.

البشير يعرب عن تحديه رغم الافاق القاتمة لبلاده

ولاشك ان الشمال سيشعر بتداعيات عدة نتيجة انقسام السودان الى بلدين مستقلين حيث يواجه نظام الخرطوم المتهم رئيسه بارتكاب ابادة جماعية، ازمة اقتصادية وتمردا في جنوب كردفان.

ومن المنتظر ان يخسر السودان نحو 37 بالمائة من مدخولاته بعد اعلان الجنوب المنتج للنفط استقلاله رسميا السبت، ما تخشى الخرطوم ان يزيد من ويلاتها بما في ذلك عبء الدين الذي يناهز 38 مليار دولار فضلا عن التضخم الهائل والعقوبات التي تفرضها واشنطن.

ويقول فؤاد حكمت الخبير في الشؤون السودانية بمجموعة الازمة الدولية quot;ان الوضع الاقتصادي في الشمال في غاية السوء، ولا يتضح بعد كيف ستتقاسم جوبا والخرطوم عائدات النفط، وليس لدى البلدين بديل جاهز للدخل بخلاف العائد النفطيquot;.

ويتابع قائلا quot;اصبح لا طاقة للكثير من السودانيين بارتفاع اسعار الغذاء والسلع الرئيسية، بينما تعاني الكثير من الاشغال من صعوبات جمةquot;.

وناهيك عن ذلك يتوقع ان تزداد المعارضة للخرطوم وسط اقاليمه التي تعاني من التهميش في اعقاب انفصال السودان، والمراقبون يضيفون ان الانفصال سيعزز الانقسامات المتنامية داخل حزب المؤتمر الوطني الحاكم، بين من يوصفون بالاعتدال ومن يوصفون بالتشدد.

بل ان البعض يتكهن بأن ما تبقى من البلاد قد يبدأ في التفكك.

وفي اطار تلك الضغوط اطلق عمر البشير، الممسك بزعامة بلد على وشك خسارة ربع اراضيه، تصريحات مثيرة للجدل سعيا لدعم قاعدة تأييده واسكات منتقديه.

وجاءت الزيارةالرسمية للبشير لثلاثة ايام للصين الاسبوع الماضي، حيث استقبل بحفاوة والتقى الرئيس هو جينتاو، لتظهر ان الخرطوم ما زال لديها حلفاء اقوياء وعلاقات متينة مع شريكها الاقتصادي الاهم.

واحتشد مئات المؤيدين خارج مقر البشير الجمعة للترحيب بعودته، ولكن الامم المتحدة فضلا عن واشنطن ومجموعات حقوق الانسان ادانت الزيارة التي يقوم بها البشير المتهم دوليا بارتكاب جرائم ابادة جماعية، وهو اول رئيس بلد توجه له المحكمة الجنائية الدولية اتهامات من هذا القبيل وهو ما يزال في المنصب.

كما ذكرت تلك الزيارة بان البشير لا يمكنه بسهولة الاضطلاع بمهامه على الصعيد الدولي -- فقد وصل متأخرا 24 ساعة بعدما تردد من رفض تركمانستان السماح لطائرته بالمرور في اجوائها ما اجبرها على العودة ادراجها.

وفي تلك الاثناء يوجه زعماء العالم انتقادات للخرطوم لاحتلالها منطقة ابيي الحدودية المتنازع عليها فضلا عن حربها ضد الميليشيات المتحالفة مع الجنوبيين في جنوب كردفان، وهي الولاية الوحيدة الباقية المنتجة للنفط في الشمال.

ومن ثم تزداد العزلة الدولية للخرطوم.

لقد كانت الامال في الداخل والخارج بأن يؤدي القبول بنتائج استفتاء تقرير المصير في كانون الثاني/يناير والسماح بانفصال الجنوب دون معوقات الى خروج الخرطوم من عزلتها.

ويقول الدبلوماسيون في السودان ان الوقت لم يفت بعد امام الحكومة السودانية لجني مكاسب اعادة تأهيلها دوليا -- من قبيل تلقي مساعدات تتعلق بديونها -- اذا اظهرت التزامها بالسلام.

ولكن تلك الفرصة تبدو في طريقها للافول، رغم الاتفاق الذي تم التوصل اليه الشهر الماضي لنزع سلاح ابيي، حيث مازال صراع دارفور دون حل والعنف مستمر في جنوب كردفان.

ولكن المنظور المحلي مختلف فالحملات العسكرية التي اطلقتها الخرطوم مؤخرا تعكس القوة من جانب حكومة ضعيفة تواجه اضطرابا بين القبال غير العربية في دارفور وبمحاذاة حدودها الجنوبية، وربما في الشرق ايضا حيث انتهت حركة تمرد من جانب جماعات اقليات عرقية عام 2006 بعد عقد كامل من استمرارها.

ويقول جون تيمين الذي يرأس برنامج السودان بالمعهد الاميركي للسلام quot;المقصود على الارجح هو البعث برسالة واضحة لما تبقى من البلاد مفادها ان الخرطوم تمسك بزمام الامور ولن تنجح اي محاولات انفصالية اخرىquot;.

ولكن منتقدي الحكومة يعتقدون ان تلك الاستراتيجية قد ترتد في وجه النظام السوداني.

ويقول الشيخ عبد الله وهو زعيم صوفي بولاية الجزيرة، لفرانس برس quot;نتيجة لهذا كله. سنجد انه لم يعد هناك سودان، بل عدد من الدويلات الصغيرةquot;.

ويضيف محذرا quot;الناس لم يعد معهم المال وهم جوعى ومرضى.. وباتوا في بقاع مختلفة من البلاد على استعداد للقتال من اجل الانفصالquot;.

ومن المسائل الاخرى الرئيسية بعد اعادة رسم الخارطة ما يمس طبيعة العلاقة بين الخرطوم وجارتها الجنوبية التي تربطها بها اواصر عديدة يصعب الفكاك منها، ولكن جوبا، الجارة الجنوبية تشعر بارتياب عميق تجاه الخرطوم بعد خمسة عقود من الصراع المريع.

وخلال اجتماع بالكونغرس الشهر الماضي قال برينستون ليمان المبعوث الاميركي للسودان quot;سيكون هذان البلدان المستقلان احسن حالا اذا استقر الوضع في كل منهما اذ يعزز امن وازدهار الواحد الاخر. كما ان كلا البلدين يعتمد على الاخر في تحقيق ذلكquot;.

الولايات المتحدة داعم رئيس لجنوب السودان الجديد

ومن جهتها، تلقي الولايات المتحدة، الوسيط الرئيس في اتفاق السلام الشامل الموقع عام 2005، ثقلا دبلوماسيا واقتصاديا ضخما خلف تدشين جمهورية السودان الجنوبي الجديدة في التاسع من تموز/يوليو، حسبما يرى المحللون.

فالمسؤولون الاميركيون يشيرون الى اعتزام الوكالة الاميركية للتنمية الدولية (يو اس ايد) مواصلة مستوى دعمها للجهود التنموية في الجنوب عند ما يتراوح بين 250 مليونا و300 مليون دولار سنويا، وذلك رغم الصعوبات المالية التي يمر بها الاقتصاد الاميركي.

وقال مسؤول بالحكومة الاميركية لفرانس برس quot;ستواصل الحكومة الاميركية التزامها بدعم تنمية هذا البلد الجديد على نفس مستواها السابقquot;، مشيرا الى ان الجنوب، الذي يعاني من افتقار هائل الى التنمية، لن يسقط من الحسابات الدولية بعد استقلاله.

وبعد ان انهى اتفاق السلام الشامل لعام 2005، 22 عاما من الحرب الاهلية، بدأت واشنطن برامج لدعم الصحة والتعليم والزراعة ومد الطرق وشبكات المياه والكهرباء في المنطقة التي كانت تتبع الخرطوم حتى عهد قريب.

كما بدأت الولايات المتحدة برامج اخرى لتدريب المسؤولين في جنوب السودان الذي تمتع بحكم ذاتي منذ ست سنوات قبل ان يختار باغلبية ساحقة الاستقلال الكامل في استفتاء تقرير المصير في كانون الثاني/يناير.

كما مولت هيئة المعونة الاميركية برامج لحل الصراعات من قبيل تشجيع الشباب في الجنوب على ايجاد وظائف بدلا من السطو على الماشية.

وتسعى واشنطن لدعم الزراعة لما يتمتع به الجنوب من امكانات اقتصادية هائلة قابلة للتحقق على هذا الصعيد، كما تساعد في تنويع النشاط الاقتصادي بحيث لا يقتصر على الصناعة النفطية التي تمثل زهاء 98 بالمائة من العائدات الحكومية.

ويقول جون تيمين محلل الشؤون السودانية لفرانس برس انه رغم ما تتعرض له الموازنة الاميركية من ضغوط ما يشير الى احتمال تأثر برامجها الخارجية لدعم التنمية، الا ان quot;جنوب السودان يبقى اولوية حقيقية بالنسبة للحكومة الامريكية على الصعيد الافريقي وحتى العالميquot;.

ويقول تيمين الذي يرأس برنامج السودان بالمعهد الاميركي للسلام quot;من ثم اتوقع ان تستثمر الولايات المتحدة الكثير في الجنوب على المدى الطويلquot;.

ويضيف ان الولايات المتحدة quot;تبنت تبنيا حقيقيا عملية السلامquot; في الجنوب، كما انها quot;عملت على تعزيز صداقة حقيقيةquot; مع جنوب السودان لاسباب انسانية ودينية.

فالجنوب يحظى بمجتمع مسيحي تربطه علاقات واسعة بالمجموعات المسيحية الاميركية، بخلاف الشمال العربي المسلم.

ويضيف تيمين ان الشركات الاميركية قد تستثمر على المدى الطويل في الصناعة النفطية للجنوب.

فالسودان يعد حاليا ثالث اكبر منتج للنفط في افريقيا جنوب الصحراء، غير ان اغلب الحقول النفطية تقع في الجنوب وان كانت خطوط انابيب التصدير تمر عبر الشمال.

كما ستسعى واشنطن لضمان عدم امتداد الاضطرابات من السودان الى اوغندا وكينيا المجاورتين وهما البلدان الصديقان للولايات المتحدة.

ويتفق تيمين مع غيره من المحللين في توقعهم ان تواجه واشنطن وغيرها من اللاعبين الدبلوماسيين مثل بريطانيا والنرويج والبلدان الافريقية تحديات مستمرة في مسعاها لتسوية النزاعات العالقة في فترة ما بعد الاستقلال في التاسع من تموز/يوليو.

ومن بين تلك النزاعات ما يتعلق بترسيم الحدود بين الشمال والجنوب فضلا عن تقاسم الثروة النفطية والمواطنة بالنسبة للجنوبيين المقيمين في الشمال والشماليين في الجنوب، وتخفيف عبء الدين السوداني الذي يناهز 38 مليار دولار.

ومنذ جرى التوقيع على اتفاق السلام الشامل قبل ست سنوات لم يتم احراز تقدم يذكر على صعيد تلك القضايا، بحسب جون كامبل الدبلوماسي السابق الذي يعمل حاليا مع مجلس العلاقات الخارجية، وهو مؤسسة بحثية.

ونقلت فرانس برس عن كامبل قوله quot;الجديد الان هو انه سيتعين الان التعامل مع تلك القضايا في اطار بلدين يتمتع كل منهما بسيادة كاملة، بدلا من اطار بلد واحد. وهو ما يجعل الموقف اكثر تعقيداquot;.

واضاف quot;انا متأكد 100 بالمائة ان الجنوب سيستقل في التاسع من تموز/يوليو، غير انني لست متأكدا من انتهاء القتال في المنطقةquot;.

وتابع بالقول ان هذا يعني ضرورة استمرار الانخراط الدبلوماسي للولايات المتحدة واللاعبين الاخرين.

وتحذر مارينا اوتاواي المحللة بمعهد كارنيغي للسلام الدولي من ضياع الجهود الاميركية المبذولة مع تجدد العنف الحدودي في ابيي وجنوب كردفان.

ونقلت فرانس برس عن اوتاواي قولها quot;المشكلة انه مهما كان حجم الجهد الذي تبذله الولايات المتحدة، الا ان الافاق لا تبدو جيدة في الوقت الراهنquot;، مشيرة الى مخاوفها من دعم احد الجانبين لميليشيا تنشط في الجانب الاخر من الحدود لاثارة التوترات.