تجتاح أعمال التسول كل مدن العراق، ولا تستثني واحدة في ظاهرة متنامية تبعث على التساؤل عن أسباب تنامي الظاهرة وسط دلائل تشير الى وجود مافيات تنظم المتسولين وتشرف على فعالياتهم في الاستجداء بالحيلة وابتكار الوسائل لذلك مثل استخدام الأطفال والمعوقين والمعتوهين لجباية الأموال بطرق غير مشروعة.


ظاهرة التسوّل في العراق تتنامى

بغداد: في كراج العلاوي في بغداد ، يجلس الطفل حيدر (12 عاما) يمارس التسول، حتى إذا تعرض للخطر جاءه من يساعده في إشارة إلى ان هناك من يقف خلفه يسانده في فعاليات التسول اليومية.

ويرفض حيدر الحديث عن أسباب تسوله ، فما ان تقترب منه حتى يظهر لك شخص يطلب منك الابتعاد عنه وعدم التحرش به.

ضعف أداءالرعاية الاجتماعية

ولم تنجح المؤسسات الحكومية طيلة سنواتفي لجم ظاهرة التسول في ظل ضعف اداءمؤسسات الرعاية الاجتماعية واستهانة الكثيرين بالقوانين المرعية .

ويشير الباحث الاجتماعي كامل حسين من دار الرعاية الاجتماعية في الكرادة الشرقية (منطقة في بغداد على الجانب الشرقي لنهر دجلة) الى ان الفساد في العراق صار احدى وسائل الحصول على الدخل، فالمحتاج لا يعدم وسيلة بالحيلة والخداع في ابتزاز أصحاب المال في ظل جو عام يشوبه الفساد المادي والإداري ، تصبح فيه الأعمال غير المشروعة مبررة.

اختفاء مليار دولار

ويشير حسين الى إحدى حالات الفساد في 2010 حين اختفى مليار دولار خصصته وزارة المالية لتمويل الرعاية الاجتماعية ما افقد الكثير من الأرامل ومستحقي الدعم رواتبهم من الرعاية الاجتماعية ، حيث طالب نواب عراقيون بالكشف عن الفاسدين والمتورطين في هذه القضية.

ويتابع حسين : في ظل غياب الشفافية فان لا احد يعرف الى الآن من يقف وراء اختفاء المبالغ الطائلة بسبب التستر على التحقيقات وعدم الرغبة بالكشف عن المتورطين.

شرعنة التسول

وهناك فكرة جمعية لدى المحتاجين تتلخص في شرعنة وتحليل ما يقومون به من باب ( حسنات ) يمنحها الأغنياء للمحتاجين ، كما تقول ام سمية التي تستجدي كل يوم نحو عشرين ألف دينار عراقيا ، بالجلوس عند المزارات والأماكن المزدحمة.

وتتحدث أم سمية في لغة لا تخلو من حصافة : اننا لا نسرق كما يفعل مسؤولون وموظفون، في دلالة على تأثير حديث الشارع ووسائل الأعلام التي تتناقل أخبار الرشى والفساد ، على الرأي العام.

عطف الناس

وتجلس أم سعيد كل يوم بالقرب من صحن الإمام الحسين في كربلاء (108 كم جنوب غربي بغداد)، وبجانبها طفل نائم في الغالب يتحلق الذباب من حوله ، طمعا في جمع الأموال بالتسول، مرددة عبارة استعطاف من مثل ( ثواب ) و ( من مال الله).

وتبرر ام سعيد تسولها الى افتقادها الى دخل يومي حيث لا تستطيع العمل لمرضها ولاسيما ان زوجها توفي من نحو سنتين في حادث سيارة على طريق بغداد ndash; كربلاء.

وسجلت ام سعيد في دار الرعاية الاجتماعية في كربلاء حيث تحصل على بعض المساعدات التي تجدها غير كافية لعائلة أربعة أفراد.

تعثر خطط المعونات الاجتماعية

ويعتقد كريم حسين وهو مدير متقاعد عمل في مؤسسات الرعاية الاجتماعية سابقا، ان الرعاية الاجتماعية في العراق تتعثر أمام الفساد وسوء التخطيط وفقر الإمكانيات.

ويتابع: اكتشفت في اغلب محافظات العراق الآلاف من الأسماء الوهمية من قابضي منح الرعاية الاجتماعية.

ويتابع: اغلب عمليات الفساد بقيت غامضة، ولم تستطع الشفافية التي يدعي البعض وجودها بالكشف عن حقيقة ما حدث.

ويعتقد حسين ان هناك مافيات مسؤولين وموظفين تسدل الستار على قضايا الفساد التيشابت الرعاية الاجتماعية.

وبحسن حسين فان متابعاته تشير الى ان عمليات التزوير والفساد انخفضت الى حد كبير في العامين الأخيرين لكنها مازالت موجودة إلى الآن .

التركيز على الشباب العاطل

ويشير حسين إلى سياسة رعاية اجتماعية خاطئة في العراق ، ذلك أن هذه السياسة لا تشمل العاطلين عن العمل الا وفق شروط صارمة ، وهي تركز عملها على العجزة والمعوقين والأرامل، في حين ان هناك حاجة ماسة لشمول العاطلين عن العمل من الشباب بغية انتشالهم من محاولات البعض تسخيرهم في أعمال غير مشروعة، او سلوكهم مسالك لا تتفق مع خطط أعمار العراق من مثل تفكيرهم بالهجرة الى الخارج بغية الحصول على فرصة عمل أو دخل معين ، او لجوئهم إلى التجارة غير المشروعة من مثل المخدرات أو السرقة بغية الحصول على الأموال.

ونشطت في العراق منذ عام 2005 ، وبشكل واضح سياسات صرف تخصيصات مالية ضمن برامج الإعانات النقدية في سعي لترسيخ شبكة حماية اجتماعية تشمل الفقراء والمعوزين والذين ليس لديهم دخل.

وبحسب أم حسين ( 75 سنة ) فان المعونة النقدية التي تتقاضاها - على قلتها - إضافة الى البطاقة التموينية ، تمثلان النافذة الوحيدة التي توفر من خلالها لقمة العيش.

ولا تمتلك أم حسين أي دخل آخر وتعيش في ملحق من غرفة بنيت بشكل عشوائي الى جانب بيوت احد الجيران الذين يعطفون عليها حيث سمحوا لها بالعيش في هذا الملحق.

ولأم حسين زوج توفي منذ نحو سبعة أعوام وابن قٌتِل في تفجير في مدينة كربلاء في آب 2011.

مفردات تسول متشابهة

ويحفظ اغلب متسولي العراق مفردات تسول متشابهة وتؤدي الغرض نفسه في استدرار عطف المارين ، بل ويلجأ البعض الى إظهار عوقه، او عاهته لجلب انتباه الآخرين لحالته.

وينتهز المتسولون الأعياد والمواسم الدينية، والمناسبات الاجتماعية لممارسة ( مهنة ) التسول التي تتطلب كفاءة وتجربة طويلة في الجدية.

ويقول رحيم الأسدي ( 50 سنة ) وقطعت يده اليسرى ورجله اليسرى أثناء تفجير في الكاظمية ( من المناطق المقدسة في جانب الكرخ من بغداد ) في أيلول 2007 ان التسول صار مهنة له يمارسها ضمن أوقات وبرامج يومية ، فهو ينهض صباحا ويختار منطقة يختارها بين سبع الى عشر مناطق في برنامجه ويعود الى البيت في حوالى الخامسة مساء.

ويتابع الأسدي بجدية واضحة: إنها أوقات عمل ثابتة ، والتقاعس عن الذهاب يعني ان منطقة التسول احتلها متسول آخر.

مناطق حيوية للتسول

وبحسب أعراف متداولة بين المتسولين فان وجود متسول في منطقة ما ، لا يتيح لمتسول آخر من ممارسة ( عمله ) فيها.

ويقول الأسدي ان هناك شبكات من متسولين بحماية أصدقاء وأقرباء وأبناء لهم ، يتهيأون لأي طارئ يؤثر في عمل المتسول ومنطقته الحيوية.

وتمثل المساجد وساحات الاحتفالات وتقاطعات الشوارع عند إشارات المرور، أماكن مثالية للمتسول الذي يحاول الحصول على اكبر قدر من النقود بأقصر زمن ممكن.

ويتحدث سعيد حسين وهو سائق تاكسي عن نوع من المتسولين يستخدم القوة والوقاحة بدلا من استدرار العطف ، يصادفك عند تقاطع الطرقات حين تقف السيارات منتظرة الإشارة اليومية ، فما ان تفصح له عن رغبتك في عدم إعطائه النقود حتى يكيل لك الشتائم والكلمات النابية بل ويحاول إلحاق الضرر بسيارتك في بعض الأحيان.

طرق مبتكرة

ويلجأ بعض المتسولين إلى طرق مبتكرة في الجدية عن طريق إعلان انضمامهم الى جمعيات quot;خيريةquot; وهمية ، كما يلجأ البعض الى تعليق صور العاهات وتأثيرات الأمراض لاستدرار العطف.

وفي مدينة الكاظمية في بغداد يتحدث حسين الكاظمي عن رجل فوق كرسي متحرك ظل لأسابيع يستجدي النقود حتى اكتشف الناس أمره ، فهو رجل ناصح وقوي وما الكرسي المتحرك الا حيلة من حيل التسول المختلفة الأساليب.

ويقول رحيم الكلابي وهو صاحب متجر في النجف ( 160 كم جنوبي بغداد) ، يجلس عنده المتسول ابو حمزة بشكل يومي انه لا يستطيع طرده لانه رجل عاجز عن العمل ، وليس هناك من يعينه.

ويضيف : لم يٌشْمَل ابو حمزة بالمعونة النقدية الحكومية لانه فقد اوراقه الرسمية ، وحاولت مساعدته بالعثور عليها لكني لم افلح.

حاسة (تسول) قوية

وتشير متابعة الباحث الاجتماعي سامر الجزائري ( عاطل عن العمل منذ ما يقارب العقد من السنين ) الى ان اغلب المتسولين يتمتعون بحاسة ( تسول ) قوية ، وذكاء ( اجتماعي ) ،يسخّرونه في المناسبات والأعياد والتجمعات الاجتماعية والدينية لاستغلال إقبال الناس على أعمال البر وإخراج الصدقات، أحسن استغلال .

ويأمل الجزائري في تفعيل دور الرعاية الاجتماعية للحد من ظاهرة التسول عبر توفير الدخل المعقول للمحتاجين الفعليين اليه ، و تفعيل دور الشرطة في الكشف عن المتسولين المزورين ، إضافة الى القضاء على الفساد الإداري والمالي الذي شاب برنامج المعونات الاجتماعية في السنين الماضية.

وفي ظل تحسن الوضع الاقتصادي ، وارتفاع معدل الخل لاسيما بين الموظفين ، فان الجزائري يأمل في انحسار ظواهر الرشوة والفساد بين شبكات الحماية الاجتماعية، وتزايد فرص العمل التي اذا ما توفرت فإنها ستساهم حتما في القضاء على التسول كمهنة بين من يدعي الحاجة والعوز.