لم تعد حلب كما في السابق مركزاً للصناعة والتجارة في سوريا الثائرة. فبعد أن كانت موطن ثلاثة ملايين شخص و30 ألف موقع صناعي وتجاريّ، بات تجارها وأثرياؤها يغادرون الى المنافي لتجنب ابتزاز طرفي النزاع وانقاذ ما يمكن انقاذه.
لميس فرحات من بيروت: بعد 5 سنوات من فرار رجال الأعمال العراقيين من الحرب الأهلية في بلادهم، يشهد تجار سوريا مصيراً مشابهاً، لا سيما مدينة حلب التي باتت ساحة رئيسية للصراع المستعر في البلاد.
تعتبر حلب أكبر مدينة سورية ومركزاً رئيسياً تتركز فيه توربينات البلاد الصناعية والتجارية. فهي موطن لثلاثة ملايين شخص و30 ألف موقع صناعي، من مصانع النسيج والأدوية إلى غيرها من الشركات الصغيرة التي تشكل أكثر من ثلث انتاج سوريا الصناعي.
يمكن القول إن هذه الأرقام كانت صحيحة بطبيعة الحال قبل اندلاع الحرب لاسقاط الرئيس بشار الاسد، والتي تركزت معاركها في حلب التي تعتبر بنظر الكثيرين دعامة للنظام.
أثرياء موالون
اليوم، تعمل مصانع حلب بأقل جزء من قدرتها وقد جمع أصحابها ثروتهم وفرّوا بها قبل أن تأكلها النيران فيعانون المزيد من الخسارة.
قد يعود هؤلاء إلى بلادهم من جديد ما إن يتوقف القتل، كما فعل الكثير من العراقيين، أو مثل الأجيال السابقة من اللاجئين الشاميين، أو ربما يستقرون بعيداً مع ثرواتهم.
ينظر الكثير من السوريين إلى رجال الأعمال الأثرياء في حلب بعين الاحترام والاستياء في الوقت ذاته، لحنكتهم وتعاونهم مع السلالة الحاكمة التي أنشئت قبل أربعة عقود، والتي اعتبرت التجار الأثرياء منذ عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد طبقة مميزة عن الشعب السوري.
سوق المدينة الذي يعود إلى قرون من التاريخ، تحول اليوم إلى ضحية حرب بسبب الدمار الذي ألحقته به المعارك والاشتباكات، لكنه في نواحٍ كثيرة لا يزال قلب التجارة النابض بفضل حنكة وذكاء التجار.
في أواخر الثمانينات، كان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي السوري أعلى من تركيا وعلى قدم المساواة مع كوريا الجنوبية، وكانت المنسوجات الحلبية الأكثر انتشاراً في بيوت الأزياء في أوروبا لجودتها وأسعارها المنافسة.
في ذلك الوقت، كانت حفنة من العائلات الكبيرة تهيمن على الصناعة في حلب. ومنذ صعود بشار الأسد رئيساً للبلاد بعد وفاة والده في العام 2000، تضاءلت سلطة هذه العائلات مقابل مجموعة من الموالين للنظام وعائلاتهم الذين سيطروا على اقتصاد المدينة على حساب قلة من الصناعيين.
quot;النظام خلق طبقة كاملة من رجال الأعمال فاحشي الثراءquot;، قال وليد فاخوري، وهو صناعي من مدينة حلب، نقل أعماله إلى اسطنبول، وإن بوتيرة منخفضة عن السابق، مشيراً إلى أن أثرياء المدينة يشملون quot;اعضاء البرلمان وأقارب رجال الدين الأقوياء، الذين بمجرد وصول القتال إلى حلب فروا إلى دبي أو القاهرةquot;.
إبتزاز من الطرفين
أما الذين لم يتمكنوا من الهروب، فظلوا في المدينة متحملين مخاطر عدة، واضطروا إما الخضوع للنظام الذي يطالبهم بالمساعدة في تغطية تكاليف الحرب أو الثوار الذين يحتاجون إلى الموارد.
وبرزت في الآونة الأخيرة ظاهرة ابتزاز رجال الأعمال من أجل الحصول على فدية، ففي الآونة الأخيرة يمكن لتاجر مخطوف من حلب أن يعادل عشرات الآلاف من الدولارات.
وفي الآونة الأخيرة خُطف رجل أعمال بارز، محمد ماهر ملاح، على سبيل المثال، وأطلق سراحه بعد دفع فدية مالية بقيمة 5 ملايين ليرة سورية، أي ما يعادل 70 ألف دولار.
الاشتباكات في المدينة بين الثوار وقوات النظام ادت إلى حرق المصانع وقتل أصحاب الأعمال الصغيرة الذين رفضوا الانصياع لمطالبات الثوار بتنفيذ إضراب عام. وأصبحت أعمال القتل في الآونة الأخيرة أحداثاً روتينية في المدينة.
الهجرة ... لم لا ؟
قبل هجوم الثوار الصيف الماضي من أجل السيطرة على حلب، كان أحد التجار الذي عرّف عن نفسه باسم quot;سحسونquot; يدير مصنعاً بفريق يصل إلى 200 عامل لصنع للملابس، افتتحه منذ 26 عاماً.
يقول التاجر الحلبي إن المصنع كان يوفر له مردوداً يبلغ أكثر من 1 مليون دولار سنوياً. لكن بعد أن فشل اتفاق التجارة الحرة مع تركيا في إعطاء المنتجين السوريين الوصول إلى الأسواق الأوروبية، تركزت اعمال المصنع على المشترين في الأردن والعراق والمملكة العربية السعودية.
في يوليو/تموز، هرب هو وأسرته عندما اندلع القتال في الحي الذي يقيم فيه في مدينة حلب القديمة، ولم يتمكنوا من اصطحاب أي مقتنيات، باستثناء بعض النقد والملابس التي يرتدونها.
في غضون بضعة أشهر، تمكنت العائلة من جمع نحو 100 ألف دولار من المشترين، فاستأجرت شقة في حي اسطنبول أفندي تم تزويدها بتسع آلات خياطة المستعملة وقطع من النسيج الصناعي.
اليوم يعمل في المصنع ثمانية عمال، جميعهم من اللاجئين الذين فروا من حلب، وينتجون ملابس الأطفال.
المصنع ليس له اسم، لكنّ المشترين يعرفون العنوان، وكل بضعة أيام يرسلون شاحنات لنقل شحنة من الملابس وتسليمها إلى المتاجر والبازارات في عمان وبغداد والرياض.
quot;في نهاية المطاف، نحن نريد أن نعود لمتابعة أعمالنا في حلبquot;، قال التاجر الحلبي، مضيفاً: quot;لكن إذا فشلنا، فسوف ننتقل إلى أوروبا أو الولايات المتحدة. عملت في الصناعة طوال حياتي وهي المهنة الوحيدة التي أجيدهاquot;.
التعليقات