كأن كتابة التاريخ في لبنان وجهة نظر، الأحداث واحدة لكن الروايات كثيرة، فالخلافات السياسية منعت ولادة كتاب تاريخ موَّحد، لجان رسمية كثيرة شُكِّلت لكنها فشلت في إنجاز مهمة التوحيد التي دعا إليها اتفاق الطائف.
بيروت: آخر المحاولات قادها وزير التربية السابق حسن منيمنة في العام 2009، في حكومة الرئيس السابق سعد الحريري، شكل منيمنة لجنة لإعداد الكتاب، ضمت أكاديميين وممثلين عن الأحزاب السياسية، بعد اجتماعات كثيرة أعدت اللجنة منهاج كتاب التاريخ رغم عدم الحسم على مواضيع خلافية كثيرة تتعلق ببعض محطات الحرب منذ العام 1975.
مع سقوط حكومة الحريري، بدا وكأن ما أنجزته لجنة الوزير منيمنة آيل إلى السقوط بدوره، فقد شكلت حكومة نجيب ميقاتي لجنة وزارية برئاسة الوزير نقولا فتوش لإعادة دراسة ما أنجزته اللجنة العلمية، فوضع بعض الوزراء ملاحظاتهم، وبدا من جديد ان وجهات النظر هي التي تتحكم بكتابة التاريخ، وان تاريخ الجماعات يطغى على تاريخ الجماعة، وان التاريخ بدل أن يوحِّد بات مادة متفجرة.
علت الأصوات المعارضة ودخلت اللعبة السياسية الداخلية مرحلة جديدة، الدكتور عصام خليفة عرض أهداف كتاب التاريخ، ومنها تعريف الطالب على هويته الوطنية، محذرًا من المفاهيم التعصبية، والحديث عن أن الهوية الوطنية في لبنان مهددة من قبل أخطار داخلية (عصبيات الطوائف) وأخطار خارجية (أطماع العدو والتدخلات ومحاولات فرض النفوذ والوصاية من الأصدقاء والحلفاء)
ويؤمن كتاب التاريخ للطالب، وفق خليفة، quot;امتلاك الثقافة التاريخية التي يجب أن تقتصر على الأحداث السياسية والعسكرية، بل يجب الاهتمام بالتاريخ الاجتماعي، والديمغرافية التاريخية، والاقتصاد والمواصلات، والزراعة، والصناعة، والتجارة، والنقد والأسعار، الطرق والمرافئ ووسائل النقل... والتربية والثقافة والحضارة المادية، ويجب الاهتمام بحضارات كل الشعوبquot;.
وشدد خليفة على أهمية المواطنية وأولوية الانتماء إلى لبنان الوطن. فـquot;تعليم التاريخ، في مجتمع متعدد الطوائف كلبنان يتطلب أهمية التوفيق بين احترام خصوصيات كل الطوائف وإبراز أدوارها جميعًا، من خلال كل المناطق اللبنانية وليس منطقة واحدة بالذات، وأهمية بلورة وعي ما فوق طائفي لدى الطلاب، بحيث يعتز هذا الطالب بتراث كل مكونات الوطن، بفكر نقدي عقلاني، يبعده عن الأفكار التعصبية الفئوية والتمترس عند تراث الطائفة الواحدةquot;. وشدّد على الاستفادة من تعلم تاريخ الماضي بهدف خلق مواطنين يلتزمون باحترام التعدّد والتفاعل الاجتماعي، والتمسك بالجوامع المشتركة والإخلاص لاستقلال وسيادة الدولة اللبنانية، ودور الشعب اللبناني في نهضة البيئة العربية. وكذلك يجب أن يستوعب الطالب تجارب الشعوب المختلفة.
وأكد موقفه الداعي، بالنسبة إلى منهاج الصف الرابع المتوسط (البريفيه)، إلى ضرورة عدم الدخول في التفاصيل لدى إيراد مرحلة ما بعد العام 1975، والاقتصار على عرض الأسباب الداخلية والإقليمية والدولية للحرب وكلفتها.
واقترح خليفة التشديد على الخلاصة في quot;رفض العنف في حل النزاعات بين اللبنانيين، والتمسك باستقلال وسيادة الدولة اللبنانية، وعدم الارتباط او التبعية العمياء للقوى الخارجية، والتمسك بالميثاق الوطني، والاستعداد لمواجهة الأطماع الإسرائيلية بالأرض والمياه، والتحالف مع الدول العربية من موقع السيادة والاستقلالquot;.
وأشار إلى أن quot;إصرار كل طرف على طرح روايته للحرب وتفاصيلها قد يؤدي الى عدم التوصل الى تسوية، وبالتالي قد يؤدي الى عدم التوصل الى منهج للتاريخquot;.
وبالنسبة إلى الكتاب الموحد لتدريس التاريخ رأى خليفة أنه quot;من الضروري وجود لجنة عليا من المؤرخين والباحثين الذين لا يرقى الشك إلى موضوعيتهم لتشرف على وضع الكتاب الموحد (بالتنسيق مع المركز التربوي)، وانه يمكن إصدار اكثر من كتاب لتدريس التاريخ شرط الإشراف عليه من اللجنة نفسها، وهذا يعني أنني ضد الكتاب الموحد، ولكن مع مناهج موحدة ومع رقابة عليا على الكتب التي قد توضع بمتناول التلامذةquot;.
ورحَّب النائب سامي الجميل المعارض الاساسي لما تم التعديل عليه في كتاب التاريخ، رحَّب بقول خليفة بـquot;إمكانية إصدار أكثر من كتاب تدريسquot;، واصفاً الصياغة الحالية التي تمّ التوصل إليها بـquot;غير المقبولةquot;.
وشدّد على quot;أهمية وجود كتاب تاريخ موحد في بلد تتربى فيه أجيال بمنأى عن بعضها البعض ولا تعرف بعضهاquot;. وشدّد على ضرورة أن يتعلّم أولاد جبل لبنان، ويعرفوا عن تضحيات أهالي الجنوب ومعاناتهم في ظل الاحتلال الإسرائيلي، وكم قدموا من الشهداء، وأن يشعر أهل الجنوب في المقابل، بمعاناة أهل جبل لبنان ونضالهم وتضحياتهم والكوارث التي تعرّضوا لها من جرّاء الاحتلال السوري، لكي نتمكن من بناء وطنquot;.
ورأى انه quot;لو كان حزب الله وأهلنا في الجنوب مطلعين على نضالنا في وجه الاحتلال السوري في كتاب التاريخ وما تعرّضنا له من 1976 إلى 2005 لكانت ردة فعلهم تجاه 14 آذار/مارس 2005، وتجاه الانقسام السياسي الحالي، وتجاه مطالبتنا بكتاب تاريخ منصف، غير ما هي عليه اليوم. ولكانوا شعروا بما نشعر بهquot;.
أضاف: quot;نحن لم ننكر نضال أحد ونحن أول من اعترف بتضيحات أهل الجنوب وشهداء حزب الله ونضاله في وجه الاحتلال الإسرائيلي، ولم نعترض على السرد الوارد في هذا السياق في كتاب التاريخ بل اعترضنا على عدم إنصافنا كمقاومة لبنانية وكجزء أساسي من المجتمع اللبناني الذي قاوم واستشهد دفاعًا عن لبنان في وجه الاحتلال السوري والوجود الفلسطيني المسلّحquot;.
مرحلة غياب التاريخ
في ظل التجاذبات السياسية بين قوى 14 و8 آذار/مارس حول كتاب التاريخ، هل نحن أمام مرحلة ستجمع كل سواد المراحل السابقة مرحلة اسمها غياب كتاب التاريخ الموحد، قد تغير وجه التاريخ للبعض، وقد تكرس تاريخًا آخر لبعض آخر، قد تقود الى حرب جديدة باردة قبل تدوين حقيقة الحرب الساخنة الماضية، حقيقة تبدأ في الخلاف على الامير فخر الدين ولا تتوقف عند الامير بشير ولا عند الاحداث في العام 1860، ولا عند حدود لبنان الكبير ولا عند حدود العام 1958، ولا عند حرب السنتين ولا سلسلة الحروب التي تلتها وصولاً الى اتفاق الطائف وعملية 13 تشرين الاول/اكتوبر، وعهد quot;الوصايةquot; السورية.
حرب كتابة التاريخ دارت ايضًا حول احداث العام 2005 وما بعدها من اغتيال الرئيس رفيق الحريري وثورة الارز وانسحاب الجيش السوري من لبنان، وحرب تموز /يوليو، واحداث 7 آيار/مايو 2008، وتفاهم الدوحة وانتخاب العماد ميشال سليمان رئيسًا للجمهورية لتستقر عند وجهة نظر تطالب بوقف سرد التاريخ عند حدود العام 2005.
فهل ستكون هناك حدود للخلاف، هل سيكون كتاب موحد للتاريخ؟ ام ان الرواية التاريخية للاحداث ستظل في إطار الروايات الشعبية، بحيث تبقى لكل جماعة روايتها، وكتابها الخاص للتاريخ ويكون لكل حدث روايات كثيرة في لبنان، ام ان القوي هو من يكتب التاريخ على حد قول نيتشيه، كثيرون تحدثوا عن قوتين في لبنان لذلك لا يمكن كتابة التاريخ بوجودهما، لا يمكن الحديث عن مقاومتين واحدة مسيحية واخرى اسلامية من دون عملية إقصاء أو إلغاء، كيف يمكن ان يدون كتاب التاريخ ما قاله الجنرال ميشال عون في 14 آذار/مارس 1989، عندما اعلن حرب التحرير على سوريا، حرب الضعيف على القوي، اي تحرير سيكتب كتاب التاريخ، وذاكرة لبنان، تحرير من سوريا ام تحرير من اسرائيل؟
هذا الاقصاء الذي يكتب فصولاً على خلافات كتاب التاريخ، يدخل ضمن صراع سلطة اللغة، انها ثقافة الإلغاء وثقافة الدونية، ثقافة quot; انتم ونحنquot; انها تبرز الهوية المتصدعة للمجتمع اللبناني القائمة على اقصاء الآخر وإلغائه.
من هنا تبدأ الاشكالية الكبرى، التي لن تنتهي عند اعتصام في السراي او اضراب واحتجاج.
التعليقات