مضيف عشائري في إحدى المدن العراقية

يلجأ معظم الأشخاص في العراق وخاصة في محافظات الوسط والجنوب ومناطق بغداد ذات الزخم العشائري، إلى العشيرة لحل النزاعات التي تحدث بينهم من خلال تسويتها أو تعويض المعتدى عليه بمبالغ مادية بما لحقه من أضرار.


يتفاجأ المستطرق في مدينة الشعب في بغداد، بوجود إشعار لافت للانتباه علق على أحد المحال المغلقة ويحمل عبارة (مطلوب عشائريًا)، في دلالة واضحة على أن هذا الشخص فضل الاختفاء عن الأنظار بسبب خوفه على حياته.

ويزداد الاستغراب حين يخبرك البعض أن هذه الظاهرة ليست استثنائية بل هي حالة تتكرر في أكثر من شارع ومدينة، وتحت أنظار الشرطة ومؤسسات الأمن.

وبحسب الشيخ عصام الجبوري، فإن البعض ممن يشعر بالقوة من أن العشيرة تسنده أثناء النزاعات، لا يحبذ الذهاب الى الشرطة ومراكز الأمن لإقامة الدعاوى على اشخاص تنازعوا معهم ويفضلون أخذ حقهم بأيديهم عبر الاستعانة بالعشيرة.

اللجوء الى العشيرة

وعُوِّض عمران جبار بمبلغ عشرة ملايين دينار عراقي كتسوية بين عشيرته واهل شخص اعتدى عليه بالرصاص وكسر احدى يديه.

والشاب امين حاكم الذي يعتقد بأهمية دور العشيرة ويشجع على اللجوء إليها يرى أن الانتقام من المذنب وأخذ الحق لا يكون الا عبر هذا الطريق بعدما اثبتت التجارب ان اللجوء الى الدولة لا يحل المشكلة ولا يُرجع حقا اغتُصِب على حد تعبيره.

ويضرب الجبوري في الكثير من الحوادث التي ظل فيها المذنب طليقا يمارس حياته اليومية من دون خوف لأن اهالي الضحية اكتفوا باللجوء الى الشرطة التي لم تفعل شيئا تجاه الشخص المذنب. ويتابع : غالبا ما يتخوف المجرمون والناس الذي قاموا بأعمال قتل وسلب من العشيرة اكثر من خشيتهم من الشرطة.

وفي بعض الاحيان تساعد الشرطة مرتكب الذنب على الهروب عبر الرشوة، وهو ما حدث مرات عديدة بحسب الجبوري. وفي محاولة للتوصل الى صيغة تحد من الظاهرة ناقشت لجنة العشائر النيابية في البرلمان العراقي، هذا الاسبوع مشروع قانون المجلس الوطني الاعلى للعشائر العراقية.

ويعتقد الشيخ لطيف حسن ان دور العشيرة لا ينحصر في مناطق الريف واطراف المدن مثل السابق بل تعزز في المدينة واصبح له القول الفصل في النزاعات داخل بغداد ايضا.

مطلوب عشائريًا

وفي مدينة بغداد، يحصي المستطرق نحو ثلاثين دكانا كتب على واجهتها (مطلوب عشائريًا)، في ظاهرة تشير الى انحسار القانون في فض النزاعات.

المحامي سعيد حبيب يؤكد هذه الحقيقة، ويقول إن عبارة (مطلوب عشائريًا) صارت متداولة بعدما انحسرت بشكل كبير جدا منذ سبعينات القرن الماضي حين نجحت السلطة في فرض سيادة القانون وحجمت دور العشيرة حيث تحدد دورها في المناسبات الاجتماعية فقط.

ولجأ حميد حسن رغم كونه خريج جامعة الى الاستغاثة بعشيرته لفض نزاع حول أرض مع صاحب مكتب عقار. يتابع حسن : طوال اشهر من المراجعات لم تحسم الشرطة الامر، حتى اضطررت الى الاستعانة بعشيرتي في استرداد حقي.

ويرجع حسن ما يحصل الى ضعف القانون، اضافة الى الرشوة والمحسوبية المتفشية بين افراد الشرطة.ولا يستبعد حسن أن يكون القضاء ايضا متورطا في الكثير من صفقات الفساد التي تعيق دوره في إحقاق الحق.

القانون العشائري

ولم يلجأ حيدر الفتلاوي الى القانون في قضية مقتل أخيه العام الماضي على يد اثنين من قطاع الطرق، بل لجأ الى القانون العشائري النافذ بين العشائر وهو مطاردة القاتل وقتله.

ورغم أن القتلة باتوا معروفين، وتوسطت عشيرتهم لغرض حسم الموضوع بالفصل العشائري الى ان اهالي القتيل يرفضون الى الان الجلوس على طاولة المفاوضات حيث يعتبر أن الفتلاوي أن أي خطوة من هذا القتيل هي مساومة على دم أخيه.

لكن الشيخ رحيم الاسدي وهو وسيط بين العشيرتين يقول: أمر الفصل والصلح غير مناسب الان ويجب تركه لفترة لحين ترتاح النفوس. ولا يسلم موظفون وأطباء ومهندسون ومدرسون من تأثير دور العشيرة المتنامي في المجتمع على أعمالهم.

ويقول المدرس أحمد انه تعرض للتهديد بالقتل من قبل عشيرة ينتمي اليها احد الطلاب لانه نهره داخل الفصل، لكن الطالب ادعى إسماعه كلمات مهينة حيث استعان بعشيرته لرد الاعتبار.

وخط مجهولون على سيارة كريم بابو ( مدير مدرسة ) في بابل ( 100 كم جنوب بغداد، عبارة (مطلوب عشائريا) ما جعله يقلق على حياته ليضطر الى اللجوء الى عشيرته هو الآخر لغرض فض النزاع.

ظاهرة شائعة

ورغم ان البعض يعد الظاهرة، حالات فردية لا يمكن القياس عليها، الا ان المحامي قيس حداد يرى انها شائعة بحكم عمله في المحاكم. ويقول ان منطق القوة ما زال هو الفصل في استرداد الحق الشخصي. ويرجع حداد الانتكاسة في ( دور القانون) الى الحروب والأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي مرّ بها العراق والذي تسبب في إضعاف الدولة والقانون.

ويعترف رئيس لجنة العشائر النيابية محمد الصيهود بتفشي ظاهرة الكتابة على جدران البيوت والمحال التجارية بعبارة (مطلوب عشائريًا) وهو بمثابة إلغاء لدور الجهات الحكومية القانونية.

لكن الشيخ عصام الكلابي من بغداد يرى ان القيم العشائرية لا تنقذ الظالم، وان اغلب العشائر لها مجلس حكماء من كبار القوم يدرسون الامر ولا يسمحون بظلم احد. ويتابع : البعض يرى ان المجالس العشائرية التي تبت في المنازعات هي بديل لمؤسسات الدولة القضائية والأمنية، لكن الحقيقة ان دورها يعتبر مكملا لاجهزة الدولة حين تضعف.

لكن الخبير القانوني جاسم حسن يرى ان الكثير من حالات الفساد اليوم من مثل سرقة اموال الدولة تتم تسويتها بعيدا عن القانون عن طريق العشائر. ويضيف: اعرف مسؤولا قُبِض عليه متلبسا في سرقة اموال طائلة من الدولة، وبعد فترة اختفاء لمدة شهرين سوي الامر عشائريا.

اما الباحث الاجتماعي كريم حسن فيعتقد ان ثقافة المواطنة تنحسر لصالح العشيرة وثقة المواطن في السنوات العشر الاخيرة في الدولة والقانون هبطت الى ادنى مستوياتها حيث ملأت القوانين العشائرية الفراغ.

شيخ العشيرة والسياسي

لكن الباحث القانوني والمحامي عدي صيهود يحمّل سياسات الدول الداخلية المسؤولية في اشاعة ثقافة الاعتماد على العشيرة. ويقول ان الحكومة العراقية تحاول اليوم تعزيز قوتها عبر الاستعانة بالعشائر ما خلق جوّا عاما من ان العشيرة هي الاساس في فض النزاعات وكسب الاصوات في الانتخابات ايضا.

وبحسب سالم، فإن للعشيرة اليوم دورا سياسيا كبيرا وهذا يعزز نفوذها الاجتماعي ويشجع على لجوء الناس اليها، ويغذي فيهم الشعور من ان العشيرة هي الاقوى لان اغلب السياسيين يلجأون اليها في تعزيز مكانتهم ورفع رصيدهم الشعبي، بل ولا يستبعد سالم من ان بعض السياسيين يسوون خلافاتهم عشائريا ايضا. ويتابع: اعرف نوابا يكون شيخ عشيرتهم هو المرجعية في سياساتهم وأجندتهم.