وزير النفط الليبي السابق شكري غانم

الجثة التي عُثر عليها عائمة في نهر الدانوب في فيينا تصلح مشهدا استهلاليا لعمل مشوق عن عالم الجاسوسية. إذ اتضح ان القتيل شخصية مرموقة في دكتاتورية نفطية انهارت قبل سبعة اشهر ، رجل واسع الاطلاع على ملايين الدولارات من العقود الموقعة مع شركات نفط عالمية وكيف انتهت في جيوب مسؤولين كبار ، بما في ذلك ملايين يُقال انها شُفطت من عقد واحد مع شركة اكسون موبل العملاقة.

هل كان موت شكري غانم انتحارا أو جريمة قتل أو حادثا؟ ان موت وزير النفط في النظام الليبي السابق شكري غانم (69 عاما) اثار موجة من التكهنات على كل هذه المحاور.

وحتى يوم هروبه الى اوروبا في ايار/مايو الماضي خلال عمليات حلف الأطلس الجوية لاسقاط النظام ، كان غانم من اكبر معاوني العقيد القذافي وعمل رئيسا للوزراء ووزيرا للنفط ورئيس شركة النفط الوطنية الليبية التي يعتمد اقتصاد البلد على ايراداتها. وقالت السلطات النمساوية انه ليست هناك آثار عنف على جثة غانم ولكنها لا تستبعد ارتكاب جريمة الى ان تظهر نتائج التشريح. واعلن الناطق باسم الشرطة النمساوية رومان هازلنغر للصحفيين ان من الجائز ان غانم سقط في الماء بعد مرض ألم به. من الجائز. ولكن كثيرا من الليبيين والمحللين النفطيين والصحفيين يرتابون بأن موت غانم لم يكن حادثا عارضا. فهو كان يعرف أكثر من سواه تفاصيل كل عقد نفطي بحكم منصبه رئيسا لشركة النفط الوطنية واحد اركان الحلقة الضيقة للنظام ، وكذلك تفاصيل الصفقات الجانبية التي كانت تمهد طريق العقود. ومع سيف الاسلام القذافي المسجون حاليا قاد غانم عملية تحويل الاقتصاد الليبي خلال السنوات الست الماضية حين رُفعت العقوبات الغربية تدريجيا عن نظام القذافي. وبدأت بعد ذلك مليارات الدولارات تنهال على ليبيا مع تنافس الشركات الاميركية والأجنبية الأخرى على الفوز بحقوق التنقيب في حقول نفطية واعدة.

وأثارت معرفة غانم الواسعة بالعقود التي وقعت خلال هذه الفترة تكهنات بأن غانم ربما أُسكت خشية ان تدين اسراره آخرين. وقالت مراسلة تلفزيون بلومبرغ في دبي لارا ستراكيان التي غطت اخبار الصناعة النفطية الليبية طيلة سنوات انه ليس من عادتها ان تكتب عن جرائم قتل غامضة ولكن موت غانم يندرج في هذا الباب.

كان غانم شخصية نشيطة نال شهادة الدكتوراه من جامعة تافتس الاميركية في بوسطن. وكان المسؤول المفضل للمراسلين الأجانب الذي يزورون ليبيا لأنه كان يستقبلهم في مكتبه ويتحدث بانفتاح متجاوزا قيود القذافي على الاعلام. وتتذكر فيفيان والت مراسلة مجلة تايم ان غانم اخبرها عام 2010 حين كان رئيس شركة النفط الوطنية ان المساعي الرامية الى التخفيف من غلواء دكتاتورية القذافي تصطدم بمقاومة عنيدة من محافظين داخل النظام وان جهود الاصلاح quot;لن تكون نزهة في حديقة عامةquot;. ولم يكن غانم يبالغ. فبعد عام على حديثه اندلعت ثورة سُفكت فيها دماء كثيرة.

ولكن غانم كان من رجال القذافي ايضا. وعندما بدأت الثورة في شباط/فبراير 2011 احتفظ بموقعه واختار ألا يحذو حذو زميله الحميم سابقا محمود جبريل بالانتقال الى جانب الثوار (اصبح جبريل لاحقا رئيس حكومة المجلس الوطني الانتقالي). وبعد هروبه في ايار/مايو قال غانم لأصدقاء انه غادر بسبب مجازر القذافي ضد المدنيين. ونقلت مجلة تايم عن صامويل سيتشوك الاستشاري النفطي في شركة كي بي سي لاقتصاديات الطاقة الذي التقى غانم عدة مرات بعد مغادرته quot;انه اخبرني قائلا quot;لم استطع البقاء غير مبال. فان كثيرين قُتلوا وكان علي ان اتوقفquot;quot;. ولكن غانم وجد نفسه في مأزق سياسي وقتذاك. فان نظام القذافي كان ينهار ولكن الثوار رفضوا التعامل معه لأنه بقي مع النظام فترة طويلة.

هرب غانم الى فيينا حيث عاش سنوات خلال عمله رئيسا لقسم الأبحاث في منظمة البلدان المصدرة للنفط quot;اوبكquot;. كما يُعتقد ان غانم كان يحمل جواز سفر ايطاليا حصل عليه من رئيس الوزراء السابق سيلفيو برلسكوني حين وقعت شركة ايني الايطالية عقود نفط وغاز ضخمة مع ليبيا. ونقلت برقية دبلوماسية من السفارة الاميركية في ليبيا عام 2009 عن السفير الكندي في طرابلس قوله ان غانم قبل الجنسية الايطالية ربما لأنه quot;يبحث عن مخرجquot;.

وقال المحلل منوشهر تاكن من مركز دراسات الطاقة العالمية في لندن ان غانم كان متورطا في السياسة ، وهو أمر لا مفر منه إذا كان المرء مسؤولا كبيرا في الصناعة النفطية. واضاف تاكن الذي كان يعرف غانم معرفة جيدة انه لم يكن سياسيا حاذقا quot;وكان يبدو رجلا نزيهاquot;.

ولكن نزاهة غانم وُضعت على المحك في الأشهر التي سبقت موته عندما شرعت السلطات الليبية الجديدة في السعي الى اكتشاف كل ما كان يعرفه عن العقود النفطية. وقال محللون نفطيون لمجلة تايم ان غانم كان يخضع للاستجواب بصورة متزايدة ، حتى من جانب الصحفيين ، عن الفساد في الصناعة النفطية. وقال جوليو كاريني الناشط في منظمة quot;غلوبال ويتنسquot; غير الحكومية لمكافحة الفساد ان غانم كان دائما يرفض الكلام عن الماضي مشيرا الى انه كان يعتزم مقابلته في ايار/مايو. ولكن كاريني استبعد ان غانم كان يعرف كل شيء عن العقود. وقال ان هذا دفع البعض الى التكهن بأن موته ربما كان انتحارا.

ويبدو ان هناك الكثير مما يتعين التستر عليه. فقبل اسبوعين نشرت منظمة quot;غلوبال ويتنسquot; تقريرا مسربا عن مراجعة داخلية عام 2010 لدفاتر شركة النفط الوطنية الليبية يوم كان غانم رئيسها. واشار التقرير الى ان الشركة كانت تبيع نفطها بسعر أقل من سعر السوق وكانت تعتبر بعض الصادرات على انها ذات نوعية اعلى من حقيقتها. وشكت اكسون موبل مثلا من تسلمها نفطا ليبيا أدنى نوعية مما وعدت به شركة النفط الوطنية. وقال كاريني ان الخسارة التي تكبدتها اكسون كانت 4 ملايين دولار. يضاف الى ذلك ان شركة النفط الوطنية برئاسة غانم قدمت حسومات كبيرة لشركة يارا النفطية النرويجية وشركات اخرى مثيرة تساؤلات عما إذا كانت رشاوى دفعت مقابل هذه الحسومات رغم عدم وجود دليل عى ذلك حتى الآن.

وقرر القادة الليبيون الجدد اخضاع العقود النفطية للتمحيص وأمروا بمراجعة كل الصفقات التي وقعت في زمن النظام السابق. وقال نائب المدعي العام الليبي عبد المجيد سعد لصحيفة وول ستريت جورنال ان السلطات الليبية تجري تحقيقا لمعرفة دور غانم في هدر المال العام والكسب غير المشروع وسوء الادارة وتوقيع عقود نفطية كانت فيها مخالفات.

وامتنع المسؤولون الليبيون عن القول إن كانت تهمة وجهت رسميا الى غانم بارتكاب اي جريمة في ليبيا. ولكن نائب المدعي العام قال لصحيفة وول ستريت جورنال ان الشرطة الدولية quot;الانتربولquot; كانت تعد مذكرة حمراء لالقاء القبض على غانم. وقالت المتحدثة باسم الانتربول راتشيل بيلنغتون لمجلة تايم يوم الاثنين ان من الجائز ان تكون مذكرة كهذه عُممت على المسؤولين المعنيين بتنفيذ القانون.