متظاهرون يرمون الحجارة خلال المواجهات أمام السفارة الأميركية في تونس |
تواجه السلطات التونسية انتقادات واسعة بسبب تواصل مظاهر العنف السياسي وآخرها المواجهات التي شاركت فيها عناصر من التيار السلفي الجهادي في محيط مقرّ السفارة الأميركية في العاصمة تونس.
طالبت وزارة الخارجية الأميركية يوم السبت أفراد عائلات دبلوماسييها وموظفيها غير الأساسيين بمغادرة السفارة الأميركية في تونس بسبب مخاوف أمنية، رغم التطمينات الرسمية والمواقف المستنكرة لمحاولة اقتحام مقرّ السفارة أول أمس الجمعة من طرف محتجين على بث الفيلم المسيء إلى النبيّ محمد quot;براءة المسلمينquot;. وتواجه السلطات التونسية انتقادات واسعة بسبب تواصل مظاهر العنف السياسي.
ارتفاع حصيلة القتلى والجرحى
وارتفعت حصيلة أحداث محيط السفارة الأميركية في تونس إلى 4 قتلى و28 جريحًا من المتظاهرين و66 جريحًا من رجال الأمن منهم 3 في حالة حرجة، وفق ما أكده مصدر طبّي لـ(إيلاف).
وفي الوقت الذي لم تصدر فيه أي ردود أفعال أو مواقف لزعماء التيار السلفي الجهادي، المكوّن الأساسي للمسيرة المنددة بالفيلم المسيء إلى النبيّ محمد التي تحولت إلى مواجهات مع قوات الأمن ومحاولة لاقتحام مقرّ السفارة الأميركية، أجمعت الأحزاب والمنظمات التونسية على التنديد بمظاهر العنف وإدانة الاعتداء على مقرّ السفارة الأميركية.
وأكد مصدر مسؤول في وزارة الداخلية التونسية لوكالة الأنباء الرسمية التونسية، خبر مداهمة قوّات الأمن منزل القيادي في تيّار quot;أنصار الشريعةquot; الملقّب بـquot;أبو عياضquot; دون أن تتمكن من القاء القبض عليه.
وفي تعليقه على محاولة ايقاف الرجل الأول في تنظيم quot;أنصار الشريعةquot;، قال الباحث في الحضارة العربية والمتخصص في الحركات السلفية، سامي براهم، إن ذلك يعكس quot;مدخلاً لفرض سلطة الدّولة و للبحث عن سبل حوار مع أبي عياض في الآن ذاتهquot;.
ويواصل براهم في إفادته لـ(إيلاف): quot;التيار السلفي الجهادي استقوى على الدّولة مستغلاً رغبة جامحة لدى الحكام الجدد الموقتين أن لا تكون فترة حكمهم موسومة بالتجبر والقهر والحلول الأمنية مع من يفترض أنّهم يهددون أمن التونسيين ويرون العنف سبيلاً لتغيير المشهد السياسيquot;.
الشعور بالغبن وضعف الفقه وراء الأحداث
مركبات عسكرية أمام السفارة الأميركية |
النائب في المجلس الوطني التأسيسي عن حركة النهضة، عبد المجيد النجار، أكد في تصريحاته لـ(إيلاف) أن السبب الأول لما وقع من أحداث في محيط السفارة الأميركية هو الهجوم المتكرر على المقدسات. ويرى النجار أن quot;المسلم والمتديّن تحتل مقدساته الدرجة العليا في ضميره، وبالتالي تكون ردود فعله قوية عند شعوره بوجود اعتداء عليها ... هذا معروف وثابت تاريخيًاquot;.
إلا أن النجار، وهو عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، يعتبر أن ردة الفعل تجاه الفيلم المسيء لنبيّ الاسلام لا ينبغي أن تكون بتلك الطريقة العنيفة. ويفسّر النجار: quot;من بين أسباب الأحداث المؤلمة التي جرت بالأمس ضعف الفقه الذي لا ينفذ إلى المقاصد والمآلات ويكتفي بظواهر الأمور والنصوص لدى المحتجين، إلى جانب مشاركة وجوه اجرامية قامت بالنهب والسرقةquot;.
أما سامي براهم، فقال في تفسيره لأسباب أحداث السفارة الأميركية إن عددًا من المعطيات يمكن أن يفسّر ما حدث أبرزها quot;حالة الاحتقان لدى الشباب السلفي الجهاديquot;. وحسب براهم، فقد شارك في المسيرة الاحتجاجية عديد الفئات الاجتماعية كان التيار السلفي quot;قلبها المنظم الذي أتى بخطّة تتجاوز الاحتجاج السلمي إلى حركة مشهديّة سياسياً يختلط فيها الانتصار للرسول الأكرم بالهاجس السياسي المحلّي و الدّوليquot;.
وأضاف: quot;هذه الحالة قديمة متجدّدة، هناك إحساس قديم بالغبن بسبب ما اعتبر إساءة للمقدّسات طيلة الأشهر الفارطة مع عمليّة ضبط للنفس قسريّة من طرف قيادات هذا التيار وجدت فرصة للتنفيس والانفجار بمناسبة الشريط الأميركي المسيء لشخص نبي الإسلام إلى جانب الحجم الكبير للمضمون الاستفزازي للفيلم إذ ركّز بشكل لافت على التبخيس والتحقير مما يمكن أن يثير العواطف ويضخّم الإحساس بالظلم ويدفع لردود فعل انتصارية غير منضبطةquot;.
ويرى سامي براهم أن quot;التيار السلفي الجهادي و غالبيته من المنتسبين عاطفيًا و سياسيًا لتنظيم القاعدة يبحثون عن مدخل موضوعي واقعي يشرّع لموقفهم السياسي القائم على عدم الانخراط في العمليّة السياسيّة ما بعد الثورة إذ اعتبروا الانتخابات و ما أفرزته من مجلس تأسيسي و حكومة مسارًا كفريًا خارجًا عن ثوابت الإسلام واعتبروا الجهاد قائمًا لتغيير هذا الوضع، وإن اعتبر بعض قيادييهم أنّ تونس ليس دار جهاد، لذلك ركزوا على عدم استهداف الشّعبquot;
ويواصل: quot;لقد اعتبروا أنّ الحكم الشرعي في ما يتعلّق بالنظام الكفري القائم هو الجهاد لإقامة دولة الشّريعة ... لذلك ربّما يكون حادث الفيلم المسيء مسوّغًا سياسيًا للبدء في تنفيذ خطّة مقاومة النظام السياسي القائمquot;
ويعتبر براهم أن المربك بالنسبة للمتابع هو quot;عدم إمكان الجزم إن كانت هذه الخطة أو هذا التوجّه ينخرط فيه منظورو هذا التيار أصالة عن أنفسهم أو خدمة لأجندات أخرى محليّة أو إقليميّة أو دوليّةquot;. كما يلاحظ براهم وجود حالة من الغبن لدى أتباع التيار السلفي الجهادي سببها الطريقة التي حسمت بها الإدارة الأميركيّة معركتها مع شيخ تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، إذ لم تمكنهم من القيام بمراسم مأتمه كطقس ديني ورمزي.
ويقول في هذا الصدد: quot;سيبقى بن لادن حيًّا في وجدانهم يحرّك فيهم الحميّة والنزعة الانتقاميّة التي تابعناها بضراوة في أحداث السفارة. بن لادن ليس شخصًا ميتًا في وجدانهم ووعيهم إذ لا عزاء ومأتم ولا قبر له لذلك كان من الشعارات البارزة أمام السفارة الأميركيّة المناداة باسمهquot;.
من جهته، اعتبر عصام الشابي، عضو المجلس التأسيسي عن الحزب الجمهوري المعارض، أحداث السفارة الأميركية استغلالاً لمشاعر المواطنين من طرف مجموعة سلفية متطرفة quot;لتحقيق مآرب سياسية تهدف إلى توجيه رسالة إلى الدولة والمجتمع بهدف فرض منهجها ومنطقها بالقوةquot;.
الخطة الأمنية لمواجهة الاحتجاجات محلّ انتقادات واسعة
التعامل الأمني مع المحتجين، رغم أن أعدادًا ضخمة من قوات الأمن طوّقت مقرّ السفارة الأميركية منذ ساعات الصباح الأولى، كان محلّ انتقادات شديدة وواسعة من صلب السلك الأمني ومن خارجه.
وطالبت quot;نقابة موظفي الإدارة العامة لوحدات التدخلquot; وquot;الائتلاف النقابي للحرس الوطنيquot; في بيانين لهما السبت بفتح تحقيق حول ما وصفاه بـquot;فشل الخطة الأمنيةquot; ومتابعة quot;مآل قضايا الموقوفين في مسيرة الشغب والمعتدين على رجال الأمن والتصدي لأي مساع لإطلاق سراحهم وإفلاتهم من العقابquot;، وفق وكالة الأنباء التونسية الرسمية.
ونادت النقابتان بـquot;الإسراع إلى ضبط الإطار القانوني لعمل رجل الأمن وتجريم الاعتداءات على المقرات الأمنية والمنشآت الحيويةquot; إلى جانب العمل على توفير تجهيزات ووسائل تدخل في مختلف التظاهرات.
من جهته، دان حزب العمال المعارض (يسار)، في بيان له اطلعت (إيلاف) على نسخة منه، استعمال الأمن للرصاص الحيّ ضد المحتجين مطالباً السلطات التونسية بفتح تحقيق جدّي ومستقل في الأحداث الأخيرة ومحاسبة المتسببين في حالات القتل.
وفي ردّه على هذه المواقف، عبّر المتحدث باسم وزارة الداخلية، خالد طروش، عن أسف الوزارة لسقوط ضحايا عقب المواجهات إلا أنه اعتبر التعامل الأمني كان قد تجنّب وقوع الأسوأ واراقة دماء غزيرة بفضل ضبط النفس الذي اتسمت به العناصر الأمنية.
وأضاف طرّوش: quot;لقد تجنبت قوات الأمن اللجوء إلى الرصاص الحيّ إلا في الحالات القسوى والدليل على ذلك أن عدد الاصابات في صفوف وحداتنا الأمنية بلغ 66 عوناًquot;. وأكد المتحدث باسم وزارة الداخلية لـ(إيلاف) أن quot;الوزارة والسيد علي العريّض وزير الداخلية يؤكدان على الوقوف الى جانب الأعوان والإطارات الأمنية التي أدت واجبها يوم أمسquot;.
وقال طرّوش إن وزارة الداخلية quot;ستلاحق كل من له علاقة بالاعتداءات سواء بالتحريض أو بالمشاركةquot;، معلناً عن ايقاف 75 من المشاركين في الاحتجاجات على ذمة التحقيق. وأضاف: quot; سنلاحق كل مجموعات العنف وفق القانون وستستمر الدولة في تصدّيها لهذه الأطراف... الانتماءات لا تعنينا، وهذا هو منهجنا داخل المؤسسة الأمنيةquot;.
عصام الشابي، الناطق باسم الحزب الجمهوري، لاحظ بدوره ما اعتبره quot;غيابًا للاجراءات الاحتياطية التي كان من المفروض اتخاذها ومنها منع وصول المتظاهرين إلى محيط السفارة عبر تطويق المكانquot;.
وعبّر الشابي عن استغرابه من الخطة الأمنية المتبعة من الوحدات الأمنية إذ كان quot;من المتوقع أن يحصل هجوم على السفارة وقد صدرت دعوات بذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعي منذ يومينquot;، على حد قوله.
وقال الشابي إن حزبه كان قد نبّه إلى quot;تزايد وانتشار الظاهرة أمام تراخٍ مريب من الأجهزة الحكومية في التعاطي مع هذه المجموعاتquot;.
وحمّل الشابي quot;المجموعات المتطرفةquot; مسؤولية سقوط ضحايا، وهو موقف يتقاسمه معه حزب المؤتمر من أجل الجمهورية المشارك في الحكم، مطالبًا بالكشف عن الملابسات الحقيقية التي أدت إلى وفاة عدد من المواطنين. كما حمّل الشابي وزير الداخلية، علي العريض، مسؤولية التقصير الأمني الذي يتطلب quot;محاسبة ومساءلة جادةquot;، بوصفه المسؤول الأول عن أمن التونسيين وأمن البعثات الديبلوماسية.
الحكومة مطالبة بأخذ العبرة وتغيير سياساتها
وتسارعت ردود الفعل الرسمية بمجرد عودة الهدوء إلى محيط السفارة الأميركية. فألقى رئيس الجمهورية كلمة بثتها وسائل الاعلام العمومية مساء الجمعة ندد فيها بالحادثة، في حين أعلن رئيس الحكومة قطع اجازته والعودة الى تونس quot;لمتابعة الأحداث عن كثبquot;، حسب بيان صادر عن مكتبه الإعلامي، أما رئيس المجلس الوطني التأسيسي فأدى زيارة إلى مقرّ السفارة الأميركية ليلاً عبر فيها عن تضامنه مع طاقمها.
كما أعلنت رئاسة الجمهورية، في بيان لها مساء أمس السبت، عن عقد quot;جلسة استثنائية في قصر قرطاجquot; تحت إشراف رئيس الجمهورية، وبحضور رئيس المجلس الوطني التأسيسي ورئيس الحكومة ووزراء الداخلية والدفاع والخارجية والعدل quot;لتناول التطورات الأمنية الأخيرة بالبلاد وسبل التعامل معهاquot;.
وأفاد ذات البيان أن الرؤساء الثلاثة يؤكدون quot;العزم على التصدي ومواجهة مجموعات العنف السياسي وكل من يهدد الأمن العام مع التأكيد على أن تونس لن تسمح بأن تكون بأية حال من الأحوال ملاذًا للإرهاب الدولي، وذلك في إطار علوية القانون وإحترام المؤسسات ومبادئ حقوق الإنسانquot;.
الطريق المؤدية إلى مدخل السفارة الأميركية في العاصمة التونسية |
وقال مصدر مطلع لـ(إيلاف) إنه من الممكن أن قرارًا بمواجهة أمنية واسعة مع المنتسبين إلى التيار السلفي قد يكون اتخذ خلال الاجتماع. من جهتها، دعت حركة النهضة، المكوّن الأساسي لـquot;الترويكاquot;، الحكومة إلى quot;دراسة ما حصل وأخذ العبرة منهquot;، حسب بيان اطلعت (إيلاف) على نسخة منه.
وطالب عصام الشابي في حديثه مع (إيلاف) الحكومة بالتخلّي عن سياساتها الحالية ومعاملة المجموعات السلفية المتشددة quot;كخارجين عن القانون دون اعتبار للحسابات السياسيةquot;. وأردف الشابي قائلاً: quot;أحداث يوم أمس ألحقت الضرر بمكانة تونس على الساحة الدولية في وقت تحتاج فيه بلادنا إلى الدعم الدولي ... لقد أمضى السلفيون على حجة وفاة الاستثمار الخارجيّ في تونسquot;.
كما عبّر الشابي عن خشيته من أن تكون عواقب المعالجة المتأخرة لملف المجموعات السلفية المتشددة quot;باهظة الثمنquot; على الشعب التونسي. وقال: quot;لقد طالبنا في الحزب الجمهوري بمعالجة هذه الظاهرة قبل أن تستفحل ونخشى أن تنتج معالجتها اليوم صدامًا عنيفاًquot;.
ويرى الشابّي أن quot;مصلحة البلاد تقتضي اما التزام هؤلاء بمقتضيات التعايش الديمقراطي أو التعامل معهم أمنيًا وفق ما يقتضيه القانونquot;.
وطالب الرئيس محمد منصف المرزوقي بدوره، في خطابه مساء أمس، الحكومة بتحمل مسؤوليتها كاملة quot;في وقف هذا الخطر الداهم الذي أصبح لا يهدد فقط حقوقنا وحرياتنا التي اكتسبناها بعد صراع طويل وإنما أيضاً علاقاتنا الدولية وصورة بلادنا في الخارج ومصالحها الحيويةquot;.
ويقول الباحث سامي براهم إن الحكومة التونسية quot;لا يمكن لها في هذا الحيّز الموقت زمنيًا والتفويض المشروط والمنقوص أن تنخرط في خوض معركة شاملة مع هذا التيار ذي التركيبة المتداخلة وأن تتحمّل تبعات غير مأمونة العواقب نيابة عن المجموعة الوطنيّةquot;.
ويواصل براهم: quot;ستحاول الحكومة أن تشدّد قبضتها الأمنيّة و تراوح بين خيارات صعبة، المعالجة الأمنيّة الجديّة غير المفرطة في عنف الدّولة المشروع والمتمثلة للقانون وتجريم التعذيب والانخراط في حوار حقيقي مع رموز هذا التيار وفتح الإعلام الفضائي التّونسي لهم لتقديم آرائهم و تصوراتهم بشكل مباشر للتونسيين وتحكيم الشّعب فيهم لهم أو عليهم حتى لا تبدو المسألة صراعاً بينهم وبين السلطة أو بينهم وبين أعداء الإسلام من نهضويين و علمانيينquot;.
ويرى عبد المجيد النجار أنه ينبغي الانتقال من معالجة وتحليل الحدث الظرفي إلى التنظير الشامل والمعالجة الشاملة. ويقترح النجار استدعاء رموز التيار السلفي وقياداته ومحاورتهم بهدف الحدّ من التوتر الحاصل.
وأضاف: quot;المعالجة الشاملة يجب أن تكون بمطالبة دول العالم بأن تشرّع مستقبلاً لتجريم التعدي على المقدسات لأن الاعتداءات المتكررة عليها تهدد السلم العالمي، إضافة إلى المعالجة الفكرية، الفقهية والثقافية لتبصير الناس لأن ردود الأفعال على هذا النحو تؤدي إلى الخسارة والفساد وليس إلى الخير. كما ينبغي التصدّي إلى الظواهر الاجرامية بما يستلزم الأمر قانونيًاquot;.
وقال النجار: quot;قد تكون هذه الحادثة فرصة مناسبة لإقرار قانون يجرّم المسّبالمقدسات في الدستور التونسي وأن ننظر في الأمر بجدية وموضوعية وليس من منظور حزبي ضيّقquot;.
التعليقات