في ليبيا بعد الثورة طفرة إعلامية، سببها رد الفعل الطبيعي على أربعة عقود من كبت الحرية. لكن غياب نقابة للصحافيين يسبب غياب المعايير الصحفية الحقيقية، فصارت الصحافة مهنة الأميّ في الاعلام، ما أدى فعليًا إلى فقدان ثقة الشارع الليبي بإعلامه.


طرابلس الغرب: بعد صحف الزحف الأخضر والجماهيرية والشمس، وبعد العديد من المؤسسات الإعلامية ذات التوجه الواحد والفكر الواحد، أصبحت ليبيا تعج بالقنوات والصحف والمواقع الإلكترونية بمختلف مشاربها، فتغيّر المشهد الإعلامي الليبي من وحدوية وسلبية إلى إنفتاح وزخم لم تعرفه ليبيا من قبل، لدرجة أن هناك من ينعت هذا الزخم بالإنفجار الإعلامي، وبالكثرة التي تهدد بضياع الهوية الإعلامية في ليبيا.

تنوع ليبي

في حديثه لـquot;إيلافquot;، يصف الإعلامي والمحلل السياسي الصادق الدهان واقع الاعلام الليبي بالظاهرة الغريبة، قائلًا إن ما ظهر من وسائل إعلامية متعددة quot;أشبة بالورم الذي قد يكون حميدًا وقد يكون خبيثًا، إذ هو إمتداد لحالة الثورة التي تقدم ملاذًا لمن يبحث عن متلقٍquot;. يضيف: quot;هذا الزخم الاعلامي جديد على الليبيين، بعد تحرير ليبيا من قبضة نظام مستبد لم يتح للناس فرصة للتعبير عن آرائهمquot;.
بنظر الدهان، السلطة الرابعة من أخطر الادوات التي اكتشفها الانسان في العصر الحديث، وبالتالي فهي كالمصل لعلاج مرض عضال شرط أن لا تمنح للمريض الخطأ، quot;و من هنا تبدو جدلية الاعلام المجدي وغير المجدي الذي تحتاجه ليبياquot;.
أما المذيع التلفزيوني محمود شركسي فيرى من الطبيعي بعد كل ثورة أو سقوط نظام دكتاتوري ظهور العديد من القنوات والاذاعات، وهو لا يقلق من هذه الطفرة الإعلامية، قائلًا: quot;في النهاية سيكون البقاء للأفضل، لمن يكتسب ثقة المشاهد والمتلقي في ليبياquot;.
يضيف في حديثه لـquot;إيلافquot;: quot;ما يحدث هو تنوع وليس زخمًا، والتنوع أمر طبيعي لأن ليبيا متنوعة الحضارات والافكار، ومن حق كل تيار فكري نشر أفكاره ما دامت صالحةquot;.

غياب عن الحدث

من ناحية أخرى، يرى الدهان أن هناك كثيرين ممن إستغلوا الظرف وأسسوا لأنفسهم قناة إتصال بالناس، منها ما هو مبرمج سلفًا ومنها ما جاء بمحض الصدفة. يقول: quot;الاعلام وسيلة لمخاطبة الجموع، وحتى الآن ما زالت ليبيا تعج بالجموع الدهماء لإفتقار الناس للخبرة السياسية الكافية بسبب غياب التجربة ما يجعلها عرضة للتأثر، ولذلك يحتاج الإعلام في مجمله إلى مسار يمكنه من خدمة الناس، لأنه تعبير عن صراخ أطياف سياسية واجتماعية، بأجندات ومن دون أجنداتquot;.
وفي حديثه عن الجهويات في الإعلام الليبي، يقول شركسي لـquot;إيلافquot;:quot;لا ننسى أننا عشنا فترة طويلة من الفكر الواحد واللون الواحد، والجهوية أمر طبيعي بإعتبار أننا خرجنا من ثورة ومن أتون حرب، والقنوات الجهوية أمر عادي كما في تونس الجنوبية وفي مصرquot;.
ويرى شركسي أن غياب المهنية في وسائل الإعلام المختلفة أنتج نوعًا من التخبط في الرسائل الإعلامية، quot;فهناك من يدعو للمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية بهدف بناء ليبيا الجديدة، وهناك من توجد لديه النية لذلك ولكن ربما يخلط في المسلك بسبب افتقار الكثيرين للمهنيةquot;.
يضيف: quot;نحن كإعلاميين نعاني كثيرًا من ناحية الأخبار، إذ نرى غياب أدوات التواصل وغياب القنواتعن عين الحدث، فيصيبنا الإرباك وبالتالي تتضارب الآراء ويدعي الكل الحقيقة ولكن للحقيقة أكثر من وجهquot;.

لا ثقة ولا قناة رسمية

لا يستطيع الدهان أن يجزم أن الرأي العام الليبي وحدة يمكن القياس بها من حيث الأثر والتأثير، quot;لكن المشهد بشكل عام يوحي بأن هناك رأياً عاماً يجادل الأحداث من خلال وسائل إعلاميةquot;. غير أنه يستبعد أن تكون حركة الشارع الليبي مستوحاة من حركة الاعلام، بغض النظر عن المجموعات القليلة التي تسخر توجهات الاعلام لمصلحتها، فلا يظهر أثر الإعلام في الرأي العام.
أما الوجه الآخر للاعلام الليبي فهو غياب الثقة. يقول الدهان: quot;الثقة غير متبادلة بين الاعلام والشارع، وليس أقل دليل على ذلك هو الخوف الاعلامي من إجهاض إتصاله بالناس، وخوف الناس من هوية الوسائل الاعلامية، لذلك ليس من المنطقي أن نقول إن الاعلام يقود الناس، وليس ممكنًا أن نقول إن الناس يثقون في الاعلامquot;.
يقول شركسي إن في ليبيا اليوم 35 محطة تلفزيونية فضائية ما عدا الاذاعات، بينها 7 فضائيات للمنوعات والبقية للمحادثة والاعلانات ولكل قناة مشاهدون ومن الأمر الطبيعي أن يحصل إختلاف في الرؤى. يضيف: quot;ما يزيد الطين بلة هو غياب التلفزيون الرسمي، الذي ينطق بإسم الدولة ولا يروج لها. فعندما نريد أن نسمع تصريحًا للمؤتمر العام، ليس من الضروري البحث في القنوات الأخرى، فربما كلمة في سياق الخبر تزيد من حدة معناه أو تغيّره، لذلك يجب خلق تلفزيون رسمي ليعلم الليبيون ما يحدث داخل الدولة الليبية وليفهموا من خلاله مواقف المؤتمر والسلطاتquot;.

إنفلات ولا خطوط حمراء

كيف لهذا البركان الإعلامي أن يخدم حرية التعبير في ليبيا؟ يقول الدهان لـquot;إيلافquot; إن من طبيعة البراكين أن تثور ثم تخمد، والاعلام حين يكون بركانًا فإنه ليس إستثناءً عن القاعدة، quot;مع أن بركنة الاعلام الليبي مسألة مبالغ فيها جدًا، والأفضل إستبدال كلمة البركان بكلمة إنفلات إعلامي، وأخشى أن يتحول هذا الانفلات إلى أداة من أدوات الصراع لأنه أشبه بإنتشار السلاح في ليبيا، وقد يتحول في يوم ما مشكلة، بينما كان يجب أن يكون حلاً quot;
ويرى محمود شركسي أن ليبيا شهدت ثورة اعلامية وحرية رأي وفكر أتاحت وجود هذا الزخم أو البركان، الذي سمح للآخرين للتعبير عن رؤاهم والتصريح بأفكارهم. وهو لا ينكر وجود بعض الخطوط التي لا يسمح الإعلام بتخطيها، quot;فلا نتحدث عما يحصل للسجناء وعن العديد من المشاكل التي نحاول أن نبتعد عنها قدر الامكان، ليس خوفًا لكن منعًا من أن تكبر هذه المشاكل، وأنا أؤكد أن لا خطوط حمراء اليوم في ليبياquot;.

محو أمية إعلامية

لا بد من وضع الزخم الإعلامي الحالي في خدمة حرية التعبير في ليبيا. فالدهان يرى أن الصحافة جزء من العملية الإعلامية في ليبيا، وهي ليست ببعيدة من حيث كونها أداة لتوجهات مختلفة.
يضيف: quot;هناك أكثر من 300 صحيفة ليبية اليوم، يقوم عليها ويديرها ويكتب فيها من لا علاقة له بالإعلام، وعليهم محو أميتهم الاعلامية لأن المعرفة الحراكية الثورية لا تكفي للقيام بإعلام حقيقيquot;.
أما شركسي فيرى أن الإعلام في ليبيا أصبح مهنة من لا مهنة له، quot;لأن هناك العديد من الدخلاء على هذه المهنة بحيث تم تغييب المعايير الحقيقية، فغياب نقابة الاعلاميين والصحافيين يتيح دخول الدخلاء وغير أصحاب الإختصاص، فنشاهد على القنوات ونقرأ في الصحف من يمتهنون هذه المهنة للاسترزاق فقط أو بسبب المحسوبية أو القرابةquot;.
يضيف: quot;يفترض وجود نقابة فعلية تضم المهني العامل لا الاعلامي الخامل، فنحن نبحث عن إعلام يكون فيه الاعلامي غير متحامل وغيرمجامل، لأننا نشهد إسفافًا اليوم حتى في كلمة اعلامي بحد ذاتهاquot;.